من خلال المعطيات الرئيسة لعتبات هذا النص، والدلالات الأولية التي تمكن القارئ من الولوج إلى ساحة العمل وكشف هويته، وتفاصيله البنوية، وملامح خصوصيته.
العنوان:
جاء العنوان مخاتلا ومراوغا ليكون عاملا مثيرا لاستكشاف محتوى الرواية، فالمتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى عند سماع أو رؤية كلمة «البوكر»
سيكون الجائزة العالمية للرواية العربية.
وهي في الأصل بالإنجليزية: ( International Prize for Arabic Fiction)؛ جائزة أدبية عالمية تختص بالأدب العربي، أنشئت في عام ٢٠٠٧
في أبو ظبي الإمارات العربية المتحدة ، حيث يوجد مقرها، وتُنظم بتمويل من هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة وبرعاية من مؤسسة جائزة بوكر البريطانية. على الرغم من أن الجائزة غالبًا ما يشار إليها باسم جائزة البوكر العربية، إلا أنهما مؤسستان منفصلتان ومستقلتان تمامًا، والجائزة العالمية للرواية العربية ليست لها أي علاقة بجائزة بوكر مان.
ليجلب الاسم إلينا الكثير من الفضول حول
ماهيته؛ هل البوكر الجائزة المعروفة أم هذه البوكر عالم روائي يحيا خلف هذا العنوان؟
الغلاف:
رأينا لوحة الغلاف تحمل دلالة مباشرة في ذلك التشكيل البصري الواقعي، طبع في مخيلة القارئ من هذا البعد الإيحائي للوحة المكتبة ومرصوصة الكتب، وأن هناك سيدة هي صاحبة الشأن في هذا العالم المتعلق بالكتب، بالإضافة إلى العنوان المحيل في إحدى تجلياته إلى الجائزة المعروفة لينصرف الذهن إلى ارتباط وثيق بين العنوان ولوحة الغلاف ومضمون الرواية.
النوع:
باستحضار الموروث الثقافي للأجناس الأدبية، نجد أن السرد كرافد يتوازى مع الشعر في إثراء الحركة الأدبية والثقافية حول العالم قد تنوعت فنونه ما بين القصة والرواية الطويلة، والنوفيلا (وهي تتوسط القصة والرواية)، ومعروف أن هذه الأخيرة لم تحظ بغزارة التواجد مثلما نجد الروايات الطويلة، بالنظر إلى نص البوكر، نرى أنه يندرج تحت نوع الرواية القصيرة، وتجدر الإشارة إلى أن متغيرات المزاج العالمي وما يطرأ بين الحين والآخر من زوال منهج أو نظام عالمي وبزوغ آخر، وعزوف الناس إلى مذهب معرفي أو فلسفي جديد حيوي يتشبثون بتلابيبه، نجد الأدب في عمومه وفن الرواية تحديدا لم تكن بمنأى عن هذا التطور والتغير، من جانب ميل القراء إلى الحكايات الطويلة التي لا يريدون الخروج منها أو الهروب إلى هذه العوالم الحكائية الطويلة على وجه الدقة، ومن جانب آخر نحا فريق من الكتاب إلى نسج الرواية الطويلة سعيا إلى الجوائز الأدبية ذات العائد المغري، أو بغرض التقليد ومسايرة الوضع العام للكتابات الخالدة، إلا أن هناك قلة من الكتابات نجحت في الوصول بالرواية القصيرة جنبا إلى جنب بالمساواة مع الرواية الطويلة، بل من هذه الأعمال ما يعتبر علامات فارقة في فن الرواية الحديثة ويعتبر نتاجا طبيعيا للصراعات الأيديولوجية بين الرأسمالية والشيوعية والمذاهب والحركات الفلسفية كالوجودية والعبثية والعدمية إلخ… ، من هذه الأعمال على سبيل المثال لا الحصر (المسخ لفرانز كافكا، الحمامة لباتريك زوسكيند، مزرعة الحيوان لجورج أورويل، والغريب لألبير كامو، بيانو فاطمة لمحمد المخزنجي، صخب البحيرة لمحمد البساطي وغيرها..)، على أنني وبكل أريحية أستطيع ان ألحق نص البوكر بهذه النماذج المتقدمة. وخلاصة هذا الأمر أن هناك رواية جيدة ورواية رديئة، بصرف النظر عن طول أو قصر هذه الرواية، وأزعم أن قارئ هذه الرواية سيجد أنها سبيكة سردية من عيار خاص جدا وقد تميزت بلغة مناسبة لمقتضى حال الخطاب على مدار الرواية.
