دُرُوسٌ
علَّمني الألمُ أنْ أنْظُر إلى “هُـناك”، حيث الأفق البعيد، إلى المُستقبل، وأنسى الماضي بكل ما فيه، وإن احتشدت صُورٌ من فُصُول العذابات المُتراكمة، فهي أطيافٌ تمُرُّ سريعاً، ثمَّ تذهبُ.. كلماتٌ مُوجعةٌ يتردَّدُ صداها في أذاننا، قسوةٌ لم تكُنْ أبدا من الزَّمن بل ممَّن أحببناهُم.. غُرفتي الصغيرة، مكتبي القديم، نافـذتي على الزمن المُنصرم، دفء مشاعري، آمالي وأحلامي…، هُـناك، حيث لا عـودة، ولا التفات إلى ما فـات.. ربَّتَ الألمُ على كتفي بحنانٍ، ثم قال: هل فهمت الدرس؟، لم استطع الإجـابة، فودَّعني سريعـاً، ثُمَّ عـاد منْ حيثُ أَتَى.
لا شيء!
لاَ شَيْءَ هُنَا يُشْبِهُ حَنَانَهَا الأُسْطُورِيَّ، كُـلُّ شَيْءٍ غَـرِيبٌ، مُمِلٌّ؛ المَكَانُ، الزَّمَـانُ، الوُجُـوهُ، المَقَـاعِـدُ، القـلُوبُ، كُلُّهَـا كُـتُلٌ مُصْـمَتَةٌ بِـلاَ إِحْـسَـاسٍ، شَعَـرَ بذلك مُتأخِّراً، لكنَّهُ أيقـن بنفاذ صبره على هــذا الخِـدَاعِ.. قفز من على منصَّة الانتظار، وقع على أرض الترقُّب، وبدأ يركُضُ، ويركُضُ، أنفاسه تكادُ تنقطعُ، وقدماهُ تعثرتا أكثر من مرَّةٍ وكاد يسقُطُ، لكنَّهُ تَمَاسَكَ وَوَاصَلَ، العَرَقُ يتصبَّبُ منْ جَبِينِهِ، وَالخَوْفُ يَسْتَوْلِي عَلَى مَشَاعِرِهِ، أَرْجُوكِ يَا أمِّي انْتَظِرِي قَلِيلاً، أَنَا قَادِمٌ إِلَيْكِ، سَأَتْرُكُ كُلَّ شَيْءٍ هُـنَا، وَأعُـودُ لِدِفْئِكِ، فَـلاَ تُغْلِقِي البَابَ فِي وَجْهِي..
* انتظـــارٌ:
القَمَرُ يُشِعُّ بِنُورِهِ عَلَى الكَـوْنِ، ويَمْنَعُ الغُيُومَ قَاتِمَةَ السَّوَادِ أَنْ تَحْجُبَ ضوئه عَنْ عُيُونِ الحَالِمِينَ والبَائِسِينَ والعَاشِقِينَ، الحَدِيقَةُ تَخْلُدُ إِلَى النَّوْمِ، وَاللَّيْلُ يَجْلِسُ عَلَى نَاصِيَةِ الطَّرِيقِ فِي انتظَارِ الرِّحْلَةِ القَادِمَةِ، بَعْدَ لَحَظَاتٍ قليلةٍ سيفرحُ الجَمِيعُ، القَمَرُ والغُيُومُ والحَدِيقَة وحَتَّى الليلُ؛ لأنَّ الحَدِيقَة نامت قَبْلَ أن تُخبر القَمَـرَ بِقِصَّةِ انتظارِ الليلِ لمَـوْكِبِ شَــوْقٍ لَنْ يَأتِيَ أَبَـداً.
