” الواحد اللانهائي وحمدان ”
دراسة عن رواية ” ظلال القصب ” للروائي ” حمدان طاهر ”
بقلم الكاتب :
” اسماعيل ابراهيم عبد :
في البدء بودنا القول : ان بعض البيئات الثرية لا يمكن الكتابة عنها دون ان يكون الكاتب قد تعامل معها عبر النشأة , او التعايش المتعمد معها , او العيش الاضطراري فيها .. ومن هذه البيئات (البسيطة / المعقدة) أهوار جنوب العراق التي مثلت بيئة نقيضة للسلطات المركزية على مدى التاريخ .
على وفق هذه البداية يمكنني توضيح معنى الواحد اللانهائي . إنني اقصد بان الهور هو الواحد الذي لا يموت , تتبدل الحكومات والأحوال الجوية والتغيرات الاجتماعية , لكنه يظل واحداً أزلياً , لا نهاية لوجوده , لا نهاية لروحية أهله من جانب الطيبة والكرم والشجاعة . اما شأن حمدان وروايته ظلال القصب فهو شأن فني منحاز , يومئ الى التسليم بنهاية الهور وهجرة أبنائه , لكن المخفي وراء السطور يوحي الى ان الهور سيظل الواحد المتفرد من بين عناصر التكوين للإنسانية والطبيعة غير قابل للزوال .. سنتعرف على بعض شؤون الرواية وحكايات الهور المجيدة , على النحو الآتي : أولاً : طبيعة صادمة صامتة
صرنا الآن نعرف ان كلكامش قد أصدر ملحمته , لتكون شاهداً مدوناً على طبيعة زمنه القدسي والاجتماعي , لكن لماذا يأمر شورباك بأن يهدم البيت ويبني قارباً , وينصح بن اوبارو ـ توتو أن يهجر كل ما يملك ويطلب الحياة , يحملها بذرة في مركبه؟ ان التبرير الأقرب للقبول يقول : الطبيعة في الهور صادمة صعبة قاهرة لكل تطلع مشرق .
تُرى هل أدرك فواعل الرواية ذلك؟ هل حقق الكاتب المؤالفة بين الطبيعة القاهرة وسلوك حيوات من اجبروا للعيش بها ؟ .
وثمة أمر , هل استيقظ المصدومون من غفوة الاعياء المميت؟
لنتواصل مع منظومة الواحد اللانهائي الخالد (الهور) , وما سيبدو من سلوك وحركة وأنفس لكائناته الخالدة حتى بموتها.
يقول العم لابن أخية القادم تواً من المدينة الى أهوار الصحين :
[ ” يا ابن أخي لا تستوحش الحياة … كنْ كما أنتَ وسترى كل شيء يصبح جميلاً ” … عند الصباح أخرجُ معه لصيد السمك … وفي المساء عند ليالي الشتاء نحتضن كانون النار الذي يقينا من البرد والبراغيث … ” اذا كنت تحب الحديث فسأروي لكّ حياتي لعلها تكون سلوى لكَ]( ).
يمكننا تسجيل مراحل الصدمات البيئية للأهوار عبر :
1 ـ تبدأ الصدمة الأولى من الإشارة التاريخية لكلكامش الذي ينصح بالتحرر من المكان كخلاصة أخيرة , وهي خلاصة لم يكن سوي التفكير بها.
2 ـ يتطور الروي ليصل الى أول عتبة لوجه الطبيعة الصادمة هذه عبر نصيحة العم (يا ابن اخي لا تستوحش الحياة).
3 ـ تأخذ الصدمة مداها العملي بتوالي الصباح والمساء ليمتلئ الزمن بتعب الصيد ومرارة البرد .
4 ـ يتمم الجو الصادم الصامت أذى الحشرات (البراغيث) .
5 ـ اما الأقسى من الظروف الصادمة المذكورة , فهو الانقطاع عن العالم , والاكتفاء بقص الحكي والصمت . بمعنى ان العزلة ستحكم ظرفها لاحقاً حتماً.
* ان الظروف التي مررنا عبرها لتبرير الصدمة هي ذاتها ستنجز فعل الصمت عبر شخصين مهمين جداً في حكاية الواحد اللانهائي (الهور) . انهما الراوي الحافظ الأخير لأوراق كامل (ابن أخ الراوي الأول) , وكامل , الأمين , الشهيد , الشاهد , على إرث الحق الإنساني لأهل الهور وغيرهم .
ثانياُ : ثراء البيئة أم جدبها!
توصف بيئة الهور بالثراء الكبير ففيها جميع أنواع الطيور والأسماك , الشائع انتشارها محلياً وعالمياً . اما وفرة المياه فعي الظاهرة الأبرز طبيعياً من حصة عمنا (الهور) . وفي الفترة الأخيرة احتوى الهور على كنوز المعادن كالنفط والزئبق الأحمر , فضلاً عن كرم الله الذي حباه لأهل الهور بجعلهم نفوساً طيبة شجاعة مضيافة. لكن هذه الطبيعة نفسها من أجدبت عليهم , وضيقت على أنفاسهم بجور السلطات والحكام فضلاً عن جرائم الحروب , والافتقاد الكامل لوسائل الترفيه والرقي الحضاري بشكل مطلق! . لنحاول استثمار الورقة الأولى من أوراق المتنور الشهيد كامل .