الأحداث وملخص الحكاية:
عبر السياقات الدلالية اللغوية التي حظيت بالخصوصية لدى الكاتبة هيلانة الشيخ، راحت تسرد لنا في هذا القالب الروائي القصير_ قصة كاتب ثوري يعاني من آثار قصة عشق فاشلة، وحياة مهنية بائسة بسبب ميوله الثورية وعدائيته لحكومة بلاده، ليبقى مشردا حتى تأويه سيدة متقدمة في العمر، فيقيم في بيتها ثلاث سنوات حتى يشعر باختناق تحت وطأة معروفها الذي أولته إياه، ويزداد توقه لحرية لم يشتم رائحتها من زمن بعيد، فيعزم على اتخاذ قرار هجرها والرحيل من بيت هذه السيدة في عمان ويتركها تعاني ألم فقدانه وأن تعود وحيدة كما كانت، ترك إربد لينتقل للعيش في عمّان، حيث تقوده الظروف إلى الانخراط في أمور السياسة ومناهضة الحكومة، فتجره حماسته إلى السجن، وهناك تلقي الرواية الضوء بكثير من تفاصيل حياة السجن وطرق التعذيب ومعاناة أصحاب الرأي وان حرية التعبير في هذه البلاد ليست مكفولة على أي حال، يخرج الكاتب من المعتقل ليكون صداقة مع «محمد» أحد الشخوص الثانوية في الرواية ومن ثم يتعرف على زينة أخت محمد لتصير قصة حب جديدة تنتهي بالزواج وينجب منها يوسف ثم يعود إلى مزاولة ثوريته على إثر حادثة شهيرة في أحد سجون الأردن حين قالت الحكومة أن هناك سجين أحرق نفسه بينما يؤكد أهل هذا السجين أنه مات تحت وطأة التعذيب، تحت قسوة التحقيقات تضافر خوفه على زوجته زينه وأنها في حملها الثاني فاجتهد في الخروج من التهم الموجهة إليه بشرط كان قد ألزم نفسه به، ألا وهو البحث عن مكان آمن وحياة هادئة، ونجح في الحصول على وظيفة بدولة الإمارات ساعده في ذلك بعض تنازلات قدمها في سبيل الحصول على تلك الوظيفة، فتحول قلمه الحاد السليط إلى حبر بارد، على الجانب الآخر من الصراع تسرد الرواية حكاية البطلة بتقنية ال«Flash Back» بعد ظهورها في سن متقدم في مطلع الرواية تطل علينا بتوالي الاحداث لتسترجع وقت انتقالها إلى دولة السعودية تحديدا إلى البكيرية محافظة القصيم، وزواجها من رجل سعودي مزواج، وفي تلك الاثناء تقدم الرواية تشريحا مجتمعيا عن تلك المنطقة التي يحكمها قانون القبيلة والتشدد الديني، في جرأة اتسمت بها الكاتبة في أعمال سابقة كشفت فيها مثالب المجتمع العربي بعامة والسعودي على وجه الخصوص، تنعم البطلة بطلاقها ثم معاناتها مع الفقر والوحدة بعد وفاة والدها وعملها كخادمة في البيوت فتنتفض وتقرر السفر، وتعود إلى بيتها في عمّان لتقودها الظروف إلى مقابلة هذا الكاتب البائس المشرد فتتوطد علاقتهما وتستطيع إقناعه بالعيش معها ورفقة دامت ثلاث سنوات بإيهامه أنها كاتبة حتى اكتشف حقيقتها، ثم تعاني ألم فقدانه بعد أن هجرها، وتعمل على تحقيق حلم الكتابة الذي طالما راودها، إلى أن يتفاجأ بطل الرواية بينما هو جالس مع زوجته بصورتها على شاشة التلفاز في خبر يؤكد فوزها بأكبر جائزة في فن الرواية.
