كتب الكاتب والروائي / خالد إسماعيل
فى يوم “3يناير2019″،كنت ضمن المعزين الذين جاءوا من بقاع شتى ،
لتقديم “التعازى ” للصديق “سامح عبدالوهاب الأسوانى ” ، لوفاة والده الأديب الكبير، المحبوب من أهالى قريته “المنصورية” ومن المثقفين الذين قضى عمره بينهم وترك فيهم أثره الطيب ، ..هذه حكايتى مع “العم عبدالوهاب ”
،شيخ العرب ،الذى كتب أجمل المقالات والقصص والروايات ..
فى كل مرة أكتب فيها عن “عبدالوهاب الأسوانى ” ،أجدنى أربط بين سلوكه فى المدينة الكبيرة ” القاهرة” ،وبين “شيخ العرب ” الذى يتولى استضافة الضيف ، وحل المشكلة ،وترضية النفوس ،وجبرالخواطر،والراحل رحمه الله ،عربى من الأنصار، الذين استقبلوا دعوة الإسلام فآووا ونصروا ، واختصهم القرآن الكريم ،فوصفهم بالكرم “ويؤثرون على أنفسهم ولوكان بهم خصاصة” ، أى أنهم يعطون كل محتاج ولو كانوا فى أضيق حال وأحلك الأيام ، وهذه طبيعة “الأنصار” التى ستبقى فيهم حتى يرث الله الأرض ومن عليها
،ومن قبيلة “الخزرج ” انحدرت عائلة الكاتب الراحل “عبدالوهاب الأسوانى ” ، وعاشت فى أسوان ، بالتحديد فى قرية “المنصورية” التابعة إداريا لمركز ” كوم أمبو”،فهو “عبدالوهاب محمد حسن عوض الله ” وأبوه كان يلقبه الناس بصاحب “الشاشين “، وهذا اللقب دال على عظمة الملقب به ، فالشاش الواحد يكفى لستر الرأس ، والشاشان زيادة فى العزة والمهابة بين الناس،وتلك كانت صفات “العم عبدالوهاب” التى حملها معه من “الإسكندرية ” إلى “القاهرة”،
وهوالذى ولد فى “المنصورية ” وقضى شبابه وطفولته فى الاسكندرية ، فى خمسينيات القرن الماضى ، فرآها وهى مدينة تختلط فيها الأعراق ،من أولاد عرب ، وطليان ، وإغريق ، ويوغوسلافيين ، والمدينة ذاتهاهى التى قدمت لمصر،زعيمها الوطنى “جمال عبد الناصر” ، وكان حلم التحرر والاستقلال عن بريطانيا ،هو المسيطر على المصريين ، وهذه الأسباب كلها صاغت عقيدة “العم عبدالوهاب” ، فجعلته من المثقفين الوطنيين المؤمنين بالنهج القومى ، العروبى ، الناصرى الهوى ،ولكن موهبته الأدبية ، ضمنت له سرعة التحقق ، والفوز المبكر بالجوائز، ولم يكن الأمر على هوى الوالد “أبوشاشين “الرجل الذى كانت له تجارة واسعة ، ومكانة أدبية بين أبناء “أسوان ” المقيمين فى الإسكندرية ،ولعل هذا الأب صاحب المكانة الاجتماعية الكبرى ، هو المسئول عن تسريب فكرة “الاعتزاز بالنفس ” والاهتمام بالهيئة والمظهر،إلى نفس ولده “عبدالوهاب ” ،فقد كان رحمه الله هو “المضيف ” دائما ، وهو”العازم ” لكل الأصدقاء ، فى المشارب والمطاعم ، داخل “مصر” وخارجها ،
وكانت صفة “الكرم ” عنده مرتبطة بالقوةوالعزة ، من دون استعراض ، ولا استعلاء ، بل هى قوة الأب وعزة العربى ، وهذا يجعله يشعر بالمسئولية عن راحة وسعادة الآخرين ،وكان “عبدالوهاب الأسوانى ” كريم النفس ،كبير القلب ، وشيخ عرب “خزرجى ” ، يعيش مع ابناء جيل من الأدباء ، فقراء ، وفلاحون ، وكادحون ، فكان سلوكه غريبا عليهم ، ولايفهمونه ، ولايقدرونه ، فهو العربى الكريم ، وهم الفقراء القادمون من بيوت تحصى الأرغفة وتعد البيض وتحسب للزرع ولا تعرف شيئا عن “المقعد” و”الدوار” والمنضرة ” وحشم العرب “، وموهبة “عبدالوهاب الأسوانى ” ، كبيرة ، مدهشة ، محبطة للأنصاف ، لهذا قررهؤلاء الأنصاف أن يستبعدوه ، ونجحوا بدعم من ظروف اجتماعية جعلت ـ الأسوانى ـ يغترب فى المملكة السعودية لسنوات طويلة ، لكن “سلمى الأسوانية ” روايته الأولى كانت باقية فى الوجدان ، وهى الرواية التى فازت بالجائزة الأولى فى المسابقة التى نظمتها وزارة الثقافةالمصرية ، وكانت لجنة التحكيم تضم ” دكتورة سهيرالقلماوى ، الكاتب الكبير يحيى حقى ، دكتورحسين فوزى “وفازت الرواية بالمركز الأول ، وعمدت كاتبها وجعلته كاتبا قوميا ، تجاوز حدود موطنه ليصبح كاتبا معترفا بموهبته فى كل الدائرة العربية ،وتوالت الأعمال الروائية المهمة ، منها ” اللسان المر” التى تحولت لمسلسل تليفزيونى أذيع فى منتصف السبعينيات من القرن الماضى ،وظهرفيه “أحمدزكى ” و”محمد منير” مع النجوم الكبارآنذاك ، وحقق المسلسل نجاحا كبيرا، ومازالت أصداء نجاحه باقية فى قلوب من شاهدوه ،ومنها “النمل الأبيض ” التى صدرت عن “دارالهلال ” وقرأتها بطريق “الإعارة ” من الصديق “سامح عبدالوهاب الأسوانى ” ، وبعدها بسنوات طويلة أعرتها هى ورواية “كرم العنب ” للكاتب الروائى الصعيدى الصديق ” حسين البدرى ” فقرأهما وقال لى :
ـ عبدالوهاب الأسوانى كاتب كبير، كاتب عالمى ..
