الأمّ: يـــا مُحمد.. بسرعة.. الله يخليك..
مُحمد : حاضر.. حاضر.
الأم: مش تتأخر
محمّد: حاضِر والله
يَاسمين في الشّرفة تنــادي..: ماما.. ماما.. الأحْباب وصَلوا..
الأمّ : طَارق…. استقبل الأحبَاب علَى الباب..
يتقدم الشيخ عِمران الحضُور بــوقَار.. فيقابِله طارق، مُصافِحا الشَّيخ ، يحتضن يديْه بين كفَّيه، يُسارع إلى تقْبيلها.. ينزعها الشيخ بسُرعة.. ويقتَرب منه ليسئله هامسًا: جَاهزين..؟!
اؤمأ طَارق برأسه قائلا: نعم .. يا مولانا جَاهْــزين.. الحَمد لله.
دلف الشَّيخ عِمران إلى غُــرفة “الصَّالون” حيْث فَــرغت مِن الكَراسي وفُرِشت الأرضُ بسجَّادة كبِيرة ووزعت مراتب إسفنج على شكل مربّع.. جلس الشيخ عِمران أولا ثم تبعه الأحباب واحداً تلو الآخر.. سبقَهم في الجُلوس الشيخ “سعيد” المقرئ بمسجد “أحمد البدوي” بزيه المميّز القفطان الكحْلي والعِمامة البيضاء مع الطُّربوش الأحمر والشال النّحاسي بنقُوشه الزرقاء.. وتبعه كل من الأستاذ “ناجي ” مدرس أول رياضيات.. وعم “يسري “الميكانيكي.. و”فؤاد” الطالب الجامعي.. والأسطي ” ميمي” سوّاق النقل.. والسيد “شاكر” مدير عام الضَّرائب ببذلته الأنيقة وساعته ذات السلسة الذهبية.. كان لفيفًا غريبَ المشَارب لا تستطيع أن تتخيَّل أن يجتمعوا سويًّا في مكانٍ آخر إلا فِــي “الحَضْرة”..!
شيء ما يقلّب أفئدتهم إلى وجهه واحدة.
جلس الشّيخ عِمران في منْتصف الغُــرفة وتنحْنح ثم قال:
أيّها السَّادة الأحبَاب.. اليَــوم نجْتمع في بيت المرحوم الشيخ “فؤاد المصري”.. وهو واحِد من الأحبَاب له أفضَال كثيرة في مجَال الدَّعوة..
الشيخ “فؤاد المصري” أعرفُه منذ عشْرين عاما عنْدما جَاء من العِــراق.. وانضمَّ للطَّريقَـة… ومنذُ ذلِك الوقْت وله بَــركة فِي كلِّ “حضْرة” يشَارك فِيهَا..
نُــريد اليَوم أن نحْيي ذكْــراه.. في بيتِه ووسَط عائلته وأولاده..
يا طَارق.. يا مُحمد.. يا عمْرو.. تفضَّلوا معنا..
كنت أحَاول تجَاهل نِــداءات أمِّي المتكرِّرة.. لكن إصرارها وطرْق “محمد “لباب غُــرفتي أجبَرني علَى الاسْتجابَة بامْتثال الحضُور في معيَّــة الأحبَاب..
بدأ الشَّيْــخ عمْــران.. بقِـــراءة جُـزء يسيرٍ من ( يس).. ثم نفثَ في كفَّيه ومسَح على وجهه.. وطلب من الشيخ “سعيد” أن يبدأ “الحضرة”.. فقام “طارق” بتخفيفِّ أضواء الغرفة..
وبدأ الحضُور في التمتَمة.. حيّ.. قيّوم.. حيّ.. قيّــوم.. حي.. قيّــوم…حيّ.. قيّــوم.. حيّ.. قيّــوم.. حيّ.. قيّــوم…!
وانطلق الشَّيخ سعيد بصَوته الرَّخيم.. بتردِيد:
وكان قلبي خالياً قبل حبِّكم وكان بذكر الخلق يلْهو ويمزحُ
والحضور يرتِّلون بتتَابع منتَظم.. حيّ.. قيّوم… حيّ.. قيّوم… حيّ.. قيّوم..
ثمّ يعلُو صوْت الشَّيخ “سعيد” بالصّدح بآبيَات الحبِّ الإلَهي:
فلما دعا قلبي هواك أجابه فلستُ أراه عن فنانك يبرحُ
رُميت ببينِ منك إن كنت كاذباً إذا كُنت في الدنيا بغيرك أفرح
بدأ الحضور “يسكرون” بالذِّكر الإلهي والأصْوات تتوالى برتَابة.. حيّ… قيّوم.. حيّ.. قيّوم… حيّ… قيّوم.