* نَــدَمٌ:
سَأَلتْ نَبْتَةُ الزَّعْتَرِ شَجَرَةَ الكَرَزِ بِعَفَوِيَّةٍ: هَلْ يُرِيدُ هَؤُلاَءِ لَنَا الخَيْرَ أو السَّلاَمَ؟، أَمْ أَنَّ نَوْمَنَا فِي هُدُوءٍ يُزْعِجُهُمْ؟، أجَابَتْ شَجَرَةُ الكَرَزِ بِصَوْتٍ خَافِتٍ: اسْأَلِي تلك الدَّبَّابَةَ القَابِعَةَ هُنَاكَ عِنْدَ سَفْحِ الجَبَلِ… حَمْلَقَتِ الدَّبَّابَةُ فِي شَجَرَةِ الكَرَزِ بِشَزَرٍ وَاضِحٍ، ثُمَّ أَطْلَقَتْ قَذِيفَتَهَا المُثَرْثِرَةَ لِتُجِيبَ عَنِ السُّؤَالِ بِطَرِيقَتِهَا الخّاصَّةِ، تّحَوَّلَ الحَقْلُ إلى أشلاءَ مُمَزَّقَةٍ مِنَ الفُرُوعِ وَالأَغْصَانِ المَحْرُومَةِ مِنَ الحَيَاةِ وَالأَمَلِ وَالتُّرَابِ، عَرَفَتْ نَبْتَةُ الزَّعْتَرِ الإِجَابَةَ لَكِنَّهَا حَتْماً نَدِمَتْ عَلَى ذَاكَ السُّؤَالِ اللعِينِ!.
* نهاية الحكاية:
فِي دَارِ المُسِنِّينَ أَخْرَجَ صُوَرَ أَوْلاَدِهِ، تَأمَّلَهَا بِعِنَايَةٍ وَلَمَسَهَا بِيَدِهِ، انهَمَرَتْ دُمُوعُهُ بِغَزَارَةٍ، اختلَطَتْ مَشَاعِـرُهُ، لَمْ يَعُدْ قَادِراً عَلَى التَّحَكُّمِ فِيهَا، ذِكْرَيَاتٌ وَدُمُوعٌ وَوِحْدَةٌ .. مَحَبَّةٌ وَشَقَاءٌ وَغُــرْبَةٌ، وَقَـفَ بِصُعُـوبَةٍ مُتـَوَجِّهاً صَــوْبَ النافِـذَةِ، نَـظَـرَ إلى الصُّـوَرِ للمَــرَّةِ الأخِيرَةِ، (تحَـسَّسَ قـلبَهُ) ثمَّ مَـزَّقَـهَا ورمَى بِهَا بعيـداً، أكمـلتِ الرِّيـحُ البَـاقِي، سَقَـطَ عُكَّازُهُ الخَشَبِيُّ الهَـــرِمُ، تَوَقَّـفَ قَـلْبُهُ المُتْعـَبُ عَنِ النَّبـْضِ، خَــرَّ عَلَى وَجْـهِـهِ صَـرِيـعاً. انتَهـَتِ الحِكَـايَةُ، أُسْـدِلَ السّـِتـاَرُ، صَفّـَقَ الجُمْهُـورُ بِحَـرَارَةٍ بَـارِدَةٍ، ثُمَّ ذَهـَبَ كُــلُّ فِي طَــرِيـقِـهِ.
فـــرارٌ
حظر إلى مكتبه مُسرعاً، لمْ يتناول حتى طعام فطُوره، ولمْ يُحكم رَبْطَ خُيُوط حذائه الرَّماديِّ البالي، وحين صعد سُلَّم الدرج المُوصل إلى مكتبه نظر إلى نفسه صُدفةً في مرآة مُعتمة قديمة كانت هُناك، فتوقف بُرهةً، شعر فيها لأوَّل مرَّةٍ أنَّهُ بشرٌ!، أحْكَمَ رَبْطَ خُيُوط الحِذَاءِ، ومزَّق قناع الزَّيف الذي يرتديه، ثُمَّ قدَّم استقالته، وفـرَّ إلى زنبقته الحزينة، ليُكمـل معهـا مشـوار الحياة القصير..
ذاكـــرةٌ
كانت ذاكرتُهُ تُؤنِسُهُ فِي وحدته، وتَمْلأُ عَلَيْهِ حَيَاتَهُ الرَّتِيبَةَ، وتجلبُ لهُ مشاهد وصُور وأصوات أناسٍ يُحبُّهُم كانُوا معهُ يوماً، تفاصيلُ البيت والمكتب الفوضويِّ والمطبخ والحديقة كُلُّهَا مَحْفُورَةٌ في ذَاكِرَتِهِ..، وعـندما وَصَلَ إلى أعتاب السَّبْعِينَ نَزَلَ فِي محطَّة فَقْدِ تِلْكَ التَّفَاصِيلِ، فأصبح يَعِيشُ بِلاَ دِفْءٍ ولا مَاضٍ.. اغْتِرَابٌ عن كُـلٍّ شيءٍ، ورحيـلٌ قسـريٌّ لذكريات مضت بلا عودةٍ، فأصبح يبكي كل يوم، وينتظر المحطة الأخيرة..