(تأملات آية ) :
(وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ )
الحلقة الثالثة:
ذكرنا في الحلقة السابقة أن موضوع الآية هو مجاهدة النفس والانتصار (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) ، والمتأمل يجد أن الصراع الأول والأخير في تلك الحياة هو صراع النفس ،وهو تجسيد لماهية الصراع الأزلي بين الخير والشر، فالنفس تتخالف على صاحبها بالشهوات والأماني، والإنسان يشد لجامها بالحلال والحرام والعيب والمقبول .
تخيل للحظة كيف سيصبح شكل الحياة إذا أطلقنا العنان للنفس، فأصبح كل شيء متاح دون ضابط، عندها تصبح الحياة غابة، قوامها الشهوة ودافعها الرغبة، وقد كانت كذلك في الجاهلية الأولى، والمتأمل لأحوال الناس في عصرنا الحالي يجد أخيلة من تلك الجاهلية في نماذج غلبت عليها الدنيا، ورأت أن التنافس فيها بكنز ملذاتها وشهواتها. إلا أن جاء الإسلام فجعل ترويض النفس من العبادة، إلا أن الإنسان بطبيعته الطموحة لن يرضى بذلك التلجيم ، فجعل الله له ميدان واسع للتسابق والتنافس وتباين المنازل والدرجات في الدنيا، وجعل الله الإنفاق باب التمايز بين الخلق، والقصد هنا ليس الإنفاق بذاته ، بل الجامها وترويضها ، ولعل هذا المعنى يتقارب لدى البعض في مفهوم الصيام ، فعبادة الصيام تعمل على ترويض النفس بصرفها عن الطعام والشراب والشهوة، فماذا عن الإنفاق ؟!
الإنفاق باب سماحة لا باب تكليف، أرأيت إن كلفت أحد بمهمة بتاريخ ووقت محدد، فاجتهد في أدائها فأثبته، فكان عمله ابتغاء الثواب والتقدير وخوفا من العقاب والتكدير، واجتهاده محسوب بضوابط الإخفاق والنجاح. ففي حياتنا الدنيا نحن نعطي، لكن جلنا ينتظر المقابل، نعطي الحب للأبناء وننتظر المقابل برد الحب بالحب، نعطي الإخلاص والجهد في العمل وننتظر المقابل في الراتب والعلاوات، نعطي التقدير والاحترام للآخرين، وننتظر منهم المقابل بالاحترام والثناء، الا إن المقابل في الإنفاق ربطه الله سبحانه وتعالى بغاية أكبر.. ألا وهي اليقين.. وكأن الإنفاق تدريب إلهي بإثراء اليقين في نفوس من يمارسون الإنفاق، وكأن الإنفاق روشتة علاج لكل من هامت به الدروب واستشكلت عليه الرؤية.
وسمة الإنفاق أنه يأتي طواعية لست مجبرا عليه ولا مطالب به ولا تدفع عليه دفعا، ولا يأتي إلا طواعية، برحابة نفس ، وسماحة بال، ولقد لاحظت سمة عند كثير من المنفقين هو النفس التواقة ، هم تواقون للعطاء يجدون سعادتهم فيه ، ولو كان عندهم كنوز الدنيا ما استقرت عندهم إلا لغاية خير ،فكلما أنفق يشعر بلذة لا مثيل لها ، فيشدد على نفسه لينفق ثانية ولا تتحقق غاية الانفاق إلا باليقين في جانبين اثنين :
الجانب الأول: إن المال لله، فترجع الأصل لصاحبه، وتعي إنك مؤتمن عليه لفترة محدودة هي سنوات عمرك التي تعي فيها .
الجانب الثاني: اليقين بما دخر الله للمنفق، وإنك تستثمر مع الكريم الرحيم الغفور المجيد..
فإذا تم اليقين في نفسك ؛ رافق الإنفاق الفرح والسرور ومن ذلك حكاية لطيفة لصديق لي كان يعمل في المملكة العربية السعودية ، وكان اعتاد هو وأبناؤه كل يوم أثناء توصيله لهم المدرسة بأن يتصدق وهو يستحضر في ذهنه قول ( ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا) ، وقد أصبح الامر عادته، وأخد يعلم أولاده تلك العادة بأن يعطي الصدقات الى أولاده فيعطوها لأصحاب النصيب ، وفي يوم من الأيام سأله ابنه لماذا نفعل ذلك ؟
فقال له الوالد بيقين الحكمة : نحن في حاجة لهم أكثر ما هم في حاجة لنا، وإنما استخدمنا الله لفك كرباتهم ولو شاء الله ما استخدمنا واستخدم غيرنا؟
فقال ابنه: لكنهم هم من يأخذون منا ولسنا نحن من نأخذ منهم؟
– إنما يأخذون منا بإذن الله، ولو ما أذن ربنا ما أخذوا
– فيبدو أن الاقتناع لم يخاطب ود الابن، فأومأ برأسه إشارة لعدم الاقتناع والفهم.
– فيكمل صديقي قائلا وكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يعلم أبني درساً من لدنه، فجاءنا اليوم التالي، نبحث عن مسكين نعطيه نصيبه من الصدقة، فلم نجد.. كان الأمر عجيبا رحلة المدرسة تستغرق يوميا 15-18 دقيقة نمر بشوارع بها عدد كبير من عمال النظافة والعمال وأصحاب الحاجات، وكأن كلهم اختفوا.. لم نجد، فأخذنا ببحث في الشوارع جوار المدرسة فلم نجد.. فعدنا نلتمس في طريقنا إلى البيت أحد فلم نجد.. اختفوا كلهم..
– فنظرت الى ابنى وقلت: من في حاجة من يا عبدالله؟
– وابنى يردد مش معقول.. حتى وجدنا عامل نظافة على أول الشارع فتوجهنا اليه بالسيارة مسرعين فما وصلنا عنده إلا وقد اختفى …
– وتكرر الأمر ثلاثة أيام بهذا الشكل، حتى طالبت ابني بالاستغفار ووعي الدرس والغاية منه.
– فما كان اليوم الرابع إلا وجدنا ضالتنا وبغيتنا، فالله فرحتنا في ذلك اليوم بأن وجدنا مسكين أكبر من فرحته المسكين بالصدقة وكأنما كان عفو الله علينا بأن تقبل منا ولم يرد الصدقة علينا مرفوضة.. غير مقبولة.
– فأيقن ابني وقتها أن العطاء اختصاص، وأن الله يختصنا بقضاء حوائج الناس وهي مقضية بإذنه، ولكن الشرف أن يكون الاختصاص لك والتكليف باسمك.
إلا أن الله سبحانه وتعالى ربط البر بالإنفاق (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) فكيف يتحقق البر .. نستكمل في الحلقة القادمة والأخيرة إن شاء الله