قام الشّيخ عِمران من مجْلسه ، ووقَف مع وقوفِه كلُّ الأحبَاب.. وأصْبح صدْحُهم أعلَى.. وأسرَع.. حيّ.. قيّوم.. حيّ.. قيّوم…
وبات ضَوء الغُرفة الخَافت يهتزّ مع قوّة أصْواتهم وصوتُ الشَّيخ سعِيد يكسِر رتَابة المَوقِف.. بصوتِه الجلّي:
وإن كان شيءٌ في البلاد بأسرها إذا غبت عن عيني بعيني يلمحُ
فإن شئت صِلني وإن شئت لا تصل فلستُ أرى قلبي لغيرك يصلحُ
وقفْت معهُم وأنا أتأمَّل حركاتِهم و تمايلَهم مع الذِّكر والتسبيح… وهم يبْتهلون بأصْواتهم قُــربا وتبتُّلا إلى الله.. كان صوْت كفِّ الشِّيخ عِمران وهو يصفِّق مُحدثا نوعًا من الإيقَاع يُــورث الحَماسَة في صَوت الأحبَاب فترتفِع أصْواتهم أكثَر مع علُّــو تصفِيقه بشكْل تدريجي ، وفجأة… صمت الجَميع للثوان ، ثمَّ بدأ صَوت الشّيخ عمْران يهمس خافتا سبّوح قدّوس.. سبّوح قدّوس.. سبّوح قدّوس.. وبدأ الحضور يتشاركون معه التَّسبيح ،ومع كلِّ مرة يعلو الصوت ويشتد بشكل تدْريجي.. سبّوح.. قدّوس.. سبّوح.. قدّوس.. سبّوح.. قدّوس .. بدأ الأحْباب يَميلون بأجسَادهم إلى الأمَام وإلى الخلف، وفي كلّ مرّة تشتدُّ حركتهِم انفعالا ويعلُو صوتهُم صدْحا وأنا أواكب حركَاتهم.. مُستدعيا ذاكِــرتي، عندما كنت اجاور ابي في الحضرة وعمري لم يتجاوز السنوات العشر. كان يغفل عنى في حضرة الذكر فإمسك بجلابيته وهو يتمايل.. مُغمضا عينيْه، وصوت الشّيخ “سعيد ّيصدح في الغرفة.. شادياً..
.. كانت دُّموعه تترقرَق في عينَيه دون أن تفِيض تخونه بعض العبرات تضئ وجهه ، كان جسمُه يهتزّ.. كمن ينفض عن نفسه علائق الدنيا في كل تسبيحه يرددها ، كأنما ذهبت روحه إلى عالم آخر..
أتعجَّب لماذا وحده من يتأثر بهذا الشكل؟! .. مَا الذي يبكيه..؟ فالجميع في حالة اندماج كامل ، لكنهم واعــون..! ، ما جَدوى جلسَات الذِّكر هذه؟
أنا لا أشعر بشَيء.. مُجرّد ذكر نمجِّد بِـــه الله!
مازلت أذْكر أن شغَفي “بالبسطامي “وابن “عربي” و”الحلاج ” و”الحسن البصري “و”الغزالي” و”الجلياني” زاد رقعة الحيرة في ذهني، من هؤلاء..؟! هل هم أصحابُ علمٍ حقيقي؟ أم أصحابُ بدْعة..؟ هل لدَيهم علْــم خفيّ يتجاوزُ عقولنا؟ أم هـــم باطِنية ؟ لم تنتشلنى قراءاتى الى شط الامان بل خاضت بي الى لجاج الحيرة وتنكرت لي ؟
كَان الخِلاف الدائم بينِي وبينَه على هَــذه النّقطة.. أنا أتمسّك بقِراءة العِلم.. وهـُـو يتمسَّك بقِراءة الرُّوح، هو لا يفهم فلسفَة” ابْن عربي” ولا دعاوى الإلحَاد التي سيق “الحلاج” بسببها إلى الشَّنق.. كل ما يعرفه أنَّه يخَاطب ربَّه.. يتقرَّب إليه..
موقن إنه مذْنب معاقر للذنوب فلا ملجأ منه الإ اليه ؟ لا يريدُ إلاَّ رضَاه.. يرفُض أن يفهَم غيْــر ذلك.. يرَى العِلمَ الذى أكْنِزَهُ هوَ عِلمُ الظّاهرِ الذى يشْترِكُ فيه الجميعُ بينما العِلْمُ الحقيقىّ هو العِلْمُ الذى يفيضُ الله بهِ على من اختَصّ منْ عِبادِه، كانَ يرُدّ عليّ عندما أُكْثِرُ عليهِ الجِدالُ نحنُ أرْبابُ أحْوال، لا أصحابُ أقْوال، لنْ ينالَ المُشاهدَةَ منْ تركَ المُجاهَدَة . ،ما إنْ أُخاطِبُهُ بالعِلْمِ و المنْطِقِ إلّا و يُقاطِعُنى لا تنشرْ عِلْمَكَ ليصدّقَكَ النّاس، انشُرْ علْمَكَ ليصدّقُكَ الله ، كان للحديثِ بيينا أشْواطا؛ كلّنا يسْعَى إلى الله بطريقتِه.. فالوِجْهةُ واحدةٌ و إن اختلفتِ السّبُلُ و تتعدّدتْ طرُقُ السّالكين، لم أفُــقْ من تأمّلاتي إلّا مَع نِهاية الحضْرة.. والتفَات الشَّيخ عمران إليّ مخاطبا:
– أما وإنَّك أكثَــر أبناء المرحومِ حضوراً معه و أنا كشيخِ الطريقة.. أسألكَ العَهْد!
فقلت: أيّ عهْدٍ يا شَيْخ؟!
الشَّيخ: أن تمشِي علَى خُطى المَرحُوم في حُضور جلسات الذّكر..
سكتّ! وقد أسْقِط في يدي.. فمازالتِ الحيرةُ تُخاطِبُ قلبي.. و لم يعُدْ هناكَ مـن يُثلج صدري بالإجابة