تسنى للكاتبة نهال حسن القويسني أن تترجم النص الفكري بما هو شأن مخصوص، تعتبر العلاقة الفكر بالمجتمع علاقة جدلية تفرضها مقومات النشأة والتطور داخل هذا الوسط، وقد فرضت الظروف والمتغيرات والتحولات المجتمعية ظهور نوع جديد من الالتزام المحدَد بالأوضاع الاجتماعية والسياسية التي تتحول وتتغير باعتبارها صيرورة وجودية إن سلباً أو إيجاباً، والمقصود هنا بالالتزام انصهار المفكر في مجتمعه وانشغاله بقضاياه التي تُعد جزءاً من يومياته الطبيعية.
هذا المفهوم البسيط للالتزام قائم منذ قيام الفكر. ومن هذا المنطلق، فإن المفكر بحُكم موقعه مدعو إلى متابعة هذه الصيرورة و معايشتها ، فلا يمكن أن تُصوِر إنتاجاً فكرياً ما من دون أن يكون هذا الإنتاج متصلاً اتصالاً وثيقاً بالمسألة المجتمعية، ومن دون أن يكون على ارتباط بالمجتمع في مختلف صوره وأشكاله. وإنما وجب أن يتسلَح بفكرة الجماليات والرؤى الفنية التي تحيل الواقع الحقيقي إلى واقع لغوي مدروس جميل يحمل رسالة إنسانية عامة.
فالمفكر يعيش دوماً في حركية وصراع بين الواقع الكائن من جهة، والواقع المُمكن من جهة أخرى، وهذا الصراع هو في حقيقته نتيجة حتمية لعدم رضاه وقناعته بما هو عليه حال مجتمعها، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الفكري، فتراها دوماً في حالة من التوتر باحثةً عن انسجاميه بين الحقيقة والواقع بطرح أسئلة الذات والوجود وأسئلة التحول والمستقبل. إنها تعيش وعيا شقياً كما قال سارتر (لأنه يكتب في مجتمع تسوده الفوارق من كل نوع وتنتصب داخله العراقيل أمام ممارسة الناس لحرياتهم). وبالتالي يصبح دَورها متميزاً داخل المجتمع ووعى الأفراد به باعتبارها وسيلة من وسائل بث الوعى الفكري والجمالي برسالته الفنية والفكرية والجمالية.
يغاير في أوصافها وخصائصها مقتضيات العملية الترجمية بمفهومها العام. فلديها النص الفكري يستند إلى بُنى منطقية وعقلية، فلديها الشكل لا ينفصل عن المضمون فصلا، إذ الفصل في ذلك أن اللغة المنقولة إليها، وما به تقرر فعل التأويل وتحصل، فمقتضاه بتأويل يكمن بين المفكر والمجتمع. فإن التجاوز أحرى به أن يشير إلى أن الترجمة هي ممارسة تأويلية بين مسارين منفصلين.
تأخذ القويسني كل من الاستشكالات والاستدلالات مأخذا على نحو التي تتوخى رفع المخالفة بين مستويات النص الفكري الثلاثة : (المنطقي – الدلالي – التركيبي ) وعلى أن المستوى المنطقي للاستشكالات يتدبر الكيفية التي تصاغ بها المفاهيم، وهو صوغ لقضايا ترتبط بأسئلة مخصوصة. أما المستوى المنطقي للاستدلالات، فهو يعني فيما يعني، منوال النظر الذي يتأتى به صوغ القضايا بما يجعلها أدلة تعكس حقائق معينة. في حين يرتبط المستوى الدلالي بالمضمونات المعنوية، والتي هي إما مضمونات للأسئلة وإما مضمونات للأدلة، والمستوى الثالث، الذي هو المستوى التركيبي، يفيد الصيغ التركيبية، والتي هي إما تركيبية للأسثلة أو تركيبية للأدلة.
يتبين على سبيل هذا التدرج والتصنيف الذي يرسم لمستويات النص الفكري، بأن ترجمة النص الفكري تصبح هنا بمثابة عملية تحرير للطاقة العقلية أو البُنى المنطقية تحريرا تعتزمه الكاتبة وتثبته بقدر تحرره من قيود النص الأصلي. هذه التي يلزم منها أنه يقع تحت نفوذها متى جعل ترجمته بنقل مستويات النص الثلاثة: المنطقية والدلالية والتركيبية، تقصداً منها أن تتواقت في النقل كما تواقتت في الأصل.
يبقى لديها التزيد بمعطى الزمنية تدبرا لما ينطوي عليه، رهانا فلسفيا وأبستمولوجيا متداخلة أبعاده. فتقول : ليست الدلالة وطرق إنتاجها وسبل تداولها سوى حصيلة حركة (ترميزية) هي التي قادت الإنسان إلى التخلص من الأشياء والتجارب والزمان والفضاء، بأن هذا التخلص لن يكون إلا من خلال وجدان آخر، تحت سطوة ونفوذ زمكانية وتجارب وأشياء أخرى، جاز أن تكون خطاب الفكرة أو ما بعدها. ذلك أن طبيعة الممارسة الإنسانية التي تحققت بالتواطؤ والتآزر مع مرحلة تاريخية ما، تعكس تلقائيا رؤية الإنسان للعالم، لتحدد طبيعة تواجده فيه من خلال تدبير وتوجيه طبيعة علاقته بالأشياء زمكانيا، بالمعنى الذي يصبح فيه المكان باعثا على تحديد بنية الزمن تحديدا علائقيا. ومتى كان الأمر كذلك، فإن هذه العلائقية هي ذاتها المنوال في انتزاع المفاهيم وتنظيمها على نحو يجعلها نمطا للوعي أو ميدانا للفكر.
ففي هذ السياق، تتقاطع الكتابة الذاتية بأشكالها المختلفة من مذكرات ويوميات وسجلاّت شخصية وسير ذاتية وشهادات وغيرها مع الهموم بشكل عام، فتلجأ الى الخطاب الفكري الذي يجسد الذاتية كنوع انسيابي تلجأ إليه الكاتبة نهال القويسني لعرض التجارب الشخصية للمجتمع الذي يمثل إعادة صياغة البنى الاجتماعية السائدة، فإن النصوص الفكرية التي تدوّنها بالعالم الثالث تقوم بإعادة كتابة النظام الاجتماعي من أجل تضمين رؤية للإمكانيات العلاقاتية الجديدة التي تفرض تقسيمات عرقية وطبقية وعنصرية بالإضافة إلى الروابط العائلية، لتتعالق داخل تلك النصوص كتابة هموم الذات.