مقال اسبوعي يتناول فيه الكاتب ” أسامة أحمد العمري ” آية من القرآن الكريم ويفسرها لنا بتأملاته الشخصية وهذه هي الحلقة الرابعة من سلسلة مقالاته التي يفسر لنا فيها عن ” أسرار الإنفاق ” وجمال العطاء كتب ” أسامة العمري ” : ” أسرار الإنفاق وسر جماله ” (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) توقفنا أن الله سبحانه وتعالى ربط البر بالإنفاق (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) فكيف يتحقق البر.. والشريك الثاني في المال إنّه الوارث، ينتظرك إلى أن تضع رأسك، ثم يستاقها وأنت قد سلبت بالموت كل ما تملك في الدنيا وأصبحت من غير أهلها. إن الوارث يقول لنفسه: ” فلأستمتع بما ترك لي ” ، وهذا هو الشريك الثاني في المال. والشريك الثالث في المال فيقول: والثالث أنت، فإن استطعت ألا تكون أعجز الثلاثة فلا تكن أعجزها، أي إياك أن يغلبك على المال القدر أو الوارث، ينبغي عليك أن تغلب بإنفاق المال في سبيل الله وإلا أخذه منك باقي الشركاء . صدق الصحابي الجليل أبو ذر ، فبأي حجة نقابل بها الله إن رزقنا وأكرمنا وأعطانا واصطفنا ثم غللنا ، وبخلنا وأقطرنا وأمسكنا …
” تأملات ايه ”
والحقيقة أن هذه الآية عجيبة تغلغل داخل النفس البشرية فتكشف خباياها وتضعها في تحدى كبير، وفي حياتنا اليومية إذا أوكلك شخص ماله أو أصوله لتتاجر بها ، فأعطاك مزرعة أو تجارة أو مال ، فأخذت ما أعطاك وقمت على تنميته، فإذا جاء وقت الحساب طلبت منه نسبتك فيما أربى لك .. فأنكرتها ؟
فيقول لك هذا مالي وأصولي ومن دونها لم تحقق شيئا مما حققت ؟
فيرد عليك: وهذا جهدي وعقلي وتعبى وإنما رددت علىّ أصولك ورأسمالك مع الفوائد والأرباح .
ولله المثل الأعلى ، فالله يهبنا العقل والصحة والقدرة والفهم والسعي ، ثم يفتح علينا باب رزقه وكرمه ويسبغ علينا بنعمه ، فإذا طلب حقه في ذلك امتنعنا وتحججنا وانصرفنا عن الانفاق بشتى الأعذار والحجج ، وكأننا نرى من رحلتنا في الحياة أنها دنيا فقط ولم نعي أن ما نفعله في الدنيا هو خير زاد ومعون للآخرة .
والله يصيغ الكرامة والود بين الناس بشرائعه ، فيحبب لنا الإنفاق بأن ننفق ما نحبه ، لا ما نستغنى عنه ، أن ننفق ما نشتهيه ، لا ما نعافه ، أن ننفق ما يغلى في نظرنا لا ما نزهد فيه و نسأمه.
والقاعدة السلوكية الإلهية أن نحب لبعض ما نحب لأنفسنا ، وأن نتضافر على الخير بزهد في خير من الدنيا ويقين ببركة الله وسعة عطائه، وهذه لفتة للقادر لكنها أيضا باب رحمة للمساكين ، بأن الله وليهم وحبيبهم وقريبهم وكفيلهم.
