حوار أ. مدني قصري مع الشاعر الكبير أ . أحمد الشهاوي
أغضب الأزهر لأنه وظّف القرآن في صياغة شعره
” أحمد الشهاوي” : الوصايا في عشق النساء” يكشف جنسًا أدبيًا مهجورًا
“أحمد الشهاوي” شاعر مغامر، في عصر صار فيه “الشعراء هم آخر المغامرين في هذا العصر” كما قال أحد الأدباء الفرنسيين المعاصرين. أصدر مؤخراً “لسان النار” ومن قبله “وصايا(ه) في عشق النساء”، بمفردات لا يفقه دلالاتها إلا من تفاعل بكيميائها. أحمد الشهاوي، بحكم صوفيته الفطرية، يتقن في مختبر شعره السحري تحويلَ معادن الحروف والكلمات العادية المألوفة إلى درر ولآلىء ثمينة تتزيّن بها من شاءت من النساء. فهي تستحيل في قلم أحمد الشهاوي إلى ما يدعوه الخيميائيون بحجر الفلاسفة، أو إن شئنا “أكسير الحياة” يهبه الشاعر لمن شاء – أو شاءت – أن يكتشف أسرار الكلمات وكنوز المعاني.
كتابات الشهاوي كتابات أثارت حماساً وجدلاً، وأنفق فيها النقاد حبراً طائلا. كان أحمد الشهاوي من نجوم المهرجان الشعري الثاني في عمان، تلا الكثير من قصائد الديوان “المغضوب عليه”، ومن ديوانه الأخير “لسان النار” الذي لا يقل عن سابقه حمّى وناراً! على هامش المهرجان التقت “الدستور” الشاعرَ المصري أحمد الشهاوي لتغوص في أعماقه وأعماق كلماته.
* “الوصايا في عشق النساء” كتاب أثار ضجيجاً وعجيجاً. ما جريمتك فيه؟
– في شهر تشرين أول المقبل سيظهر الجزء الثاني من ” الوصايا في عشق النساء” الذي حاول الأزهر مصادرة جزئه الأول، والذي لم يفرَج عنه إلا بفضل تدخل وزير الثقافة السيد فاروق حسني. الكتاب الثاني يتضمن 250 وصية، وكان الكتاب الأول يتكون من 254 وصية وصدر في يناير 2003 وطبعت منه طبعةٌ شعبية في 25 ألف نسخة. أما الطبعة الرسمية التي صدرت عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة فقد طبعت أكثر من مرة، وللأسف أنها طبعة ممنوعة في كثير من البلدان العربية. في الكتاب الثاني سأقدّم نحو ثلاثين مدخلاً من القرآن والسنة وما تركه الصحابه وزوجات الرسول رضي الله عنهن، والفقهاء والثقاة حول نظر الإسلام للعلاقة الجنسية المشروعة بين الزوج وزوجته. وأعتقد أنني في كتابي الثاني قد قدمت تجربة مكمّلة للكتاب الأول، لكنها تختلف فنياً وجمالياً وبنائياً عن الكتاب السابق.
* لكن لماذا لجأت إلى الإعلام بدلاً من اللجوء إلى القضاء في الدفاع عن نفسك؟
– لأن الأزهر ليس جهة مصادرة. فهو يلحّ فقط على الجهات المعنية بالمصادرة ولكنه لا يملك حق المصادرة. فشيخ الأزهر رجل يعيَّن من قبل رئيس الدولة. ولولا تدخل وزير الثقافة المصري السيد فاروق حسني وتدخل مؤسسة الرئاسة المصرية في محنة “وصايا في عشق النساء” لكانت قضيتي أخذت أبعاداً أخطر. فالطبعة الشعبية من كتابي تندرج في مشروع “كتاب الأسرة” الذي تشرف عليه حرم الرئيس المصري السيدة سوزان مبارك، فكان على المؤسسة أن تدافع عن أحد من كتبها التي تبنته ووافقت على نشره وتوزيعه. وقد كان موقف الوزير فاروق حسني شجاعاً حين رفض الاعتذار لشيخ الأزهر عن إصدار وزارة الثقافة لهذا الكتاب في طبعة شعبية. وكما هو معروف فقد واجهتُ علماءَ على شاشات الفضائيات العربية، ولم أخش أحداً ولم أحذف سطراً واحداً من كتابي ولن أحذف.
