بقلم الكاتب : أحمد فتحي الجندي
من لحظة إتباعهم لأوامر الحاكم ، كانوا يحملون سيوفاً فولاذية قد سجل الدمُ عليها أسماء الضحايا ، اقتربت المجموعة من جراتيان المتمدد وسط الجُثث ، كانوا يتأكدون من موت الجميع بإضافة طعنة أو اثنتان للجسد وسط ضحكاتهم العالية ، كُلما اقتربوا منه كانت روحه تُنبئه بالخروج القريب من البدن ، أبصر النهاية قريبة فبدأ في الصلاة سراً …
-ها أنا هُنا مرة أخيرة أقدم تضرعي وإخلاصي لكم ، سامحوني علي سوء الحديث ، لم أُشكك البتة فيكُم ولكن من أنا لأفهم طُرقكم لتسيير الأمور ، ها أنا هُنا أطلب المساعدة منكُم ، وإن لم تأتي ليكُن الخلاص ، أنقذني يا زيوس ، أو امنح قلبي السكون.
انتصب أحد الجنود علي يمين جراتيان بوقار قد طغي عليه بفعل موقفه وأستعد بفخر ليجعل من النصل خلاصاً لروحٍ أُخري ، أدرك جراتيان النهاية الحتمية.
انعدم الصوت ، هدوء مُوترٌ للأعصاب ، صوت دقات قلب يُصارع للبقاء علي قيد الحياة ، صوت هجيج نار صادر من المشاعل القريبة ، كان جراتيان قد سلم للموت حين أرتفع صوت من قائدٍ للقوة الكنسية صائحاً من علي ظهر حصانه …
-ماذا تفعلون هُنا ؟
=نتأكد من موت القتلى يا سيدي.
-هنالك المزيد لنقتل بعد ؛ رافقوني الأن.
واندفع بعيداً علي صهوة جواده وتبعه الجنود راكضين ، لم يُصدق جراتيان ما حدث ، ثبت للحظات للتأكد من رحيلهم ، ليقف بعدئذ ويعتزم معاودة العدو في اتجاه البوابة ، قبل أن ينهض من الأرض رأي هدية إلهية مُتجسدة أمامُه في جُثةٍ وحيدة مُلقاة علي الأرض بردائها الكهنوتي المسيحي ، همهم جراتيان في فخر …
-الأن فلتستريحوا في سلامٍ يا أصدقائي ، فسقوط واحدٍ منهُم يعني سقوط الجميع.
انخفض أرضاً بينما كان يحاول أخذ الزي ليرتديه ، فوجئ جراتيان بواسطة بُقعة من الدم قد ظهرت علي أسفل الرداء من اليسار بينما مشي مُبتعداً نحو أسوار المدينة ، ولكن الزي كان أملهُ الوحيد في الهرب ، اندهش جراتيان من قدرة قدميه علي التوقف عن الارتعاش بينما كان يسير في الشوارع ، حاول البقاء علي ثباتُه الانفعالي وإخفاء أثار الدم حينما مر علي يسار فرقة من الجنود الذين قد بادلوه بدورهم نظرات الشك ، ولكن سرعان ما تبدد شكُهم حينما حياهُم بصوتٍ ثابت …
-بارككم الرب يا إخوتي.
فأشاروا له بالمرور مُبتسمين ، وصل لأسوار المدينة ورمقها بنظرةٍ أخيرة ، بدت أسوار الإسكندرية يومئذ كأنها شُيدت لإبقاء السكان بالداخل .. لا لمنع دخول الغُرباء ، نظر جراتيان للصحراء من أمامُه وباشر في الركض خارج الأسوار بدون النظر للوراء ، قال لنفسه في تعجب …
-إن سخرية الزمن لأمر مُشوشٌ بالفعل ، قدمت هارباً وخرجتُ هارباً.
وقف ليلتقط أنفاسه للحظات قبل أن تتخلل خيوطٌ من أشعة الشمس الغيوم السوداء مُنتصرة فالأفق البعيد ساقطةً علي رمال الصحراء في مشهدٍ ذو جلالٍ إلهيٍ ، فابتسم.
…
حلقت المنصة الرخامية بين الغيوم بعيداً فوق أمواج البحر المتوسط المرتفعة ، نقترب بالنظر من المنصة لنري كُلا من الشجرتين وقد ذَبُلت جذورهن وسقطت أوراقهن من فرط الصراع المُستمر لتطير بين السحب في حين انكسار سيقانهُن ليسقُطن في مواجهة بعضهن بعضاً فتظل كُلاً منهن ساجده للأخرى للأبد.