لا أحب الألفاظ المقفلة عند وصف عمل أدبي ولا أستخدمها، لا أقول مثلا: رواية مدهشة، نص رائع.. الخ! هذه ألفاظ خادعة، توهمُ القارئ وقد توهم الكاتب نفسه فلا يرى اتجاه البوصلة.. ثم أنها لا تحمل إفادة، فكل النصوص مدهشة.. حتى في ركاكتها!
لكنني أقول بقلب جسور: هذا النصّ رائع، وهذه الرواية مدهشة؛ “السندباد الأعمي”، لبثينة العيسى.
قصة جريمة مكتملة لخيانة لم تكتمل، وأسئلة حائرة في النفوس ستظل بلا إجابات، حدث استثنائي في حياة أسرة كويتية، زوج يضبط صديقه إلى جوار زوجته فيقتلها ويهرب الآخر ويسجن هو، ثم يليه حدث استثنائي في حياة الوطن، الغزو العراقي، ليصير غلافا للحكاية المؤلمة بفصولها المتوالية، هي من المرات المعدودة التي أقرأ فيها ما حدث في الغزو من منظور إنساني بحت، وأثره الذي ما زال عالقا في كيان الجميع. هل خان الشقيق شقيقه؟!
هي رواية الثنائيات الضدية بامتياز؛ الوفاء والخيانة، الأمان والخوف، الطفولة والشيخوخة، الانتماء والضياع، القبح والجمال، الشك واليقين، البوح والكتمان، التحقق والتلاشي.. وغيرها!
لا شيء محسوم، حتى بعد انتهاء السطور الأخيرة بكلمة “تمت” ترى أن لا شيء تم. هل وقعت الخيانة؟ هل قتل نواف عامر، هل أحب نادية. هل يحب فواز مناير، من الجاني ومن الضحية! أم الجميع ضحايا للجميع.
رواية كويتية من السفح للذروة، تحتفي بمحليّتها، تتشمم فيها رائحة الشوارع والبيوت والديوانيات وتسمع دندنة العود والعدنيات والصبابة والدنف، وربما تتذوق المعبوج واللحم المنتوف والدقوس.. هذه طلاسم لا يفك شفرتها إلا كويتي أصيل، ولم تقدم الكاتبة هامشا واحدا يشرح لك مفهوما لمصطلح، ومع ذلك لا تقف حائلا أمام استيعابك للنص وروحه..
الرواية على لسان راوٍ بارع جدا. عليم، لكنه ليس عليما تماما، مثل رب إغريقي غير مكتمل الربوبية، ذلك أنه لا يعلم كل العلم، ولا يثق كل الثقة، وهو يروي ما يعرفه الآخرون، وفوق ذلك يتقمص روح الشخصية التي يحكيها في كل فصل ففيما يتحدث عن “عامر” فإنه يتبنى لغته ومزاجه النفسي وقاموسه المعرفي، كذلك نوّاف ونادية.. وهكذا، حتى تلك الفصول التي ترويها مناير ذات التسع سنوات، سيظهر راو ساذج يغلب على تفكيره الظن، عبر لغة سهله تلائم طفلة، ومزاجه النفسي واضح وبسيط.
نهايات الفصول مدهشة، جملة واحدة تحمل قدرا هائلا من الشجن، بلا ميلودراما فارغة أو استصراخ. كأنها تحملك بالأسى لتدخل إلى الفصل التالي باحثا عن سلوى!
نهايات ذكية بارعة، وغير متوقعة غالبا. من بينها مشهد فارق هو مشهد الخيانة! معقّد ولا يمكن الإحاطة بتفاصيله وتداعياته في سطور قليلة، تساءلت كيف ستتعاطى معه في الفصل التالي. لجأت بثينة في الفصل التالي لتبني صوت مناير، الطفلة، ليحكي الراوي بانطباعها عما رأى وفهم، ليأتى المشهد مفهوما ومستورا وموحيا، ويقبل احتمالات عدة.
للزمن الروائي ثلاث مسارات، الحالي والماضي والمستقبل، النقل المباشر والاسترجاع والاستباق الزمني. تبدأ القصة بحدث آني يتمثل في هروب المساجين إثر الغزو العراقي، ثم العودة للوراء عاما، لسرد أسباب الجريمة التي دخل نواف السجن في إثرها، ثم تتعدد الأزمنة الماضية في استرجاع تاريخ الشخصيات، وفي خضم سرد حدث آني لا تتردد الكاتبة في التصريح بأن مناير ستفكر في تلك الاستعارات عندما تكبر. ثم تصرح في موضع تال بأنها ستتزوج فواز. وأن قدرهما الألم والعذاب. لكنك لن تشعر بأن أحداثا احترقت، فلا يهم ما يحدث، ولكن (كيف يحدث؟)
اللغة رائقة، ذات كثافة شعرية من سطر البداية حتى “تمت”، تضفر الأغاني وأبيات الشعر في متن النص، تعرف كيف تستخدم الصورة الروائية استخداما ذكيا حساسا، يعكس الجو النفسي الذي تفرضه الحكاية، التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز، دون تكرار أو افتعال، ربما مرة واحدة تكررت الصورة، لكن لا يهم، ربما كتبت الفقرتين في فترتين متباعدتين، وربما فرضت الحالة لغتها في لحظة مشابهة، (شيء ما مثل نصلٍ مدبب انغرس في ضلوع نواف) بينما صورة مجازية أخرى لم تعجبني: (وعرف بأن هناك سنتمترات قليلة باقية من قلبه لم تمت تماما!) هذه الصورة أقل جودة من مثيلاتها، وتصور القلب كمساحة ميتة، عدا سنتمترات قليلة، لكن هذه السنتمترات نحن لا نعرف نسبتها، فضلا عن قياس المعنوي بالمادي!
باستثناء ذلك وهنات لغوية بسيطة ، أقول مطمئنا إن هذه الرواية ستذهب بعيدا.. وشكرا لكاتبتها بثينة العيسى