* هل ظل للرقابة دور في عصر الأنترنت الذي صار وسيلة مجانية للتوزيع والنشر والترويج؟
– أولاً كلما مارستْ جهاتٌ معينة التلويح بمصادرة كتاب فهي في الحقيقة تساهم في الترويج للكتاب وزيادة توزيعه. فقد كان حرياً بالأزهر بدلاً من أن يكفّر الكاتب أن يرد عليه بالحجة والإقناع. ومصر شهدت كتباً عديدة كانت تصدر بعنوان “لماذا أنا ملحد؟” – مثلا – فيرَدَ عليها بـ”لماذا أنا مسلم؟” دونما تكفير أو اتهام أحد بالمروق والزندقة والخروج عن الدين. أيعقل أن تعقد المؤسسة الدينية مؤتمراً قبل عامين لتناقش “هل يجوز للأديب أن يوظف القرآن والأحاديث” بينما هناك منذ القرن الثالث الهجري أكثر من 100 كتاب تناولت توظيف القرآن الكريم، أشهرها كتاب الثعالبي في جزئيه، وقد أعيد طبعه أكثر من مرة. وقد أرسلتُ إلى شيخ الأزهر قائمةً بالكتب التي تبيح للشاعر والأديب على مدى العصور الإسلامية المختلفة استفادتَه من القرآن والسنة. وسيفاجأ شيخ الأزهر بما عثرتُ عليه في التراث العربي والإسلامي، سواء أكان مقدساً أو بشرياً. وإني لأطلب من شيخ الأزهر ألا يتشنج أو يتعصب أو يمارس سلطته الرسمية في الإقصاء والنفي والمصادرة، وأن يتثبت مما ذكرته في الكتاب، وهو من مظان أساسية ومصادر معروفة. فالكتاب كتاب إشكالي كتِب عنه آلاف المرات بالسلب وبالإيجاب، وأظن أنني استفدت كثيراً من كل وجهات النظر التي تناولت الكتاب نقديا. ولم أستثمر محنة كتابي لأنني اعتبرها ضجيجاً فارغاً، وكان من المفروض أن يُقرأ كتابي قراءة أدبية وليس دينية كما حدث.
ولا أملك إلا أن أتساءل في حيرة: أين الأزهر من كتبي السابقة “ركعتان للعشق” و”الأحاديث” (الأول والثاني) و”قل هي”. فأنا لم أغيّر طريقة كتابتي. “الوصايا في عشق النساء” هي امتداد لوصف القرآن والمقدس بشكل عام.
* ما هي دوافعك في توظيف الآيات القرآنية في صياغة الشعر، وشعر المرأة تحديداً؟
– إني أكتبُ ما أعرف. وأنا ابن القرآن والأحاديث القدسية والنبوية. وأبي الذي مات في 1975 كان عالِما أزهرياً، وتكوّنتُ تكويناً دينياً، ولست وحيداً في أسرتي الذي تكوَّن هذا التكوين، لكن الأسرة جميعاً كذلك. ثم في فترة مبكرة صرتُ واحداً من أصحاب الطريق الصوفي حيث انخرطتُ في طريقة الشاذلية ومنها ذهبتُ إلى التصوف الإشراقي. وقد اتصلتُ بالتراث العربي والإسلامي، وأظن أنني من أكثر الشعراء اتصالاً بتراثهم الشعري والصوفي. فكتابتي وتوظيفي لِما أعرفُ سواء أكان مقدساً أو تراثياً أو صوفياً هو أمرٌ طبيعي وليس لَصْقاً بالنص الذي أكتب. وأنا أندهش لبعض الكتّاب الذين يتساءلون لماذا يذهب أحمد الشهاوي إلى القرآن والسنة موظفاً كليهما في تجربته، وكأن القرآن والحديث ليسا مصدرين أساسيين، ليس فقط على المستوى الديني، ولكن على المستوى الروحي والفكري والجمالي واللغوي سواء بسواء. فمثلما أذهب إلى الثقافات الأخرى فمن المحتّم عليّ أن أذهب إلى تراثي الذي تستند روحي إليه. والتعابير القرآنية من فرط استخدامها صارت تتواشج وتتداخل مع كلام العامة لأنني لا أفضل مسلّما عن كتابي الأول وهو القرآن لأنه أينما ذهبت… في المدرسة أو في الجامعة أو في الشارع. فالنصوص الإسلامية المقدسة مرشدي ودليلي وكتابي الأساسي. أنا لا أتعمّد توظيف شيء من المقدس لأنني بدأتُ مبكراً الكتابةَ بهذا الشكل في الوقت الذي كان يلجأ فيه زملائي ومازالوا، إلى التراث الغربي، ينهالون منه أو يستفيدون من منجزه. وأنا أجمع بين أكثر من تراث إنساني في كتابتي. وبحكم ترجمة نصوصي إلى لغات عديدة صرت أعرف أن ما يميز الشاعر العربي عندما يُنْقَلُ إلى لغة أخرى هو تقاليد كتابته التي تتجلى فيها البيئة واللغة والمعيش والدين والأعراف والميثولوجيا. إذا لم يتكئ الشاعرُ العربي على روحه العربية والاسلامية فسيصبح نصّه عندما يترجَم بضاعةً رُدَّتْ إلى أصحابها، وهُمُ الغرب.
