ساعة مضت حين بدأ المطر في التسارع خفيفا شجيا إلى حديقة العشب الدائرية، ومدَّ المايسترو ذراعه إلى أقصى استطالتها، محيطا بعصاه الصارمة الدقَّة النشوة الكبرى لكمال النغمة الأخيرة، ليُنفذ في قوة فجائية عصاه في لحظة الانتهاء، ويسكن في عمق، مجسدا اللحظة ذاتها، في فضاء من الصمت البادي كموسيقى آخذة في الرحيل. يحوّم التصفيق من حوله، يدور إلى الجمهور، وتقف الفرقة الموسيقية. ويبقى هو جالسا، يخطُّ في الفراغات المتاحة في تذكرة الدخول جملة أولى.
.
يخرج من الدفء المخملي للقاعة، إلى شتاء الشوارع الذي يخلق دفأه الليلي، يقف عند المدخل، بين الباب الخشبي المصقول، المحلَّى بزخارف النحاس ذات الطابع الأرستقراطي، وبين الدرجات الرخامية العريضة المؤدية إلى الشارع، يتابع قطرات المطر، تعكس توالي انطفاءات المصابيح المحاطة بالمسرح، وتندفع إلى أبر العشب اللينة، لتصبح القطرة قطرات، والقطرات قطر متناثرة، تمسد المتون الخضراء، وتذوب في الأرض.
.
يرقب ابتهاج دائرة العشب والليل والمطر، والخارجين، وهمهماتهم الهادئة، يركض البعض إلى سياراتهم، ويسرع آخرون عبر الطريق، يتابعهم حتى اختفائهم في الزوايا، أو في مداخل البيوت للاحتماء المؤقت، ويبقى، يبحث عن فراغ لا يأتيه المطر ليمضي فيه، وفي هدوء يسير، وكأن دفء صباح شتوي يغمره.
.
يمر بباب جانبي صغير، يجتازه العازفون، يحملون آلاتهم الموسيقية في حقائبها السوداء، يمرون أمامه؛ كهل يحمل في جهد آلة التشيللو ويحتمي من المطر بالحوائط وياقة معطفه البالي، وعجوز يمنحها بياض شعرها عمرا يناهز عمر “كمانها”. رآهم فرادى، يهرولون عبر الطريق، وجوها مفصلة، كيانات مفردة، أدركها منذ دقائق كعناصر جزئية تشكل كلاً متآلفا مُصاغا في تصاميم موسيقية.
.
في قلب الضوء الباهت للمصباح الوحيد، خلف الباب الجانبي الصغير، رآها، تقف ساكنة، كلحظة صمت موسيقية بين لحنين، تخشى المطر، وهو أمامها، ساكن كنغمة تشرف على صمت موحي، لا يشعر ثقل الماء بين كتفيه والغيمة الماطرة، يرقب عينيها الجائلتين بين السماء المحجوبة بالغيم والأرض المنتشية بالمويجات المتألقة، تتمتم بحروف لا يسمعها، تعاويذ صبية ليتوقف المطر، أو لتجتاز عبر المطر دون أن تبتل، ويبقى يرنوها، ككل منفرد، تحمل كمانها، بادية لحسِّه كلحن غير مُمَازج، رائق الأداء، خارجة من كونها عنصرا بوليفونيا، بادية كجملة أساسية، كسحبة قوس متقنة على وتر حر.
.
أما هو، فبدا لها كجسدٍ غير مُعتاد، مكسو بالمطر، ومثير للرجفة، أقلقها سكونه المشدوه دون خوف، فهو صامت، لا يتحرك، ولا يتوقف عن النظر إليها، ويظل، حتى يخرج العازف الأخير، يحمل نايه في حقيبته السوداء الصغيرة.
.
ولما بدأ الباب في الانغلاق، لم تكن هناك، وكان الضوء الباهت وحيدا، في الداخل الآخذ في الخفوت أمامه، لم تخرج، ولم يعد يراها، نظر إلى السماء، سقطت قطرة كثيفة على شفتيه، شعر بالعطش يجتاح جسده، وكان المطر ما زال ينهمر صاعدا في اتصاله، غير آبه بما يحدث.
.
ينظر إلى الساعة ذات الوجوه الأربعة، الواقفة في قلب دائرة العشب، يدور حولها، كل وجه يعلن وقتا، ولكنها جميعا تشي بليل ما زال في أوله.
.
بدا له أن العشب الراقص والمطر يمارسان لحظة وجود صافية، فكَّر “في صباح الغد ستكون ثمة أعشاب صغيرة رائعة تزاول تاريخا يبدأ الآن”.
.
والآن فقط، يشعر البرودة تجول في أقاصي جسده النحيل، ترتاده الشوارع المظلمة، مشبعا بالموسيقى، يخفق من بعيد كرجل من ماء، لا يعكس ضوء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
لوحة (عازفة الكمان الزرقاء) للفنانة الإكوادورية مارلينا فيرا.