فُطِرْتُ على حُبِّه منذ طفولتي.
لم أَكُنْ أدري بَعْدُ دلالاتِه، أو تجلياتِه، أو إشراقاتِهِ، أو رموزَهُ، أو معانيه،… لكنَّني كُنْتُ أحبُّ أن أكونَ فيه، متوحدًا به، ومتوشِّحًا.
عاتبني أبي – ضاحكًا – : “أمي كانتْ تلبس كقميصكَ هذا”. وَصَلَتْ إليَّ إشارتُهُ، لكنَّني لم أَرُد خَجَلاً أَوْ أدبًا أَوْ ربَّما عَدَم اقتناعٍ بما قال، وهو الذي ربَّاني على الجدل والحوار والحرية، حرية أن تَقَولَ وتَفْعَلَ وتختارَ.
بعد سنوات قليلةٍ مِنْ قَوْلَتِهِ هذه، مَاتَ عام 1975 دون أن يُكْمِلَ الخمسين.
فَارْتَدَيْتُ القميصَ الأَسْودَ الذي شبَّهَهُ بما كانت ترتديه أُمُّه (جدتي لأبي) كُنْتُ آَنَذَاكَ لَمْ أَدْخُل الخامسة عشرة من عمري، كان اليوم الاثنين الثالث عشر من أكتوبر 1975، ثالث يومٍ لي في السنة الأولى من المرحلة الثانوية.
وصار الأَسْوَدُ من يومها فَاتِحَةً وَخَاتِمَةً لي في ملبسي، ولون فِرَاشِي، ولون سريري، ولون بعض أغلفة كتبي، ليس حُزْنًا أو ألمًا أو موتًا، لكنَّه أكبرُ من ذلكَ، إنَّه اختياري الشَّخْصِي، لم أكن أَعْرِفُ نُبْلَ الَّلونِ الأَسْودِ، ورُقيِّهَ وإيقاعَهُ، وامتيازَهُ وخصوصيتَهُ، وضوءَ عَتَمَتِه، وتدرُّجَ ظلالِهِ، ودرجاتِ لَيْلِهِ، وَصَفَاءَ نقائِهِ، وَحُضُوَرهُ المُسَيْطِرَ، وطغيانَ سماواتِهِ.
فَلَمْ أَنْجَحْ حتَّى – الآن – في كِتَابةِ نصٍّ بِلَوْنٍ غيرِ الأَسْود، هكذا اعتادتهُ عَيْنَايَ، وورقتي، ويمنايَ، وَقَلَمي، والضَّوْءُ الذي أكتبُ فيه؛ لأَنَّ الأَسْودَ نورٌ يَتَّصِلُ بروحي، كما أَنَّني أٌقَدِّسُ ظلماتِهِ التي فيها أَحْيَا وَأَلْتذٌّ، وأسوقُ روحي نحو بَحْرِ ظلماتِ الأسود الذي يَسِيلُ ذَهَبًا.
فهو العَيْنُ التي أَبْتَغِي، وَهُوَ الكُحْل الذي سَكَنَّني، وهو مُبْتَغَى الشَّاعِرِ في العِشْق.
إن الأَسْوَدَ يُطَمْئِنِنُي، لأَنَّهُ لونٌ شَرِيفٌ، يُثيرني، ولهذا ترتديه النِّسَاءُ في الباطنِ والظَّاهرِ.
إنَّه لونٌ عميقٌ في بَسَاطَتِهِ، ورغم شيوعه فإنَّه نَاِدرٌ وفريدٌ، ودومًا يبحثُ عمَّن يَسْتَحِقُّهُ ليمنحه شَرَفَ التَّمثيلِ.
أَنَا أَتَحقَّق في الأَسْوَدِ حُضُورًا وَكِتَابَةً وعِشْقًا. إنَّه لونٌ صافٍ، خَالٍ من الدَّنَسِ، مُرِيحٌ لِلْعَيْنِ والرُّوح والقَلْبِ والنَّفْسِ.
فَهُو لَيْسَ لونَ مِزَاجي أَوْ رُوحِي، لكنَّ غموضَهُ يُعْجِبُني، وَسِريَّتَهُ تَأْسِرُني، وَحَيْرَتَهُ تَأْخُذُني، وَقَلَقَهُ يَمْنَحُنِي الكثيرَ من الأَسْئِلةِ.
الأَسْوَدٌ نُورٌ، ظِلاَلٌ تَتْبُعُني وَلاَتَخُونُني أبدًا.
أَرَاني من خِلاَلِهِ، وَأَرَى مَنْ أُحِبُّ.
لي مِنْهُ حَرْفَانِ في اسْمِي الأَلِفُ والدَّالُ. كما أَنَّ كُلاًّ مِنَّا يمتلكُ أربعةَ أَحْرفٍ.
والحرفان المشتركان بيننا حرفان سيِّدَان.