– كتابك “الوصايا في عشق النساء” ما الذي أضافه إلى الأدب؟
– أظن أن كتاب “الوصايا في عشق النساء” حاول أن يكشف جنساً أدبياً مهجوراً ومتروكاً درسناه في المدارس والجامعات، لكن لم نرَ أديباً جاء ليطوّر هذا الجنس، وظل منسياً نعْبُر عليه عندما نقرأ حول الأشكال الأدبية العربية، ولم أجد كتاباً عربيا يقنّن للوصية كفنٍّ أدبي، أو أجد كتاباً استفاد من الوصية وتعامل معها كجنس أو كشكل. الوصية موجودة في كتب الأسلاف بشكل متناثر ومتفرق مثلما هو موجود أيضاً في القرآن والأحاديث النبوية والأحاديث القدسية. أما فيما يتعلق بالوصية إلى المرأة فلم أجد إلا وصايا محدودة أشهرها وصية الأم لابنتها قبل الزواج، ثم وصايا “حبَّى” ( شق النساء) وهي وصايا إيروتيكية محضة، أتى على ذكرها الجاحظ وآخرون أيضاً. وأظن أنها لو جُمِعَتْ في كتيّب لفزع شيخ الأزهر وقضّ مضجعُه لفرط ما كان المسلمون الأوائل يكتبون ويفكرون. محاولاتي في هذا الكتاب، وغيره، هو العثور على أشكالٍ قديمة جديدة من التراث العربي أعجنها في روحي، ثم تخرج في نصوص حديثة. وقد فعلتُ ذلك من قبلُ مع الحديث النبوي والحديث القدسي كشكلٍ وكبناءٍ، واستخدمتُ المَسْبَحَة كتقنية في الكتابة…المسبحة بشكليها ( 33 حبة و99 حبة ) وشكل الحكمة في كتابي الذي سيصدر قريباً بعنوان “كتّان الآلهة” وهو ألف كلمة كتبتها في عام 2003، أي أنني أواصل الحفر في التراث الذي ليس كله قديماً، لأصلَ صوتي بنار الجديد الذي أعيشه. وعلى الشاعر أن يبحث طوال الوقت في تراثه لا أن يذهب إلى الآخر ليقطف عِنَبَه الناضج الجاهز للأكل، والمنجز من قبل روح وعقلية أخرى. وهذا لا يعني أنني أرفض أيّ جديد يأتيني من هذا الآخر بل عليَّ أن أحاوره وأقدّم مغامرتي أنا كعربي على مستوى الشكل واللغة.