ولم أندهش لعبارة التمجيد التى نطق بها الكاتب “حسين البدرى ” ، لأننى أعرف مبرراتها ، فالراحل الكبير،كان من قراء التراث العربى ، وقراء الأدب العالمى ، ولديه الرؤية والنظرة إلى العالم ، التى مكنته بالفعل من الظهور والتميز فى زمن “نجيب محفوظ ” و”يحيى حقى ” ، بل إن الكاتبين الرائدين اجتمعا على محبة “الأسوانى ” وكان كل واحد منهما يشيد بموهبته إشادات كبيرة ،وظلت علاقته قوية حميمة بالرجلين حتى لقيا ربهما ، ورغم هذه المكانة لم يلق “الأسوانى ” المحبة الواجبة من أبناء جيله ، ربما بسبب تفوقه المعجز، فهو كاتب لقى الاهتمام النقدى من “فاروق عبدالقادر” و”رجاء النقاش “، وغالبية أبناء جيله ،كانوا يتمنون مقالة موقعة باسم واحد من هذين الناقدين الكبيرين ،وقليل منهم نال هذا الاهتمام ،والغالبية عاشت وماتت بأحقادها الناتجة عن عدم التحقق ، ولكنه عاش ومات رحمه الله “شبعان موهبة” ،و”شبعان من بيتهم” ، وهذا جعله يعيش بشروطه ، فهو موهوب وغيرمجبرعلى التقرب للناقد فلان أو الكاتب علان ، وهو صحفى فى مجلة الإذاعة والتليفزيون ، وأعماله تحولت إلى دراما إذاعية وتايفزيونية منذ وقت مبكر،وهذا جعله محل حسد الأنصاف من أبناء جيله ، ولما اضطرته الظروف للاغتراب ، والعمل فى صحف السعودية ، وجدوا فى اغترابه راحة ما بعدها راحة ، لأن حضوره الجسدى ، وجاذبيته الشخصية ،وموهبته الكبيرة ، كان يشكل ضغطا على أعصابهم ،ونفوسهم الخربة،ورغم الاغتراب ، قرأت له “أخبارالدراويش ” وكنت أيامها طالبا جامعيا ، وصاحب النسخة هو الزميل “الكاتب الصحفى محمود مطر” وكان يزاملنى فى قسم الصحافة وفى السكن الجامعى ، وقرأت له “شال من القطيفة الصفراء” ، وهى مجموعة قصص بديعة اللغة والأسلوب ، تصور الحياة فى “المنصورية ” ، وقرأت له “كرم العنب ” الرواية البديعة التى احتوت خلاصة خبراته الكتابية ، فكانت رواية كبيرة ،تكفى وحدها لأن تجعل صاحبها كاتبا كبيرا ،ورغم أننى لم أتمكن من قراءة روايته الأخيرة”امبراطورية حمدان “،إلا أننى قرأت كل ما كتبه الأديب الكبير رحمه الله ،والفضل فى ذلك يرجع إلى الصديق “سامح عبدالوهاب الأسوانى ” ،الصحفى المتميز،والإنسان الكبير القلب ، أعارنى أعمال والده فقرأتها وتعلمت منها وعرفت كاتبها على المستوى الإنسانى ، وكانت ليلةقراءتى “سلمى الأسوانية ” ليلة مختلفة فى كل شىء، ومازالت تفاصيلهاباقيةفى وجدانى ، بدأت قراءتها فى “متروحلوان ” ، ولم أنم إلا بعد أن انتهيت من قراءتها ، وكنت من المحظوظين بالاقتراب من “العم عبدالوهاب ” ، وأسعدنى زمانى فلقيت من كرم الرجل الكثير، فهو الوحيد من أبناء جيله الذى قدمنى بمقال كتبه عن روايتى “عقد الحزون ” التى صدرت طبعتها الأولى فى العام 1999، وحمل المقال عنوان “مولدروائى جديد” ونشرته جريدة “العربى الناصرى ” ، وكان لهذا المقال فعل السحر، ومن آثاره ،اهتمام الوسط الأدبى بخطابى الروائى فيما بعد، وهذا جميل لاأنساه ، وكنت من الذين طعموا وشربوا فى بيته رحمه الله ، وطوال سنوات اقتربت منه فوجدته كريما عطوفا على كل صاحب موهبة ، وصادقا فى انطباعاته ودروسه ، والفضل يرجع إلى نشأته وعظمة قدرموهبته التى جعلته فياضا بالمحبة على كل من يعمل معه أويقترب منه
،رحمة الله عليه.