إسقاطات وإشارات مبطنة حفلت بها الرواية:
حفلت بالعديد من الإسقاطات التي تماست مع الواقع في غالب الأحيان.
منها مثلا ما جاء على لسان شخصية البطل في إشارة إلى وضع الأمة العربية المتردي وحالة الغثاء والوهن التي استأنس بها العرب : «هل كان الأجدى بي أن أمكث مع تلك الهالكة، وأن أحتمل كهولة عقلها وسذاجة عقلها ككل عربي راضخ مستسلم ومسلم للقوانين العاهرة؟» كذلك تطرقت الرواية لنقد قانون القبيلة الذي يتماس مع التشدد الديني في دولة السعودية متمثلة في منطقة البكيرية تحكي عن بطلة الرواية أثناء إقامتها هناك: «فتصعد السطح وهي تعي جيدًا أن صعود السطح جريمةً نكراء ربما تؤدي بها للموت رجمًا، وتفتح النافذة وتقترب من الباب وتتراجع مرعوبةً؛ فوالدها غرس في رأسها معتقدات هذه البلدة ومدى غضبهم من الفتاة التي ينكشف وجهها ولو بالخطأ. وكان يسرد لها قصص النساء اللواتي تعرضن للجلد والضرب من قبل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بينما هي تحلم بحياة مختلفة كلما شاهدت صور والدتها بثيابٍ أنيقةٍ وأماكن عامة لا تغطي شعر رأسها الأشقر، تسأله: ولماذا والدتي لا ترتدي العباءة؟!!! وهل تعتبر كافرة بهذه الثياب؟
فيبتسم قائلًا: لا، والدتك سيدة مؤمنة تصلي وتصوم وتعطف على المساكين، لكن هذه الصور قديمة وفي عمان، والوضع هناك مختلف عن هنا، فلا توجد هيئات ولا يتدخل أحد فيما يرتديه الأخرون.
ولكي يُرهب قلبها من الانقياد في عشقها لوالدتها وارتكاب حماقة بترك الحجاب تمادى في سرد القصص واختلاقها بعض الأحايين حتى اقتنع أنها لن تتهور ذات يوم وتتبرج كوالدتها الفاتنة».
.كذلك تخلي كاتب ما عن قضيته التي ظل طيلة عمره منشغل بالدفاع عنها_بسبب الحاجة إلى العيش في أمان وينأى عن ذلك المصير المعروف لدى الأنظمة الدكتاتورية.
الشخصيات:
الشخصيات: البطل هو كاتب ثوري يعيش بقصة حب فاشلة وحياة مهنية بائسة.
البطلة سيدة متقدمة في السن يراودها حلم الكتابة فيكون سببا لإيواء شخصية البطل، وتنجح في ذلك مع نهاية الرواية. وقد آثرت الكاتبة عدم التصريح بأسمائهما. كذلك أغلب الشخصيات الثانوية لم تعين الرواية أسماءها كزوج الابنة ونسائه وأبي البطلة، ولم يته القارئ. بل عملت هذه التقنية على شد انتباه القارئ واشتغاله بالبحث عن أسماء الشخصيات الرئيسة، شخصيات ثانوية: زينة التي تزوجها الكاتب، ومحمد أخوها، ذلك الصديق الذي صحب الكاتب بطل الرواية بعد خروجه من السجن.
المكان:
يقول الناقد أحمد زياد: «بداية لا بد من الاتفاق على أن المكان في الروايةأياً كان شكله، ليس هو المكان كما هو في الواقع الخارجي ولو أشارت إليه الرواية وعينته أو سمتهم بالاسم.. يظل المكان عنصراً فنياً من عناصر الرواية، فالمكان هو المكان اللفظي «المتخيل» أي المكان الذي صنعته اللغة انصياعًا لاغراض التخيل الروائي. فالنص الروائي يخلق عن طريق الكلمات مكانًا خياليًا له مقوماته الخاصة وأبعاده المميزة». وأعتقد صحة هذا القول على عمومه، ونحن حين نقتفي محور المكان في رواية البوكر نجد صحة هذا التعميم جلية في سياقاتها التصويرية عبر نسيج لغوي يتكئ على الكثير من الشاعرية، واختارت الكاتبة دولتي الأردن والسعودية مكانا أساسيا ومسرحا متنقلا لأحداث الرواية مابين عمان، إربد_
والبكيرية، محافظة القصيم. ثم جاءت دولة الإمارات كوطن أخير بمثابة اللجوء الآمن لشخصية بطل الرواية.