– قال شاعر فرنسي معاصر “الشعراء هم آخر مغامري هذا العصر” فهل أنت واحد منهم؟
– الذي لا يغامر يموت. والمغامرة سؤال وبحث واستقصاء، وليس تقديم إجابات جاهزة ومنجزة. والذي يمشي في الطريق الممهد لن يصل إلى شيء جديد ما دام قد مهد هذا الطريق آخرون قبلنا. علينا أن نحفر طرقاً أخرى ونقدّم إضافاتنا لما هو حي منجز، وألا ننظر للقديم على أنه صار مستهلكاً ولا منفعة فيه، لأن القديم كان جديداً في وقته وما زال يحمل في روحه جديداً. فالسهروردي، وأبو تمام، والمتنبي، وابن الفارض، وجلال الدين الرومي، وآخرون كثيرون ربما هم أكثر حداثةً في الكتابة من بعضٍ من جيلي أو من الشعراء الذين يكتبون الآن. يؤسفني أن أقول إن مبدعين غربيين كباراً قد أسسوا حداثتهم في الكتابة على المنجز الصوفي العربي والإسلامي الذي ينظر بعضنا أو كثيرنا إليه على أنه موضة قديمة، أو ليس فيه جديد. اللغة مغامرة، والشكل أيضاً مغامرة. وكلٌّ يحمل مغامرة في روحه، والروح التي لا تغامر يأسن ماؤها حتماً !
– إشكالية التأنيث والتذكير في لغتنا العربية ما رأيك فيها ؟ القمر مثلا رمز للأنوثة وهو مذكر في لغتنا على عكس لغات عالمية كثيرة. والشمس رمز الفحولة مؤنثة في لغتنا…
– أنا أؤمن بما قاله محيي الدين ابن عربي “ما لا يؤنَّث لا يعوَّل عليه”. وأنا أعوّل على ما هو مؤنث داخلي، سواء أكان مكاني أم زماني أم لغتي أم بيتي أم أشيائي الصغيرة. والشاعر يؤنث دائما موجوداته، لأن ما يؤنَّث يكون قريباً للروح والتلقي، ويفتح طرقاً مخبوءة تهتكها هذه اللغة، وكأن اللغة الذكورية ضد الشعر. وقد استخدمت مفردات كثيرة تحتمل التذكير والتأنيث معاً. ولكنني أغلّب الصفة الأنثوية عليها عند الإستخدام بشكل تلقائي ومعنوي، بعيداً عن التقصد والتعمد، لأن كل ذكر في داخله سمات أنثوية، مثلما كل امرأة في داخلها سمات ذكورية. وأراني دائماً أبحث عن نصفي المفقود منذ جئت إلى هذا الكون. وما هو مفقود مني هو الذي أكتبه. وهذا الجزء المشطور هو بالضرورة إمرأتي الأبدية التي أسعى إلى الاتحاد بها، وإلى كتابتها عبر إشراقاتي وتجلياتي. وأظنني قد حاولت الوصول إلى حد ما في “الوصايا في عشق النساء” لمعرفة أسرار وكنوز النساء.
– ديوانك الأخير “لسان النار” الجديد فيه عودتك إلى الوزن…
– أنا شاعر وزن بالأساس، أجد روحي في الوزن. أتجلى عندما أسبح في بحور الشعر. ومحاولاتي السابقة، وزْنيةً كانت أو مزاوجة بين الوزن وأشكال إيقاعية أخرى من الكتابة، قادتني إلى “لسان النار” الذي هو ديوان موزون من ألفه إلى يائه، في وقت لا يُعْتَـدُّ فيه بالوزن، وصار فيه الشاعر صاحب القصيدة الموزونة قديماً وتقليدياً ومن طراز مندثر. وأراني أقول إن الوزن طاقة كبرى تحتاج إلى شاعر ليفجّرها. والعيب ليس في الوزن أو في الشعر، إنما العيب في الشاعر نفسه. فإذا ما كانت هناك روح شاعرة فإنها تستطيع أن تحمل الوزن كما يحمل الماء الأشياء على ظهره، فإنها ستجدد وتقدم نصوصاً مغايرة ومختلفة، مضيفة إلى الشعر إسهاماً لافتاً. والشعر العربي، من الجاهلية إلى الآن، غنيٌ بتعدده وتنوعه واختلافه. فهناك شعريات عربية كثيرة وليس شعرية واحدة. فقصيدة النثر أو أي شكل آخر ليست نهاية المطاف تجاه الكتابة الشعرية. إلا أن الشاعر قادر على تكرار أشكال جديدة، أي أن الشكل مفتوح والنوع مفتوح للإضافة والتجديد. وقد اندهش كثيرون لأنني عدت إلى الوزن، وقد داعبني الشاعر محمود درويش قائلا:”صاير تكتب بالوزن..