نشأ عماد أبو صالح فى مكان فقير، شأن كل قرى الدلتا. لا كتب فيه سوى كتب الدراسة بكل قبحها وقسوتها. عاش فى عزلة بين أمه وأربع أخوات، اثنتان قبله، واثنتان بعده، حتى أحسَّ أن العالم كله امرأة. فمن أين جاءه الشعر؟ يقول: «لا أعرف. ربما من غناء جدتى فى أفراح العائلة النادرة، ربما من (عديد) جاراتنا فى المآتم الكثيرة. كنت فى الثالثة من عمرى تقريباً حين مات عبد الناصر، حمل أهالى القرية نعشاً رمزياً وطافوا به الشوارع، لا أزال أرى المشهد إلى الآن كاملاً: أمسكُ طرف ثوب أمى مذعوراً، الدموع تنساب من عينيها، والفلاحون بجلابيب باهتة وأرجل حافية يهتفون: (ابكى ابكى يا عروبة.. ع اللى بناكى طوبة طوبة).. هل جاءنى الشعر من هذا الهتاف الصاخب الحزين، من هذه القافية بجرسها العنيف؟ هل جاءنى من الأشرطة الملونة التى كانت أمى تربطها فى رقاب إوزاتها كى تستدل عليها بين إوزات الجيران، فيبدو كل منها حين (يكاكى) كأنه مايسترو يلبس (ببيونه) ويغنى بكامل أناقته قى أوبرا إيطالية؟ هل جاءنى من حزن (سلمى) فى قصيدة (المساء) لإيليا أبى ماضى، حين كانت أختى الكبرى تقرؤها بصوت عال من كتاب الأناشيد وهى تذاكر دروسها، وقبل أن أتعلم أنا القراءة والكتابة؟ هل جاءنى من صوت الشيخ خليل الحصرى الذى كانت تحبه أمى بشكل خاص؟ لا أعرف، لا يوجد شاعر فى العالم يعرف».
لم تكن لعماد الطفل أى حماقة كبرى، سوى أنه سرق ذات مرة حصاناً، حصاناً حقيقياً ضخماً لا لعبة أطفال، وحين اكتشف أهله الفضيحة ظلوا يعيرونه طويلاً وينادونه: يا عنترة. أكبر خطيئة له أنه أجبر نفسه على التدخين بعد الثلاثين، ليخبئ زفرات غضبه فى دخان السجائر. التحق بكلية الآداب، جامعة المنصورة، لا حباً فى الشعر أو الأدب، ولكن بسبب طريقة نطق طه حسين. يحكى ضاحكاً: «سمعته يقول فى الراديو بصوته المهيب: توجهت إلى كلية الآداب لدراسة الأدب العربىّ، فسحرنى التشديد على الياء فى كلمة العربىّ، وقلت لنفسى: لا بد أن أدرس أنا أيضاً الأدب العربىّ، وطبعاً بعد أن التحقت بالكلية لم أجد الأدب العربىّ ولا الغربىّ، فامتنعت عن حضور المحاضرات».
الياء المشددة خدعت عماد هذه المرة، لكنها خدمته فى المستقبل. الخبير المالى الوقور صليب بطرس، مسئول خزينة صحيفة «المصرى» فى الأربعينيات، تولَّى نفس المسئولية فى صحيفة «الوفد» فور صدورها فى الثمانينيات. كان دقيقاً، ومخيفاً، ويعطيك إحساساً بأنه لا يعرف فقط عدد الجنيهات فى عهدته، وإنما يعرف أيضاً عدد نجوم السماء. استجمع عماد شجاعته، وقدَّم له شكوى: «يا صليب بك، ليس لدىّ مكتب، منذ خمسة عشر عاماً، وأنا أكتب على ركبتىّ». نجح سحر الياء المشددة، رفع صليب بك نظارته بعدساتها الأربعة عن عينيه، وأزاح صحيفة «اللوموند» التى كان يدمن قراءتها، وبدأ يتغزَّل فى الياء المشددة: «ركبتىّ؟! مممم؟! ركبتىّ؟! آه؟!»، وأمر بتخصيص مكتب على الفور.
عماد قارئ عظيم، لو غاب عنك أسبوعاً واحداً فقط سيعود ليحدثك عن كتب كثيرة قرأها خلال غيابه. يقول: «هذا طبيعى، وإن كنت أراك تبالغ فى تصوير حجم قراءاتى، لا أولاد لى، ولا زوجة، ولا حبيبة الآن على الأقل (يضحك)، ولا مسئوليات قاهرة. أعيش وحدى منذ خمسة وثلاثين عاماً، فمن الضرورى أن يكون معظم وقتى مع كتاب. اتركنى مع كتاب وكوب شاى، وخذ العالم كله. أحب الكتب، والشاى مشروبى الوحيد»!
لا يهتم عماد بمسألة تقدمه فى العمر. تجاوز الخمسين لكنه لا يشعر بقلق من أى نوع: «لست أباً يخاف أن ينام الأولاد دون عشاء. كل ما يعنينى هو أن أعيش – إذا عشت – بكرامة وأن لا يذلّنى المرض. احتياجاتى قليلة. ليس لى أى طموح، ولا عندى أمل!».
من حوارى مع عماد أبو صالح