فَالأّلِفُ، الذي سَمَّى بورخيس كِتَابَهُ بِاسْمِهِ (كِتَابُ الأَلِف). الحرف الأكثر دخولا في الكلام، فهو الأوَّلُ، الباقي دُونَ حَذْفٍ أَوْ تَأْخِيرٍ، المهموزُ، الوَاضِحُ، المُجَاهِرُ، ذُو الصَّوْتِ العالي، القَادِرُ، المُعْتَزُّ، الأَعْلَى، المُتَمَكِّنُ، المُسْتَقِرُّ، ذو الرَّأْسِ، الأَعْلَى، المُسْتَقِيمُ، الذَّاهِبُ نحو السَّمَاء، لأِنَّ فِيهِ من الجَلاَلِ وَالجَمَالِ والسُّمُوِ الكَثِيرَ. فهو طَمُوحٌ وَطَائِرٌ نَحْوَ مَجْدِهِ، يُبْصِرُ، وَلاَ يُخْطِئُ الهَدَفَ. لأنَّه لَيْسَ مَعْلُولاً أو مريضًا، ولذلك اخْتَارَهُ اللهُ “ليبدأَ بِهِ اسْمَهُ الظَّاهِرَ من الذَّاتِ المُقَدَّسةِ الإلهيةِ الله”.
فحرف الألف كما يقول سهل التستري ( 200 – 283 هجرية ) هو (… أَوَّلُ الحروفِ، وأعظمُ الحروفِ، وهو الإشارةُ في الأَلِفِ. أي الله الذي ألَّفَ بَيْنَ الأشياءِ وانفردَ عن الأشياءِ، أمَّا حرف الدَّال الذي انتهت به كل آيات سورة “الإخلاص” في القرآن فهو الحرفُ الأخيرُ من اسمي، ومن اسم لوني الأسود، كَأَنَّهُ النهايةُ، أو بَدْءُ الخِتَامِ، أو التوكيدُ على الحُضُور والبَهَاءِ أو الذُّرْوةُ في التشكُّلِ والتكوينِ.
وَأَظُنُّني خُلِقْتُ عَلَى صُورِةِ اسْمِي. وَمَا أَعْجَبُ لَهُ أن كثيرًا من أسْلاَفي الشُّعراء كَانَتْ قصائدهم في الرثاء داليةً (ابن الرومي، الخنساء، حسان بن ثابت، أبو العلاء المعري،… محمود سامي البارودي…) كَأَنَّ الدَّالَ بِنْتُ الموتِ والحُزْنِ والألم، وشقيقةُ الرثاء، ولَذِا دَنَتْ دولتُها للشُّعراء. فالدَّال تَجْمَعُ وَتَدُلُّ بِنَفْسِهَا وَتَخْتِمُ وَتَبْدَأُ.
…
المشتركُ بين أحمدي وأسودي، يُنْبِؤُني بالأحلام في سديمها النورانيِّ.
إنَّني بِالأَسْوَدِ في مَآْمَنٍ من سَطْوَةِ الغُرَبَاءِ، أَنَا الغريبُ الذَّاهِبُ إلى الثَّمرةِ في نُضْجِهَا.
أنا ابنُ حَضَارةٍ كَانَتْ ترى في الأَسْوَدِ رمزًا للبعثِ والحياةِ الخالدةِ، بَيْنَما أَحْفَادُهَا يَرَوْنَهُ رمزًا للموتِ والحُزْن والحداد.
أنا الذي تربَّيْتُ في قرية (كفر المياسرة)، نساؤها لا يلبسن إلاَّ الملاءات السَّوداء، أو الجلابيب السَّوداء، أو “المَلَس الأسود”.
إنَّه لَوْنُ صَمْتي، يخشاه البَعْضُ أو يتشاءَمُ مِنْهُ، لكنَّ كثيرين يُحبُّونَهُ وَأَنَا على رَأْسِ هَؤُلاء، لأِنَّهُ مِثْلُ الأَلِفِ: رَأْسُ الأَلْوانِ وَسَيِّدُهَا. فَهو يحتوي الأَلْوَانَ جميعَهَا، ولم أُصَدّق يومًا، ما قِيلَ في ذَمِّهِ أَوْ هجائِهِ، إنَّهُ لَوْنٌ يَتَحَمَّل الشَّتَائمَ والسِّبَابَ من كارهيه، أَوْ الحاقدين على فَرَادَتِهِ.
هُوَ لَوْنُ القَدَاسَةِ والتفاني، والعُزْلةِ، (إنَّه لونُ كِسَاءِ الكَعْبَةِ، ولونُ الحَجَرِ الأَسْوَدِ).
أذكُر أَنَّ لوركا كان مأخوذًا باللونِ الأسودِ (ومعه ثلاثةُ ألوانٍ أخرى هي الأخضرُ والأحمرُ والأصفرُ)، وقد تبدَّى ذلك في شعرهِ ورسومهِ التي لم تنتشر كثيرًا في مجتمعاتنا الثقافيةِ العربيةِ بالقدرِ الذي انتشرَ شِعْرُهُ.
وقد أتيح لي أَنْ أزورَ بَيْتَ لوركا في غرناطة، وأرى بعضًا من رسومه، وأجلسَ على مقعده، وأجولَ بين غُرف بيتِهِ.
إنَّها ساعاتٌ أَمْضَيْتُها بَيْن بيتِهِ، وحديقة البيتِ، استرجعتُ فيها سيرتَهُ وعوالمهُ وشعرَهُ وَمَقْتَلَهُ وتجاربه المبكرةَ، إذْ ماتَ كالكبارِ – دومًا – في سن الشباب (5 من يونيو 1898 – 19 من أغسطس 1936 ميلادية).
أَسْودُ لوركا
هو القَتْلُ، والفجيعةُ، والظلُّ والدخانُ، والرحيلُ.
أَسْوَدِي فيَّ بَاقٍ لاَ يُفَارِقُ،
إِنَّهُ أَنَايَ وَظِلِّي.