لن أنساه أبداً، ذلك الشخص الذي كان يسير في شارعنا كل مساء، ينظر إلى السماء محركاً شفتاه بكلمات لم أستطع تفسيرها طيلة وقت طويل. كنت في حيرة من تفسيرات أصدقائي الثلاثة حول ما كان يقوله الرجل، هل هو «مجنون» فعلاً كما أخبرني صديقي الذي يكبرني بأعوام خمسة، أم هو «جني» مثلما قال لي جارٍ اشتهرت والدته بدق الزار، أم هو مجرد بائس يقول: «يارب أموت في حادثة»، برواية صديقي الأقرب.
لن أنساه أبداً، صاحب الجلباب الممزق المتسخ، والوجه الطويل الضاحك، والرأس الكبيرة بفعل مرض «كروموسومي» نادر، والذي كان يسير مع أم ريفية بوشم أسفل الذقن، فيرمقني بنظرة تتبعها ابتسامة طويلة تحاشيتها حتى يكف عن زيارتي ليلاً، متسلقاً مخدتي مكرراً ابتسامته. كانت زيارته مستمرة في طفولتي، ربما بشكل شبه يومي، كنت أفزع من نومي صارخاً باكياً، يسألني الجميع، لا أستطيع أن أرد.
ومع كل زيارة، صار الفزع أقل، حتى صار الرجل الضحوك صديقاً في عالم الليل. أما في النهار فكان موعد مروره اليومي واحدًا، وفي نفس خط السير. وبمرور الزمن، كانت ضحكته تختفي شيئاً فشيئاً، وكان وجهه ووجه أمه يذبلان، ربما أتعبهما المرض، أو السير لمدد طويل كما هو الواضح، مع سوء تغذية ظاهر. في مرة، شاهدتهما يسيران متكئين على بعضهما البعض، وكأن الواحد لا يستطيع أن يسير من دون الآخر. أدركت أن لا أحداً فيهما سيموت قبل الثاني. لكن زمناً قليلا كفيل بأن يبلعهما بقسوته، فلم أعرف إن صدق توقعي، أم أن أحدهما قرر معاقبة الآخر فمات قبله.
لن أنسى هذا الصوت اليومي الذي كان يزور شباكنا في الفجر. أستيقظ ومعي جدتي فتقول: «نام يا بني.. دي القطط بتلعب في المنور». كان الصوت وكأنه شخص يقرع «شيش الشباك» بنغمات أستطيع أن أتذكرها جيداً حتى الآن، نغمات تشبه الدق على طبول الزار. تبدأ بطيئة الحركة، ثم تتسارع أكثر فأكثر، ويتبعها لحظات من الصمت، ولكن ما كان يريحيني أن لا صوتاً بشرياً هنا. لا صرخات ولا أصوات غير طبيعية. أغفو، فيعود الصوت من جديد.
حاولت أن أرسم مشهد القطط العابثة بـ«الشيش»، ولكنني فشلت. كنت أشاهد فقط رجلاً أو مجموعة من الرجال أو الأطفال يقرعون الشباك، فقط لمجرد أن أعيش في هذا الرعب، الذي ينتهي مع أول أضواء السماء. هنا فقط تكف القطط عن اللعب في رواية جدتي، ويذهب القارعون إلى أماكنهم في روايتي. هنا فقط أستطيع النوم لساعات قليلة.
لن أنساه صوت الجار الصارخ ليلاً بفعل آلام مرض الربو. لن أنساه الصوت الآتي من أقصى الشارع لامرأة تصرخ من الوحدة: «حرامي.. حرامي»، ولكن الجميع يعرف أن لا مكان هنا للصوص، بل لأشخاص يعرفون مكيدة سيدة أتعبتها الجدران المتحركة نحوها. في أيام مكيدتها الأولى، كان يهرع إليها الناس، فتأتنس بهم وتحكي حكايات طريفة، ومع مرور الوقت، عرف الناس اللعبة، وصارت تأتنس بصرخاتها المتقطعة. في يوم، لم أستيقظ فجراً على صوت الصراخ، وكان الأصدقاء ينتظرونني صباحاً للسير إلى المدرسة الثانوية، وجدت سيارة إسعاف أمام منزلها، وأشخاص يعلنون بأعينهم بأن السيدة الصارخة ماتت.
لن أنسى شكل الطلاسم المكتوبة بالأحمر على «عمل» وجدته إحدى قريباتي أسفل «سرير» بالبيت. لن أنسى زيارة السيدة السمراء التي تربط عائلتي بها «صلة معرفة»، فكانت تتكلم أحياناً بلهجة سودانية واضحة، فأسأل جدتي عن السبب، فتخبرني بأن «البربري راكبها». لن أنسى تلك اليد العابثة التي خرجت من حائط قريب لتمسك رأسي من دون معرفة السبب حتى الآن. لن أنسى هذا الطفل الذي كان يسكن أسفل مكتبي الخشبي البسيط، فكان يُفزعني في أيام، ويسليني في أيام أخرى. لن أنسى الاختفاءات الغريبة لأشياء محببة في المنزل، كنت دائماً ما أجدها في أماكن أخرى خارجه، فأضحك.
تاريخ الخوف دائماً ما يبدأ بخوف، ثم يتبدل الحال، ويختفي الخوف، ليتحول إلى أُلفة وونس قد ينتهي بابتسامة تشبه ابتسامة هذا الرجل الضاحك ذي الوجه الطويل والرأس المتضخمة، وقد ينتهي أيضاً بنظرة إلى السماء وكلمات غير معروفة، ومختلف عليها في روايات الأصدقاء، فقط أتمنى ألا تنتهي بصرخات تشبه صرخات السيدة المتألمة من الوحدة.