الشاعر والناقد “أحمد حسن عوض ” يكتب : على مائدة صلاح عبد الصبور
بمناسبة مرور 40 عاما على رحيل الشاعر الكبير الذى توفى فى 14 أغسطس 1981.
ها قد مرت السنوات سريعا وتبقت أيام معدودة على الذكرى الأربعين لرحيل شاعر العربية الكبير صلاح عبدالصبور الذى مازال حتى لحظتنا الراهنة يرتقى أعالى قمم الوعى الحداثى المنضبط، ومازال- برغم مرور السنوات- رحما ولودا قادرا على أن يمتد بأبنائه المبدعين إلى آفاق المستقبل البعيد لأنه استطاع بوعيه الإبداعى الفائق وكتاباته النقدية الثرية وقصيدته المثقفة العميقة ومسرحه الشعرى العالمى وترجماته الأدبية الرصينة أن يتجذر بعمق فى لحظته الراهنة المنطوية على التمثل الخلاق للموروث العربى والعالمى فى آن، والمطلة بجسارة واثبة وتنبؤ مستبصر، على مشهد الشعر فى حراكه الراهن، وكأنى به الآن ينظر بإعجاب إلى النجباء من أسلافه الشعراء الذين استثمروا الجماليات التى كان رائدا لها ومبشرا بها ويراقب تحولاتها الشعرية مبتهجا وهو الحزين الذى لم يعرف السعادة إلا فى محراب إبداعه الليلى حين كان يقول :
أنا مصلوب والحب صليبى.
وحملت عن الناس الأحزان
…
لم يسلم لى من سعيى الخاسر إلا الشعر
كلمات الشعر
عاشت لتهدهدنى
لأفر إليها من صخب الأيام المضنى
إن تجف فجفوة إدلال لا إذلال
أو تحن فيا فرحى غرد
يا نعمة أيامى عودى
لقد أثمرت قصيدة صلاح عبدالصبور برؤاها الإبداعية المتجددة وعمقها الجمالى اللافت، وازدهرت تجلياتها الأسلوببة وتقنياتها الحداثية فى مشهد الشعر الراهن، فرأينا أنماطا من الشعريات التى كان قد أصل لها تنظيرا أو إبداعا مثل شعرية التفاصيل المشهدية ومفارقات اليومى والمعيش، وشعرية السرد وشعرية التشكيل البصري، والانضباط المعمارى، وقصيدة الأصوات المتعددة والنزعة الدرامية، وقصيدة الشعر التى تتحدث عن الشعر، وقصيدة القناع والرمز، وقصيدة التنويعات على تيمة واحدة أو تساؤل محدد، وقصيدة الفن التشكيلي، وتقنيات الحلم والفانتازيا والعبث، وتوظيف التراث العربى شخوصا وأحداثا ومقولات، واستلهام الأسطورة بوعى فنى محدث لا يتابع تفصيلاتها بقدر ما يستلهم حركيتها ويستخرج موتيفاتها الدالة القادرة على التفاعل مع رؤى العصر ومؤثراته الفكرية وتجاربه الإبداعية، والالتحام بنسيج القصيدة فى الوقت ذاته.
لقد كان لعبدالصبور تأثيره الممتد على الأجيال اللاحقة له فى مشهد الشعر المصرى- وربما العربى- وإن اختلفت نسب التأثر وزوايا النظر وطرق التناول وأنماط الحوار الإبداعى معه، لكنها -على أية حال- تؤكد أنه شاعر قل أن يفلت أحد من حبائله، ويرجع ذلك- فى تقديرى- لأصالته الإبداعية وانفتاحه على مذاهب الشعر العالمي، والتراث الشعرى العربى إلى جانب ثقافته المتسعة وفكره النافذ وحاسته المرهفة ووعيه النقدى بفلسفة أشكال الإبداع وقدرته على التأمل الجمالى فى أساليب الكتابة الحديثة؛ إذ كان يردد “إن الشعراء هم أصحاب تجربة الشعر الذين يضعون لها القوانين ويسنون لها الشرائع”.
وكان فى الوقت ذاته يحترم المتلقى ويشفق عليه من القصائد الموغلة فى غموضها الملغز قائلا : “فإذا كنت أنا لا أستطيع أن أفهم فماذا يفعل القارئ المحب؟ هو مجرد قارئ محب ويريد أن يدخل هذا العالم فماذا يصنع؟ لا أدري. لكن هناك جوا ما من الشعوذة وإطلاق ضباب الكلمات”.
كانت عبقرية صلاح عبد الصبور فى بساطته العميقة الممتدة كبساط سحرى إلى قرائه المحبين الذين كان يناجيبهم فى عذوبته المعهودة:
“إلىَّ إلىَّ، يا غرباء، يا فقراء يا مرضى
كسيرى القلب والأعضاء قد أنزلت مائدتى
إلىَّ إلىَّ،
لنطعم كسرة من حكمة الأجيال مغموسة بطيش زماننا الممراح”
حقا لم تزل قصائدك- يا صلاح- موائد عامرة بالإبداع الأصيل،
متأبية على النفاد الجمالى
كأنها حسناء تنتظر عاشقها كل مساء بجمال متجدد.