الزمان:
يمكننا الحديث في عنصر زمن الرواية بشيء من التفصيل حيث جاءت أحداث الرواية في نمطين زمنيين.
الأول: الزمن الاستطرادي، وهو المنطقي الذي لابد من وجوده لاكتمال أي بناء حكائي.
وامتد الزمن الاستطرادي لرواية البوكر من «أيلول الأسود» ذلك الاسم الزمني الذي أطلق على مرحلة الصراع الذي نشب في الأردن بين القوات المسلحة الأردنية بقيادة الملك حسين، ومنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات في المقام الأول بين 16 و27 سبتمبر 1970 مع استمرار بعض الأعمال حتى 17 يوليو 1971_إلى الوقت الحالي.
الثاني: الزمن استرجاعي «Flash Back»
إذ بدأ خط سير الاحداث من بيت البطلة المسنة وعلاقتها بالكاتب المشرد ثم تنتقل بالاحداث لتعود إلى ما قبل زواجها من رجل سعودي في البكيرية وطلاقها ثم عودتها إلى عمان لتأوي ذلك الكاتب، ثم ما انتهى إليه السرد من خاتمة صادمة بنفس تقنية الاسترجاع.
الحبكة:
كراوية عليمة اتخذت الكاتبة الضمير «هو» للكشف عن أحداث القصة ووصف أشخاصها، وفي هذا المقام لا بد من التنويه على حنكة الكاتبة وجرأتها في طرح الشخصيتين الأساسيتين دون أسمائها على طول الرواية.
ولم تكن حبكة هذا العمل تقليدية بتنامي الأحداث المتشابكة إلخ…، إنما أقحمت القارئ في بؤرة الأحداث الساخنة من أول مقطع، وعلى صعيد آخر من الرواية اشتغلت الكاتبة على الصراع الخفي بين بطلي القصة الرئيسين لتفاجئنا في ذروة هذا الصراع بظهور البطلة في مكان وزمان لم يخطر لمتتبع سير الأحداث أن يتنبأ بهما، فتكون الرواية بهذا قد تضافر فيها حبكتان وليس حبكة واحدة ألا وهما «حبكة الصراع» بين مآل كلا البطلين و«حبكة السرّ» في فوز البطلة بجائزة البوكر في مشهد مباغت، ذلك السر الذي اتخذته الكاتبة تكئة ليكون بمثابة الإضاءة الكبرى أو رفع الستار عن ارتباط الرواية بعنوانها. وكان هذا النجاح لبطلة القصة في تحقيق حلم حياتها، هو الأساس الذي اعتمدت عليه الكاتبة في إحداث ثقل الحبكة ومباغتة القارئ بخاتمة تحمل في جعبتها الصدمة من جانب والدهشة من جانب آخر، بالإضافة إلى تقنية ال «Flash Back» التي استخدمت كعامل جذب وإثارة للقارئ، فجاءت الرواية وحدة مترابطة بلغة روائية بليغة خلت من الإسهاب والإطناب، واتسمت بالشاعرية أحيانا كثيرة.
ختاما:
ربما تجدر الإشارة إلى أن هذه الرواية الرابعة للكاتبة السعودية هيلانة الشيخ، وغالب الظن أن هيلانة قد عاصرت أحداث هذه الرواية ربما لأنها فلسطينية الأصل سعودية الإقامة من مواليد الأردن فاجتمعت لها كل خيوط الأحداث الواردة في روايتها وربما عاصرت أحداث هذا الرواية، أو أنها شديدة الالتصاق بأحداثها،
أزعم أن «البوكر» تعويذة لغوية فلسفية، بمشهدية تصور واقعية زمكان الرواية وأشخاصها. أعجبني الحفاظ على نسق لغوي رفيع طوال خط الرواية في رنين موسيقي للجمل الداخلية وانتقاء المفردات التي راعت مقتضى حال المعنى، والوقع الممتع للمستوى الصوتي والدلالي لمفردات هذا النص الصغير حجما الكثير جمالا.