كتبت ميسون زيدان الجبوري :
تكاد أعمال الفنان العراقي الايطالي جبر علوان تقتصر على رسم البورتريه لكن ليس الذهاب إلى الوجه أو الصورة مباشرة وليس بدءا من خطوط الملامح بل عبر إخفاء الشكل التقليدي والطبيعي باتباع طرق التفافية وملتوية وخطط عمل متعددة يتحايل من خلالها على نفسه وعلى المشاهد فهو أولا يقصي شخص اللوحة إلى داخلها وعمقها بحيث يصبح الوجه وهو المادة الأساسية للبورتيه بعيدا ولا يمكن التركيز على تفاصيله وهويته الذاتية ويصبح حجمه أو مساحته مأسوية للأجزاء الأخرى من الجسد وهكذا يمكن القول إن ما يرسمه علوان هو بورتريه للجسد ،لقامة شخص اللوحة كلها وكانه واقفا أمام المرآة أو متهالكا على سرير أو نصف مستلق على كنبة.
فكرة البورتريه تأتي من احتلال شخص واحد للوحة رجلا كان أو امرأة .الطموح الأول هو التعبير عن شخص ورسمه بإخفاء حضوره الذاتي أو إخفائه كان الرسم يؤكد جانبه اللامرئي أيضا. كأنه رسم ومحو في نفس الوقت يحضر الشخص في اللوحة بشكل معاكس للحضور العادي . انه موجود كبطل اللوحة لكنه ،تقريبا، غير مرئي أو لايمكن التأكد من هويته وضربات اللون تذيب ملامحه ونهايات ثيابه وأطراف أعضائه وتخلطها ببريق أو انطفاء اللون ذاته . يتحول إنسان اللوحة قرينا مصنوعا من مزاج الرسام وألوانه . انه يخفف من ثقله التشخيصي الجسدي لصالح كاريزما حضوره النفسي والروحي.
يركز علوان على إيحاءات هذه الروح لكي يغطي بها على الحضور الجسدي الفظ والمباشر ،فالرجل والمرأة في لوحة الكنبة الحمراء هما مجرد تعب شخصين مستسلمين لشيء غامض في داخلهما والملامح غامضة والإيحاء قادم من مكان غائر وعميق، لكنه ينتشر في فضاء اللوحة كوردة ترسل عطرها ببطء. انه يجردهما من معظم التفاصيل الخارجية ،ويعوض عن ذلك بكثافة حضورهما الداخلي . ويمكن ملاحظة التأويل نفسه في أعمال أخرى مثل ‘لون الموسيقى’ التي يتصدرها عازف كمان حزين ومستوحد ، لكن العنوان لايصف العازف بل العزف نفسه . جبر علوان يحاول ان يرسم الموسيقى لا الكمان . والأرجح ان هذا يعزز فكرة تجريد الشخص أو محو حضوره الخارجي وإظهار انكساره وحزنه الداخلي. وهناك ايضا لوحة ‘ عبد الله’ وهو إحدى شخصيات مسرحية طقوس الإشارات والتحولات للراحل سعد الله ونوس ونلاحظ من خلالها ان الرسام اخترع الشخصية اختراعا حين نقلها من الورق إلى اللوحة ولم يكن يحتاج لمحو أجزاء من هويته ككائن مسرحي لا يملك في الأساس حضورا جسديا.
جبر علوان بهذا المعنى يرسم بورتريهات للأرواح والأخيلة . وأسلوبه في التجريد ما هو إلا وسيلة لإبراز فراغ الأجساد ووحشتها وكابتها . وفي الواقع فان أول ما يواجه الناظر للوحاته هو أفكار أشخاص اللوحات وحيواتهم الداخليه الكثيفة. هناك دوما جرح غامض وسري في أحشاء اللوحة تتسرب منه أرواح معذبة .يرشح منه أحيانا فرح قليل مؤجل أو وحشة شاسعة ومستديمة . إننا أمام أشخاص مجردين من شخصياتهم ،متروكين ومهملين ومهجورين في فضاء اللوحة الشاسع.
في أعمال جبر علوان تحضر الواقعية دون اثر وغياب التجريب رغم حضوره الكثيف. هناك شيئا من ماتيس في غزارة الألوان وغناها وكميات الضوء والظلال الهائلة حتى في المساحات الصغيرة المجهرية. الأرجح أن أسلوبية جبر القائمة على تفريغ التشخيص من وظيفته ،من دون الانحياز إلى تيارات التجريد ،نجد تفسيرها في تلك الازدواجية الواضحة كما يقول الناقد البلجيكي كولي’ فهو مخلص لغنى شرقه الذي يجعله يعيش ويتحسس جمال غربنا الذي يغنيه’ وهذا على الأرجح ،وصف يليق بنيرة جبر التشكيلية التي يحتفظ بموادها وعجائنها وخاماتها في مخيلته الشرقية وروحه العراقية بينما يواصل حياته في ايطاليا . وربما تمكن مقارنة وجوده المنقسم مع بشر لوحاته الذين تتنازعهم وساوس الانتماء وهواجس الاغتراب ‘وهو بالمناسبة عنوان إحدى لوحاته’ ويضاف إلى ذلك القامات الفارعة والممشوقة للأجساد التي يرسمه . من هنا نستطيع أن نتفهم مغزى ما قاله الروائي السعودي الراحل عبد الرحمن منيف في أن ألوانه تفجرت من ‘فوهة سرية كخلاصة للذاكرة والرغبة’ .ووصف صاحب “مدن الملح” تجربة موسيقي الالوان بقوله : أن “هذا التشكيلي لا ينوي مغادرة طفولته، لذا تأتي لوحاته كناية عن تراث بابلي من الشعر والملحمة والموسيقى والبناء، وصولاً إلى الحالات القصوى من الحزن والخوف والعنف والبكاء والهذيان ورغبة الخلود، وقد تتجاوز ذلك إلى سؤال الطفولة البريء والشائك”.