صاير مرتد…!”، وهو من أكبر الشعراء الذين يكرهون الشاعر الذي يكتب بالوزن، حينما يقدّم للجمهور، سواء كان في الإلقاء أو الكتابة النقدية بـ “شاعر التفعيلة”. فالوزن لن ينقرض والشاعر الحق يستطيع أن يقدّم تجاربَ نوعية ويفتح أقواساً جديدة لأشكال مختلفة من الكتابة. وأظن أنّ “لسان النار” هو أكثر كتابٍ شعري عرضته على زملائي النقاد والشعراء والروائيين، وهم أصدقاء مقرّبون لي، وطلبت منهم إبداء الملاحظات السلبية فقط على الديوان. وبدأت أمارس عادتي في الحذف، وأنا عادةً لا أضيف إلى كتابتي شيئاً، بل أراني أحذف طول الوقت، وأظن أن الكتابة بالحذف هي سمة تقنية عربية بامتياز منذ أن كان الشاعر العربي يكتب حولياته حيث يظل حولاً كاملاً يشحذ ويهذب قصيدته ويعيد النظر فيها إلى أن يرضى، مقتنعاً بصورته النهائية. وهناك مثالان، الشاعر الأميركي ت.س.أليوت، صاحب “الأرض اليباب” عندما حذف ثلثي القصيدة، وهي التي صارت بعد ذلك أشهر وأهم قصيدة في القرن العشرين. ثم ما كان يفعله صلاح عبد الصبور مع زملائه عز الدين إسماعيل، وعبد الرحمن فهمي، وفاروق خورشيد، وأحمد كمال زكي، حيث قرأوا كل كلمة شعرية أو مسرحية كتبها، وأبدوا آراءهم في نصوصه قبل أن تنشر. بينما الشاعر الآن يرى نفسه إلهاً، وأن كتابته مقدسة ينبغي أن لا تمسّ، ولا يعرض نصوصه على أحد. وأنا عادةً أستفيد من آراء المقربين مني، وهذه الطريقة تجعلني حراً بالكتابة بالحذف.
* ما تأثير أمك التي أهديتها ديوانك الأخير “لسان النار” عليك وعلى إبداعك؟
– منذ عملي الأول “ركعتان للعشق” الذي صدر العام 1988 وحتى “لسان النار” الذي صدر العام 2005 وأنا أهدي أعمالي إلى نوال عيسى دون أن أشير صراحة إلى أنها أمي. هي رحلت العام 1965 في سن الخامسة والعشرين، وكنت وقتذاك دون الخامسة، وما زلت أذكر يوم رحيلها وطقوس الموت التي ترافق امرأة شابة في قرية مصرية تقع على شمال السماء، اسمها “كفر المياسرة”، يحيطها النيل من جهات ثلاث. رحيلها المبكر كان صدمة كبيرة للعائلة وفقداً مبكراً لي. وأظنني منذ تلك اللحظة وأنا أعيش فقداً دائماً على المستوى الروحي والنفسي. وقد تجلى ذلك في كتاباتي الشعرية حين صرت وكأنني لا أستطيع الكتابة إلا إذا كنت في حال الفقد. وكثيرون لا يعرفون أن نوال عيسى هي أمي، لأنني أتعامل معها باعتبارها امرأة أبدية، أحبها وأعشقها وأسعى للوصول إليها. وكل النساء اللواتي عرفتهن دخلن في صورتها وامتزجن بها. هي امرأة ظلمت برحيلها، تركت خمسة أطفال أصغرهم كان عمره وقتذاك عاماً واحداً. وماتت مجهولة فأردت أن يعرفها كل من قرأ شعري. لكن الأساس هو وفاء دائم لأمٍّ لم أعش معها كما يعيش الأطفال. وهذا الرحيل المبكر جعلني أقترب أكثر من المرأة، بل أتعامل معها بشكل أكثر حميمية واقتراباً. وأظن أن نوال عيسى قد ساعدتني على أن أتعرف إلى المرأة بشكل أكثر عمقاً، محاولاً كشف مخبوئها، وسبر أغوارها السرية. وما “الوصايا في عشق النساء” إلا محاولة تجلٍّ لهذا الاقتراب.
– هل ذكر اسم المرأة عورة في الشعر؟
– الشعراء والكتّاب يخجلون من ذكر أسماء أمهاتهم أو زوجاتهم. فعندما يهدون أعمالهم يكتبون “إلى أمي”، أو “إلى زوجتي”. ولا أنسى أن أخي الأكبر محمد قد غضب كثيراً عندما ذكرت اسم أمي صراحة في أول كتاب لي، بينما جدتي “عطرشان” (أي عطر الشمس) كانت فرحة جداً بعدما رأت اسم ابنتها تتقدم كتابي “ركعتان للعشق”. وأنا اليوم فرح لأن تغييراً حدث في السنوات الأخيرة عند بعض الشعراء الذين ذكروا أسماء أمهاتهم بشكل صريح دون وجل أو خجل، ودون تقيّد بالأعراف والتقاليد. وأظن أن هذه الظاهرة ستنتشر أكثر، لأن العرب قديماً كانوا يذكرون أسماء أمهاتهم بكل فخر واعتزاز، بل رأينا أعلاماً من الشعراء ينتمون إلى أمهاتهم إسماً، وكان ذلك يمثل ظاهرة أيضاً في ذلك الوقت. ولا أتصور أن شاعراً عربياً الآن يسعى إلى المغايرة والتجديد، مقترباً إلى أفق الحداثة الأخرى، يخشى ذكر اسم أمه في مجرد إهداءٍ يبدأ به كتابه. هنا التناقض الشديد بين تخلف المرجعية الدينية والاجتماعية، وبين السعي نحو أفق الحداثة، ومن ثم نجد أنفسنا أمام نص شعري مشوّش لا ينفتح إلا على نفسه، وينظر إلى العالم من ثقب مغلق. وهذا التناقض يعيشه الشاعر العربي بامتياز، بين سعيٍ إلى التحقق الشعري، وانجرارٍ إلى الخوف من الأعراف والتقاليد التي تأسر صورته ومشهده حتى أمام نفسه. أظن أن رحيل أمي وأبي المبكر قد جعلني منذ طفولتي مسؤولاً عن سلوكي، ومنحني حرية غير محدودة في التفكير والنظر إلى العالم.
– هل هو الخوف من المرأة الكامن في أعماق كل رجل كما يقول علماء التحليل النفسي؟
– لا أظن أن العربي في تعامله مع المرأة يصل إلى نهاية النهاية خوفاً من هزيمته أو من هجرانه. حتى الشاعر – للأسف- يتعرف إلى المرأة ويقترب منها كي يمنح نفسه نصاً جديداً يضاف إلى منجزه الكتابي. بمعنى أن العلاقة نفعية. فالمرأة فيها وسيلةٌ إلى غاية..هي الكتابة. وإذا تأملتَ النصوص الشعرية الغزلية، أو التي تتوجه بخطابها إلى الأنثى تجدها نصوصاً غير مكتملة، وغير ناضجة روحياً ونفسياً، قبل نضجها الفني أيضاً، لأنها قامت على التوهّم والكذب. هذا لا يعني أنني أنفي التوهّم في شعري، ولكنني أؤسس لعلاقةٍ متوازنة متواشجة بين الشعر وبين امرأتي بحيث تبقى هذه العلاقة وجودياً قبل أن تتحقق في النص الشعري، لأن النص يستمد أفقه المفتوح من شكل العلاقة بين الشاعر وأنثاه. وبعملية حسابية بسيطة ستسقط نصوصٌ شعرية عربية كتبِت خلال الخمسين عاماً الأخيرة، تأسست على الهشاشة والكذب. وأنا لا أقتنع بأن الشاعر يكرس حياته فقط للمرأة كأنها هي التي تقيم وجوده الشعري، ولا يمكن لكتابته أن تتأسس إلا في حضن المرأة، مستبعداً عوالمه الداخلية والباطنية، وكأن الإشراق لا يأتي إلا إذا كانت هناك امرأة في حياة الشاعر. فالشعر أكبر من الشاعر والمرأة. بالطبع لا أنكر أن هناك شعراء كباراً أحببتهم قد لعبت المرأة دوراً مهمّاً في حياتهم، مثل بابلو نيرودا، بينما هناك شاعر أحبه أيضاً هو قسطنطين كافافيس، كان شخصاً مثليّا، أي شاذاً جنسياً. فنحن هنا أمام شاعرين كبيرين نقيضين أثّرا شعرياً على المستوى العالمي، أحدهما كانت المرأة أحد مصادره، والآخر لم يتعرف إليها قط. وأنا تأخذ المرأةُ حيزاً كبيراً في نصي، لكنني لا أعوّل عليها بأن تكون كتاب حياتي، رغم أن ابن عربي يقول كما ذكرنا في السابق “ما لايؤنَّث لا يعوّل عليه”. لكنه في حال اقتراب الشاعر من الأنثى لا يعني أن يتفرغ هذا الشاعر ليؤسس عالمه على جسد المرأة وروحها وحدهما.
