حين بدأتُ بقراءة مجموعة”كوفيد الصغير”للكاتبة المغربية لطيفة لبصير،جذَبتني هذه الجملة”هذا الفيروس الذي صنعه الإنس بمعية الجن”وشعرت كما لو أنها “مانفستو”للأيام التي نعيشها، وربما لأيامٍ كثيرةٍ قادمة،تذكرت أنني أقرأ هذه القصص المتفردة ونحن ما زلنا تحت رحمة “دلتا”الفتاة الطائشة التي أَنجبها كوفيد الصغير،والذي سيصير وحشاً عملاقاً كلما توغلنا داخل القصص ،وهذا يعني أن الوباء حين كان يفرك يديه كي ينقض على الآلاف ، كانت الكاتبة توثق بحكاياتها الأليفة و المتوحشة في آن واحد بشجاعةٍ سرديةٍ هائلة غير آبهةٍ بالتغيير المستمر للأحداث و الأخبار عن هذا الوباء المرعب،ظلت تؤرخ سردياً بقدرتها المعهودة الواثقة والهادئة على تحويل الآني المتداول إلى تحفة فنية،تلك رباطةُ جأشٍ نادراً ما تحدث..
تَتتابع المحكيات مُجدفةً في خليج الغموض و الإثارة التي أَشهرها “كوفيد الصغير”في وجه العلماء و الأخصائيين و الأطباء،متسلحةً بقناعة راسخة مفادها أن هذا العالم من دون الخيال،مجرد مجرة تائهة.
في بداية الجائحة،عبرت حكاية “حساء الخفاش “الذي يقال إنه السبب في ظهور الوباء في العالم بأسره.تداول الجميع قصة تلك الوليمة المحرمة بكل سخرية و يقين وحتى بالغضب العارم، وليمةٌ فردية حَرمت الجميع من الحرية و الأمان،أين اختفت ؟هل يتذكرها أحد الآن؟لقد تم سريعا الإنتقال إلى “تراند جديد”.
ورغم أن الحقائق حول هذا الوباء ظلت تتغير تحت أقدامنا باستمرار، حتى إن كوفيد نفسه ظهر لنا في مائة وجه، لم تتردد الكاتبة في قصتها”أجنحة الخفاش” بخفة بلاغية استثنائية، إثارة حكاية حساء الخفاش الشهيرة التي تراكمت فوقها حكايات كثيرة، كمن يفتش عن حقيقة ضائعة في قعر صندوق، و تحت هذا القصف المتواصل للأخبار و الأخطار المحيطة بنا كبشر، أَتخيلُ الكاتبةَ وأنا أقرأ “كوفيد الصغير”وقد وضعتْ كمامة، وعقمت يديها جيداًوبدأتْ في تأريخٍ فنيٍ سرديٍ لهذا الوباء.
لأن الكتابة ستظل على الدوام فِعل “مقاومة”، بالإمكان اعتبار المجموعة القصصية”كوفيد الصغير”نوعاً من الوقوف في وجه هذا العالم القاتم،حيث تظهر فيه هذه القصص مثل ضوءٍ في نهاية النفق،قصصٌ ينز منها الأمل نحو القارئ.
برعت الكاتبة في القفز على الفوضى والغموض العارم الذي يحكم العالم تحت الوباء،لتجعل من سردياتها المحكمة و المفعمة بالكثير من الإلتماعات الفنية،تأريخاً جمالياً ضد وباء النسيان الذي يَطبع عصر “التراند”الذي نعيشه.
منحتني قصص”كوفيد الصغير” الكثير من السلوى و العزاء،فتحَت عيني على الحقيقة التي نحب أن ندير لها ظهورنا دائماً،تلك التي قررنا سلفاً ألا نبصرها،فالعمى كما يقول “ساراماغو”ليس مرضاً،بل هو حالة،حالة البشر الذين يرفضون الإعتراف بالحقيقة،حقيقةِ أن الإنسان هو الوباء الذي أصاب الأرض.
بعد كل ما حدث أثناء هذا الوباء، وما سيحدث، هناك ما ستنساه سريعاً، وأمور كثيرة ستظل عالقة حتما في ذاكرة الكثيرين. تتموقع قصص “كوفيد الصغير” في موضعٍ آمنٍ من التكرار و الابتذال، كل قارئ سيجد “بروفايله” الوبائي الخاص به من خلال الشخوص داخل حكاياتٍ تَبدأ من الواقع و ترتفع عنه و تجد طريقها داخل مملكة الخيال المدهشة.. الخيالُ الذي تقبض الكاتبة بزمامه بحنكةٍ ودربة. تمسك بيد القارئ و تأخذه نحو اكتشاف غير آمنِ العواقب، قد تتعرف على نفسك داخل حكايات “لطيفة لبصير” ، قد تُسر لنفسك قائلا : هذا أنا خلال الوباء، هكذا كنت أتصرف، شخصاً كثير التعقيم لا تغادر الكمامة وجهه، أو قد يجد المشككون في الوباء و التلقيح والمؤمنون بالمؤامرة العالمية لإبادة البشر أنفسهم يتجولون في ممرات و دهاليز هذه القصص، و كما في أعمالٍ كثيرة تناولت الوباء ثيمة أساسية مثل رواية “الطاعون “لألبير كامو ، و “حرب الكلب الثانية” لابراهيم صنع الله و غيرها، فالقارئ يجد نفسه في عزلة وجهاً لوجه مع صورته القاتمة وحقيقته التي لن يهرب منها و لا قدرة له على إنكارها ،وفي قصص لطيفة لبصير نلقى حقيقتنا الجماعية و نحن نكدس السلع بالجملة في عربة التسوق غير آبهين بالآخرين، تبزغ نرجسية الكائن البشري التي لا تحتمل، الكائن البشري الوحيد المرعوب الذي يشترك مع باقي البشر في نفس المصير ، يُسحَل دون رحمة تحت وطأة العجز و المجهول، لا يستطيع مقاومة غريزة البقاء مهما جعلته يبدو وحشياً و أنانياً.