عندما كنت حاملا بأبني، في الشهر الاخير من حملي تحديدا، انتقلت للبيت الذي أسكن فيه حاليا. وقتها، ريم، كانت في الخامسة من عمرها، وأنا، كنت مجرد أم ببطن منتفخة لم تكن لتصدق وقتها انها ستكتب هذه الكلمات يوما ما. في اليوم الذي تلا الانتقال، كنا لوحدنا، انا وريم، احاول قدر الامكان اكمال ترتيب بعض الامور، نقل ما استطيع نقله وفكرة واحدة تتراقص في رأسي، اين وضعت حقيبة الطفل الجديد ؟ تلك التي من المفترض أخذها معي للمستشفى. وفي اللحظة التي امسكت فيها بخيط فكرة يوصلني لمكان الحقيبة، دقت باب المنزل. ظهرا وبشمس خالدة في شبابها فتحت الباب، كان صبيا، بعيون عسلية، بالكاد يحمل صينية مغطاة بقطعة قماش، سحرتني عيناه عن فكرة اخذ الصينية منه بسرعة ولولا جملته ( هاي امي دزتها الكم) لما انتبهت الى انه ليس عينين فقط، وانما يدان تحملان وتشرحان ما عجز الفم عن قوله. اخذت الصينية منه و مباشرة وقبل ان اطلب منه الدخول للبيت ليلعب مع ريم قليلا، سمعت صوت ( طق.. طق) بشكل واضح. وبدون اي لحظة انتظار التفتنا انا والصينية والصبي لأرى ما خمنه قلبي سببا للصوت، اقفلت ريم باب المطبخ على نفسها من الداخل. وبسرعة، وضعت الصينية وسط الحديقة، وذهبت باتجاهها، طرقت الباب بقوة، ومن زجاج الباب كان واضحا ان ريم لم تكن هناك. ومن ثم فاجأتني ضحكتها من ناحية شباك المطبخ الذي كان مفتوحا، مدت يدها وقالت بغنج( حبستكم بره) ثم (فنج اذا لزمتي ايدي) كانت تلعب. طلبت منها بأسلوب حاولت ان يكون طبيعيا بأن تفتح الباب، ولكنها، ابتعدت فجأت وذهبت ونامت على ارضية المطبخ، بضحكة مرحة، رافعة المفاتيح بيدها مع جملة ( فزت عليج) . وانا انظر اليها بعجز من الشباك، اكتشفت ان العينين العسليتين كانتا تنظران معي كذلك لكن، ليس بعجز. بل، بمرح يطمح للمشاركة في اللعبة التي لم يكن يهمه ان يفهم ما هي أصلا. عدت وطلبت منها بأسلوب آمر بأن تفتح الباب، فلم تستجب. نظرت للصبي الذي بجانبي ثم للصينية، اخبرتها ( أكو تمن وتشريب بره، فتحي الباب حتى تاكلين) وقتها ريم كانت تعشق هذه الاكلة، قفزت من مكانها ومن نظرة سريعة منها عبر الشباك للصينية، كانت قد اسرعت للباب تحاول فتحها. في يدها مجموعة مفاتيح ، ما حدث هو انها وضعت المفتاح الخطأ. وكان قد علق. حاولت تعليمها لأخراجه، فلم تستطع. في هذه اللحظة ألما قويا كان قد زارني، لم استطع الوقوف، ذهبت بصعوبة وجلست على الارض في الحديقة، ومع دفء الحديقة خف الالم. أخذت هاتفي من جيبي، اتصلت بأخي واخبرته بالموضوع. صبي الجيران كان قد رفع القماش عن الصينية وجلس بجانبي، نظر للطعام بشغف وكأن عيني ريم التي كانت تراقبنا من النافذة قد سكنته بطريقة ما. في الصينية لم يوجد اي( تمن وتشريب) بل اصناف اخرى متنوعة. قربت الصينية منا وسألته( تريد تاكل؟) هز رأسه موافقا. في تلك اللحظات، أكلت فعلا، أكلت بما ينوب عن ثلاثة اشخاص، وريم وصلتها الامدادات، كان الصبي يركض ويعطيها من اي شيء يأكله. بعد الشبع، جنيني تحرك بقوة كمن يحاول الخروج بأي طريقة ليشارك في لعبة لا مفر منها. اخذت يد الصبي ووضعتها على بطني، لحظتها، اعطاه جنيني يده من مكانه بحركة قوية، وقال له( مرحبا). شعرت بجسدينا يرتعشان في آن واحد و في عيني الصبي نظرة ذهول لا يمكن وصفها. سألني عن ريم ( شبيها؟ ) اخبرته انها سجانتي، اقفلت على نفسها لتسجنني، في حين، انها لم تسجن الا نفسها. هنا، كان أخي قد دخل للبيت مستعجلا، اخبرني ان ابقى في مكاني، ثم اختار بسرعة قطعة انبوب ماء حديدي، اخبر ريم ان تبتعد عن الباب بزجر، ثم وقبل ان استوعب ما يحاول فعله، كان قد كسر الجزء الزجاجي الذي تحت مقبض باب المطبخ، تناثر الزجاج في كل مكان، مد يده واخرج المفاتيح، ثم فتح الباب من الخارج. ظل هذا الجزء من الباب عاريا لعدة ايام، وفي الساعة التي أصلحه فيها عامل بزجاح تختلف نقشته عن الزجاج الاصلي، أنا كنت في المستشفى أنجب ابني.
قبل عدة اشهر، قمت بتجديد وترميم البيت. وظفت مقاولا للمهمة، اخبرته ان له ان يقلب البيت ويجري العديد من التغييرات، الا هذه الباب، عليه ان لا يمسها، ولا يصبغها، فقط يتركها كما هي. في لحظات كثيرة، عندما احاول اتخاذ قرار مهم بشأن اي شيء في حياتي، أذهب واقف بجانب الباب، وانظر لذلك الجزء الزجاجي المختلف عن بقية اخوته، أخبر نفسي، ان الحلول السريعة الحازمة هي الافضل دوما، ولكنها دائما تكون بثمن. بعدها، لا تعود الامور كما كانت سابقا. وانه في لعبة الحياة، في داخل كل منا، سجان صغير، يقفل على نفسه من الداخل، بغية الفوز على الاخر وسجنه، في حين، هو لا يسجن الا نفسه.