فيقين الغير قادر بالله بأنه كافيه ( أليس الله بكاف عبده )، فالله يتخير من عباده من يوكل به العطاء ، ويستعمله لقضاء حوائج عباده ،
أثناء ولاية سيدنا أبو بكر الصديق – رضي الله عنه ، تعرض المسلمين إلى الجوع والجفاف ، وحين ضاق بهم الحال توجهوا إلى أبي بكر الصديق ، وقالوا له ماذا يمكننا أن نفعل فالأرض لا تنبت والسماء لا تمطر وكدنا أن نهلك ، فقال لهم الخليفة ؛ انصرفوا الآن وعليكم التحلي قليلًا بالصبر ولن يأتي المساء إلا وفرج الله قد جاء ؛ وهو يقول ذلك لأنه موقنًا بفضل الله وكرمه .وفي نهاية اليوم جاء الفرج بالفعل وظهر الخير من خلال قافلة جِمال تابعة إلى سيدنا عثمان بن عفان – رضي الله عنه – قادمة من الشام إلى المدينة المنورة ، وعندما وصلت القافلة جاء المسلمون لاستقبالها وكانت هذه القافلة تتكون من ألف جمل محملين بالدقيق والزيت وبعض البضائع والأغذية ، ووقفت هذه القافلة أمام بيت عثمان ونزل ما بها من خيرات وطعام في منزله ، وذهب إليه التجار كي يبتاعوا منه نظرًا إلى حاجة الناس إلى ذلك .وهنا قال لهم سيدنا عثمان رضي الله عنه وما الربح الذي سوف أربحه من ذلك ؟ فقال التجار له سنعطيك عن كل درهم درهمين ، فقال لهم ولكني حصلت على أكثر من ذلك من غيركم ، فقالوا سندفع لك أربعة دراهم ، فقال عثمان أعطاني غيركم الكثير ، فقال التجار سوف نعطيك خمسة دراهم ، فقال لهم أيضًا لقد أعطاني غيركم أكثر ، وهنا تعجب التجار جميعًا وقالوا له من هذا الذي أعطاك فلا يوجد تجار داخل المدينة غيرنا ولم يأتي أحد إليك قبلنا أيضًا . فقال لهم عثمان – رضي الله عنه– أعطاني الله تعالى بكل درهم عشرة ، والحسنة بعشر أمثالها والله سبحانه يُضاعف لمن يشاء ، فهل عندكم أكثر من ذلك ؟ فقالوا جميعًا لا .وهنا قال عثمان ؛ إني أشهد الله تعالى أني قد جعلت كل ما حملته الجِمال صدقة لكافة فقراء ومساكين المسلمين ، وقام بتوزيع الأطعمة والبضائع عليهم ، وهنا أخذ كل فقير ما يكفيه هو وأهله ولم يبقى أحد دون طعام .
وعندما نزلت الآية الكريمة(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) هرول أبو طلحة إلى رسول الله يقول: يا رسول الله، إن أحب مالي إليّ هو ” بيرحاء ” فأنا أخرجه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعله في أقاربك، فجعله في أقاربه، وهذا زيد بن حارثة يسمع الآية الكريمة فينفعل بها كذلك، وكان عنده فرس اسمه ” سَبَل ” وكان يحبه، فيقول: يا رسول الله أنت تعلم حبي لفرسي، وأنا أجعله في سبيل الله فأخذه منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء بأسامة بن زيد وأركبه الفرس قال زيد: ” فوجدت في نفس ” أي أنه حزن، وقال زيد: يا رسول الله أنا أردت أن أجعل الفرس في سبيل الله وأنت تعطي الفرس لا بني ليركبه. فقال رسول الله لزيد: ” أمَا إنّ الله قبله منك “.وبعد ذلك ينفعل سيدنا أبو ذر رضي الله عنه وكان عنده إبل، والإبل لها فحل يلقح إناث الإبل، وكان هذا الفحل أحب مال أبي ذر إليه وجاء ضيف إلى أبي ذر, فقال له: إني مشغول، فاخرج إلى إبلي فاختر خيرها لنذبحه لضيافتك. فخرج الضيف، ثم عاد وفي يده ناقة مهزولة، فلما رآها أبو ذر قال: خنتني، قلت لك هات خير الإبل، قال الضيف: يا أبا ذر لقد رأيت خيرها فحلا لك وقدرت يوم حاجتكم إليه. فقال أبو ذر: إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي.
وكان أبو ذر يلفتنا إلى أن الحاجة هي يوم العرض ، وإنما المجال هنا للعطاء والاسترسال فيه ، حيث ينفع المال وتعين الصحة وتغنى العزوة فهذا هو وقت الإنفاق والعطاء والمبادرة .. استحضارا لقوله تعالى (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) . وسيدنا أبو ذر رضي الله عنه يعطينا في مسألة الإنفاق درسا رائعا فيقول: في المال شركاء ثلاثة: القَدَر لا يستأمرك أن يذهب بخيره وشره من هلك أو موت. أي أن القدر لا يستأذن عبدا في أن يذهب بالمال حيث يريد، فتأتي أي مصيبة فتأخذ المال إلى هلك أو موت. هذا هو الشريك الأول في المال، إنه القَدَر.
أنفق ينفق الله عليك وأعط … يعطيك الله من فضله والله مفتوح المجال يتجاوز مفهوم المال إلى النصيحة والعفو والعون ، تفريج الكربات ، والإنصات ، والدعم ، العلم .. فاجعل يقينك .. باب حجتك أمام العزيز القدير .. وتذكر قوله تعالى (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ)