كتب الكاتب أ . أشرف البولاقي :
الصدفةُ والحب وحدَهما قاداني خلال الشهرين الأخيرين – أبريل ومايو – أن أعكف على ستة كتب كاملة، كتبها اثنان لا يجمع بينهما للوهلة الأولى شيء، وربما يبدو الربط بينهما غيرَ دالٍ ولا موحٍ عند الكثيرين. فما الذي يمكن أن يجمع بين المولود في القرن التاسع عشر 1863 والمولود في القرن العشرين 1969؟ وكيف يتبدّى وجه الشبه بين “قاسم أمين” الذي عمل في النيابة والقضاء، وأحمد الجعفري الذي عمل في وزارة الثقافة؟
ربما يبدو وجه الشبه بين الرجليْن في الصدفة التي جَمعت رحيلَ أحدهما في شهر، ومولدَ الآخر في الشهر الذي يليه، وفي الخطر الذي يمثله كل منهما في الفكر والثقافة، وإنْ كان أحدهما قد نال ما نال من شهرة، وبدا الآخرُ بخيلا، أو كالبخيل في طرح أفكاره وتصوراته الخاصة عن الحياة والمجتمع، والدين والمصير. ففي شهر أبريل الماضي مرت ذكرى قاسم أمين بعد أكثر من مائة عام على رحيله، والذي يعتبَر واحدًا مِن أهم رموز حركة الإصلاح الاجتماعي في مصر، دون أي احتفالٍ أو إشارةٍ لذكراه، وهو الأمر الذي دأبت عليه الثقافة المصرية منذ زمنٍ بعيد، وليس صحيحًا أن مصر في شُغلٍ الآن عن الاحتفال برموزها ومفكريها ومصلحيها بسبب الثورة والانتخابات، بل ربما تكون الثورة والانتخابات سببًا رئيسيًا ودافعًا مهمًا للاحتفال بروّاد النهضة في مصر والعالم العربي. ولن أشير إلى تقصير وزارة الثقافة وهيئاتها ومؤسساتها المتعددة؛ فحسْبها ما هي فيه من عذابات تغيير وزير الثقافة كل شهر أو شهرين، لكننا على الأقل كنا نظن أن التليفزيون المصري يمكن أن يستثمر الفرصة والتاريخ فيعيد علينا عرض مسلسل “قاسم أمين”، لكنه لم يفعلها، بل ولم تفعلها أي قناةٍ فضائية من تلك القنوات التي تَخصصت في عرض المسلسلات صباحًا ومساء. لكن أيًا منها لم يلتفت لهذا المسلسل الذي تم عرضه للمرة الأولى في أوائل الألفية الثانية، عن قصة وسيناريو وحوار الأستاذ محمد السيد عيد، ومِن إخراج الأستاذة إنعام محمد علي.
وفي شهر مايو مرت علينا ذكرى الاحتفال بمرور خمسين عامًا على مولد أحمد الجعفري الذي لن يحتفل به أحد – ليس فقط لأنه لم يمُت بعد – غير أهلِه وحبيباته وعدد قليل من أصدقائه. ومِن المستحيل بالطبع أن نطالب وزارة الثقافة بالاحتفال بالجعفري، وحسْبنا أن نعلم أنه تركها غير آسفٍ عليها! وإذا كان لقاسم أمين ثلاثة كتب فقط، “المصريون – تحرير المرأة – المرأة الجديدة”، لا تتفق مع خطرِه ومكانته، فإنّ لأحمد الجعفري عددًا قليلا أيضًا من الكتب أو المطبوعات لا تتفق مع موهبته الفنية والإبداعية، “متاهات الذي غنّى – العنادي – ليلة وحُمّص أخضر – الرهَبَة”. ومشكلة الكاتبيْن عندي أنه كان يمكن استثمار فرصة الاحتفال بهما، كلٌ في مجاله، لولا ما استقر في وعي المصريين المهتمين بالشأن الفكري والثقافي من خطلٍ وخطأ في تصوراتهم عن الرجليْن، ويكفي أن نعلم أن قاسم أمين هو داعي الفسق والفجور وسفور المرأة وخروجها للعمل! وهو صاحب دعوى حرية العُري للمرأة (هكذا) ! ليس عند العامة أو الدهماء، بل عند قطاعٍ عريض من المتعلمين!
والمفاجأة أن أكثر مَن يعتقدون في هذا لم يقرؤوا حرفًا واحدًا من كتابيه الشهيرين، وإنما اكتفوا جميعًا بسماع خُطَب الأئمة والشيوخ ومواعظهم. وأكثرُ الناسِ تواضعًا في فهْم الرجل يقولون إنه دعا لخلع حجاب المرأة .. رغم أن الحقيقة غير ذلك تمامًا، لكن أحدًا لا يريد أن يقرأ ولا يريد أن يفهم … يقول قاسم أمين نصًا في كتابه تحرير المرأة: “ربما يتوهم ناظر أنني أرى رفعَ الحجاب بالمرة، لكن الحقيقة غير ذلك، فإني لا أزال أدافع عن الحجاب، وأعتبره أصلا من أصول الآداب التي يلزم التمسك بها، غير أني أطلب أن يكون منطبقًا على ما جاء في الشريعة الإسلامية”. فمِن أين أتى هؤلاء بمزاعم السفور وخلع الحجاب؟ حتى التعليم والخروج للعمل لا نعرف مِن أين استقى المغرضون دعاواهم ضد الرجل؟ وكتابه بين أيدينا، ننظر فيه نصًا حيث يقول: “المرأة محتاجة إلى التعليم لتكون إنسانًا يَعقِل ويريد، وإنني أطلب الآن ولا أتردد في الطلب أن توجد هذه المساواة في التعليم الابتدائي على الأقل”. فالرجل لم يطالب بالتعليم الكامل للمرأة، بل بالحد الأدنى وهو التعليم الابتدائي فقط، كما لم يطالب بأن تشتغل المرأة بالحياة العامة، بل أن تعمل فقط في البيت بذكاءٍ، حسْب نص كلامِه!
أمّا موقفه من الإسلام فهو لا يحتاج إلى دفاعٍ ولا تبرير ما دام يقول نصًا: “لو كان لدين ما سلطةٌ وتأثير على العوائد، لكانت المرأة المسلِمة في مقدمة نساء الأرض؛ لأن الإسلام سَبق كل شريعة سواه في تقرير مساواة المرأة للرجل”. مِن أين جاءت كل تلك الاتهامات التي طالت قاسم أمين ودعوته للإصلاح في مصر؟ جاءت من موقفه وهو يتكلم عن تعدد الزوجات وعن الطلاق، خاصةً وأن الفترة التاريخية التي ظهر فيها كان الرجل هو “سي السيد” قولاً وفعلاً، وكل ما طالب به قاسم أمين وقتَها هو ما يشغل مفكرينا وفقهاءنا المعاصرين حتى الآن، ولننظر إليه وهو يقول معتبرًا تعدد الزوجات “احتقارًا شديدًا للمرأة؛ لأنك لا تجد امرأة ترضى أن تشاركها في زوجها امرأةٌ أخرى، كما أنك لا تجد رجلا يقبَل أن يشاركه غيره في محبة امرأتِه، وهذا النوع من الاختصاص طبيعي للمرأة، كما أنه طبيعي للرجل”.
وقولٌ كهذا يعتبَر في تلك الفترة من القرن التاسع عشر افتئاتًا على حقوق الرجال الذين يرون في التعدد، بسببٍ وبغير سبب، حقًا إلهيًا لهم. أمّا في الطلاق فلم يُرِد قاسم أمين أكثر من تقنينه ووضع القواعد له ليجعله يتم في أضيق الحدود وفي الحالات الضرورية فقط، يقول: “لا أن يُفهَم الطلاق كما فهمه الفقهاء وصرحوا به في كتبهم، من أنه هو التلفظ بحروف ط. ل. ا. ق”. واقترحَ مواد أربع: أن يقع الطلاق أمام القاضي الشرعي، وأن تتم محاولات لإثناء الزوجين عن الانفصال، وأن يتم إذا لم توفق المحاولات في رأب الصدع أمام المحكمة ورضا الطرفين دون خسائرَ لأحدهما، وبوثائقَ رسمية. وكانت هذه المطالب أو الاقتراحات كفيلةً بصدور قرار جمعي بتشويه قاسم أمين حتى يومنا هذا!
أمّا أحمد الجعفري، فكانت جريمته الكبرى أن شاءت المقادير أن يعمل في وزارة الثقافة، ليس في هيئةٍ ولا مؤسسة تابعة لها، ولكِن في ديوانها الرئيسي، بل في مكتب الوزير نفسِه! وفي ظل السمعة السيئة التي طالت – وما تزال – تطال وزارة الثقافة عند المصريين، ومع اختزال وتقليص دورها في الرقص والطبل، كان مِن الطبيعي أن يعمل ذوو العلاقات المرتبطة والمتشابكة مع الوزارة على تشويه كل العاملين فيها، خاصةً هؤلاء المَرضى الذين تقف الوزارة وهيئاتها ضد تحقيق مصالحهم الشخصية والضيقة، فكيف يكون الرد؟ يكون دائمًا بالنيْل مِن الوزير نفسِه، ومِن العاملين معه! فضاع في خِضم كل ذلك أحمد الجعفري الشاعر، والمسرحي، والقاص والروائي، والمثقف، كما ضاع من قبل قاسم أمين المحامي، والقاضي الشرعي، ليبقى فقط الداعي للفسق والفجور والسفور! وليبقى الجعفري الموظف بوزارة الثقافة.
سافر قاسم أمين بعد تخرّجه إلى أوروبا، ودرس في فرنسا، ثم عاد مختلفًا تمامًا في فكره وفي ثقافته، وإذا كان – رحمه الله – في كتابه الأول “تحرير المرأة” – قد اعتمد في طرح قضاياه على الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فضلا عن المذاهب الفقهية، فإنه اعتمد في كتابه الثاني “المرأة الجديدة” على مبادئ الفكر الأوروبي، وعلى فكرة الديمقراطية والمساواة.
كما سافر أحمد الجعفري إلى أوروبا، وكانت إسبانيا أولى محطاتِه سنة 1997 ثم اشتد غرامُه بفرنسا أيضًا بعد ذلك، ولا يكاد يمر عام دون أن تكون دولةٌ أوروبية على أجندة زياراته، ومَن عَرَف أحمد الجعفري بعد زياراته لأوروبا يعرف الفرق جيدًا في الفكر وفي الوعي والثقافة، وفي محاولاته الدائمة والمستمرة في تضفير العلاقة الحضارية والإنسانية بين موروثه الشرقي والإسلامي منه بالتحديد وبين الثقافة الأوروبية التي يحرص على أن ينهل منها عبْر زياراته لمتاحفها وقصورها ومزاراتها التاريخية والثقافية. والذين يجلسون فقط مع أحمد الجعفري ليستمعوا إليه يدركون حجم ما يتمتع به من حريةٍ في الفكر، ومن قدرةٍ على التقاط المدهش والغرائبي والأسطوري، واضعًا إياه كحقيقةٍ مستقرة وملموسة، كما أن مَن يتأمل تجربتَه في الكتابة الإبداعية لن يشك لحظةً واحدة في أنه مبدِع مع حرصه الشديد على كتابة القصيدة والقصة والمسرحية والرواية دون أن يقع أسيرًا في شَرَك “الشاعر” فقط، ولا في أسْر “القاص” وحدَه، ولا حتى “المسرحي”، وكأنه يريد أن يثبت أن صفة المبدع هي القدرة على الكتابة في أي فن أو في أي مجال.
آثرَ قاسم أمين أن يكتفي بكتابيْه الشهيرين عن المرأة ليملأ الدنيا صخبًا وضجيجًا ما يزالان مشتعليْن حتى يومِنا هذا، وآثَر أحمد الجعفري أن يكتفي بكتبه الأربعة ليملأ الوسط الثقافي المصري صخبًا وضجيجًا أيضًا حول تجربته في العمل بوزارة الثقافة، دون أن يلتفت أحد إلى مشروعه الفني والإبداعي، مؤْثِرا هو نفسُه العزلةَ، مكتفيا بالرصد والالتقاط كعادته …
رحِمَ الله قاسم أمين، وأطال في عُمر الجعفري الذي يحتفل هذه الأيام بعيد ميلاده بين أهله وأصدقائه وحبيباته فقط!