تشرَّبت القماشة البيضاء آخر قطرات الماء على الجسد المسجى فوق الطاولة الخشبية، فيما تتسرب قطرات أخيرة من بين شقوق الألواح الخشبية ببطء، تتعلق بسطحها السفلي، وتقف هناك متوارية عن الأنظار، تحمل لمعتها المكتومة حزناً لا يبين، وخوفاً دفيناً من مشقة الرحلة البعيدة، بين مكان تعلقها والأرض السحيقة في الأسفل، ويحمل رحمها رائحة حنوط تعلق بالبدن الذاهب إلى مصيره.
يلتف الرداء المنسوج من خيوط الكتان الأبيض حول الجثمان الخامد، مثل كائن يتشرنق، ليكون إلى مرحلة التأهب لما بعد.
لم يبق ظاهرا إلا الوجه الشمعي الملامح، منسدل الجنبات، مرتخي الجفون، وشفتان مطبقتان على تيبس لم تعودا تقدران على الفكاك منه، وفم مسكوك على كلمات أخيرة، تخشبت حروفها في جوفه، وأخرى ما قُدِّر له أن ينبس بها.
استكان الوجه، مستسلما للجاذبية، فبانت أغواره، وفشا فيه جفاف الخلوص من نداوة الروح، وجه رحل منذ زمن، ولم تبق إلا ملامحه التي لم تقدر على الذهاب، على الأقل، إلى الآن.
لم يزل المصباح المنفرد، يتدلى بحذر من قلب السقف المفرود فوق الطاولة، يهيل ضوءه على جنبات المكان الملموس بالموت، تسيل أشعته على الجدران، وعلى همهمات الأسى المحيطة، وعلى البلل العنبري الرائحة، ويحاذر أن يمس الوجه الناضب من الحياة، وأنى له، فيسارع إلى الارتداد عنه، ولكن لا يملك إلا أن يكون إليه، يمتصه الجسد المسكون بالموت متعلقا بما يربطه بالحياة، يحاول الضوء الخلاص، قبل أن يغشي نسيج الكتان الأبيض الوجه المكشوف، تعاينه آخر لحظات الدنيا، وآخر نظرات الحزن مِن حوله.
يشدون دفتي الرداء، فينحبس ما بقي من ضوء مضطرب، بين البشرة اليابسة وجفاف الكتان المطبق، فيستحيل ظلاما مائجا، لا يراه من يربطون العقدة الأخيرة، فيحولون بين المسجَّى وحيدا في شرنقته، وبين أشعة ضوء تلوذ بمآقيهم،،وبحبات الدمع الناشئة على جنبات العيون المشغولة بالطريق إلى حيث يذهبون به.