– وماذا عن الرجل في شعر المرأة؟
– أغلب الشاعرات العربيات تشي نصوصهن – وهي كثيرة – بأن لا أفق في مداهنّ سوى الرجل، إلا من رحمت نفسها، وهن قليلات ونادرات. ولذلك من الصعب أن تعدَّ خمسَ شاعرات مهمّات على مستوى العالم العربي.
فهن يكتبن عن تجاربهن الخاصة التي تتكرر في حياتهن، ومن ثم يأتي النص الشعري عندهن مكروراً ومعاداً لا يحتفي إلا بالظاهر من الأشياء، غير راءٍ إلى العالم والوجود. فالنساء يكتبن طلاقهن أو انفصالهن أو هجرانهن، أو علاقتهن الغرامية التي لا تتعدد مثل الشعراء. فالشعر الكبير عند الشاعرات العربيات قليل. ومقارنةً بشاعرات مماثلات لهن يعشن في الغرب أو في آسيا. كما أن المجتمع العربي ينظر إلى الشاعرة العربية على أنها مارقة وخارجة على الأعراف. ولهذا السبب تنتشر ظاهرة الكتابة بأسماء مستعارة في دول الخليج، وهي ظاهرة ليست استثناءً. كما أننا نجد عشرات الشاعرات العربيات ينشرن أعمالهن في كتب ولا نرى صورهنّ أبداً في الصحافة، أو على أغلفة كتبهنّ، كما أن هذه الصور لا تظهر في وسائل الإعلام المرئية، ولا يخرج صوتها عبر إذاعة مثلاً. فكيف إذاً نطلب نصًّا كبيراً منهن وهنّ يعشن مشكلاتهن الشخصية ومشكلة المجتمع الأبوي الذكوري المعقد والمركب؟ وقد وُئِدَتْ شاعراتٌ كثيرات لأنهن تجرّأن ونشرن صورهنّ فحُرِمْنَ من الكتابة، وأحرقت أعمالهن المخطوطة. بل إن شاعرةً عربية أعرفها كان أبوها يحرق أصابعها اليمنى بالنار يومياً حتى لا تكتب! ولذلك توارت مع تعدد الحرق وانخلعت تماماً من الحركة الشعرية. إن الشعر يحتاج لأن يتنفس كاتبه بحرية شديدة.
ورأيي أن الرواية العربية التي تكتبها المرأة وصلت إلى مرحلة من النضج تفوق كثيراً النتاج الشعري الذي كتبته شاعرات مجايلات للروائيات، لأن الروائية تستطيع أن تكتب بحرية وتمارس بَوْحها مختفية خلف شخوصها، مستخدمة أشكالاً عديدة في الكتابة لا تتوفر لزميلتها الشاعرة التي لا تعرف سوى البوح العاطفي السيال. ومن ثم يُنْظَر إلى كل قصيدة تكتبها الشاعرة بمثابة سيرتها الشخصية. ولا أنفي أيضاً أن التهمة تلاحق الروائيات خصوصاً عندما تكون هناك شخصية روائية تمارس العشق فينظر إليها باعتبارها صاحبة الرواية. ويقال إنها سيرة روائية لكاتبتها. يعني ذلك أن المرأة الشاعرة والمرأة الروائية محاصرة حتى من النقاد وزملائها من الشعراء والروائيين الذين أراهم أكثر تخلفاً ربما من الأباء الذين يحجبون قمر الكتابة ويؤدون نسلها.
نقل عن (جريدة الدستور الأردنية) التي قامت بنشره منذ عدة سنوات