يقوله كامل بورقته المرقمة روائيا برقم 1 , إذ يشير بها الى مضيفه في هور الصحين :
[أريدك تصير معيدياً حقيقياً .. هذا ما قاله وهو يأخذني معه في الزورق بجولة صباحية في أهوار الصيكل . نظرتُ إليه نظرة تلميذ في أول يوم دراسي .
قال هنا كل شيء ضدك , الطبيعة والحيوان والحكومة . ثم أكمل . قال : هنا خنازير وافاعٍ . حين رأى الخوف في عيوني , قال : لا عليك لدي بندقية (كلاشنكوف) ستكون لكَ , ثم أردف يجب عليكَ أن تتعلم السباحة] ـ ظلال القصب , ص57
أ ـ وجهان
قد تتقارب الوجوه او تتقاطع مع بعضها . وان تفحصنا للمقطع السابق يجذبنا للقول , أين الثراء المعيدي لمثل هذه البيئة , التي هي ضد الإنسان بما فيها من طبيعة وحيوان وحكومة. لنرى الأمر من بعد آخر .. بحسب الآتي :
1 ـ الطبيعة الطاردة ليست مستحيلة العيش , فالطبيعة المائية والحيوانات المؤذية يمكن السيطرة عليها بسهولة , ببندقية وزورق . عبرهما يمكن ان تصير الطبيعة هذه ثروة , وهي بالفعل كذلك.
2 ـ الحكومة القاسية لديها برنامجين للأهوار , تطويعهم للسلطة او افنائهم من الوجود , وهنا يجيء العامل المزدوج لثراء وجدب بيئة الاهوار , فإلى الهور يلجأ المغامرون , سياسيون , هاربون من الجيش , المعارضون للدول المجاورة , الباحثون عن ملاذ آمن من مداهمات الأمن الحكومي . والهور بهذا التوصيف ذو ثراء كبير جداً من الجانب المعنوي .
3 ـ الثراء الإنساني قد ينقلب بلحظة الى كارثة من الطراز المتوحش , إذ قد تتعرض الفئات المذكورة من المغامرين الى هجوم حكومي يطال الناس جميعاً دون تمييز بين فرد وآخر .
ب ـ ورائين
ان أتممنا المقطع السابق بلاحق جديد ربما سينقلب الأمر , لنتابع التكملة الآتية : [حين اشتد القصف من الطائرات السمتية خاف الرجل الذي معي فحمل زورقاً صغيراً ووضعه فوق رؤوسنا , فكان ان غط بَلَمُنا بالماء . غطستْ بالمياه وسقطتْ البندقيةُ من يدي , أمسكتُ بجذور القصب لكن المياه كانت عالية . أخذ ينادي الرجل لعل أحداً يسمعه ليساعده بانتشالي من المياه …..
في الليل نمتُ نوماً عميقاً برغم البعوض , حلمتُ بأني رجعتُ الى أهلي . رأيت أمي خائفة . استيقظتُ وانخرطتُ في بكاء مر . استيقظ صاحبي , قال : (عيب لا تبجي الزلم ما تبجي)..] ـ ظلال القصب , ص58
ان العودة الى الوراء ستمدنا بالحس المنجذب الى أُصول قديمة تحتفظ بعمقها الاجتماعي والأخلاقي , خاصة , ان الظرف قد تعدى الحال المتأزم الذي يُنَوِّهُ عنه الرواية , فالقصف بالطائرات لقرى الهور تم في نهاية الثمانينات من القرن الماضي لكن آثاره مازالت تحفر عميقاً بأسى هور الصحين . العودة الى الوراء تعيشنا ورائين , الأول وجداني والثاني عملي :ــ
1 ـ جدب الوراء الوجداني يتمثل في عنف السلطة الحاكمة التي توجه وحش الطائرات لقصف قرى آمنة منعزلة شبه عزلاء من السلاح . اما ثراء الوراء الوجداني فيتقدم به ابن الهور الذي يقلب الزورق ليحمي الضيف , ومن ثراء الشجاعة ان يتحملوا معاً خطر الغرق ولا يستسلموا لسلطة الاذلال.
2 ـ جدب الوراء الثاني يتمثل في التمسك بجذور القصب , الذي يعدُّ مجازفة , إذ هي حال بين الغرق والموت بالقصف , وذات الوقت هي حال بين النجاة بالتخفي والنجاة بكسب الوقت , إذ قد تذهب الطائرات بعيداً , بل هناك ما هو أثرى من ذلك , فجذور القصب وكثافة نباته قد حمت المتخفي بينها من الموت غرقاً ومن الموت بالقصف. * اما الظرف الذي يَلُمُّ المضمونين أعلاه , فهو النوم والحلم والرؤيا , والبكاء كونها نصيحة الصديق , فقد جاءت بخير التواصل مع بواطن وأُمنيات البطل .
ثالثاً : الخِصب السردي
ان النص الذي يفيض عن المتخيل المركب من الصور والأفكار الهامشية ينفذ الى عمق الثقافة ويُخَصِّب الفعل السردي الإنساني قولاً واداءً , تكوّن علائقه مظهراً لنص عابر للحظة زمنه المتوقفة عند الأفعال الماضية. بمعنى ان مرويات الهامش غير المشبع (سيدنا هور الصحين مثلا) هي مرويات اللا رواء في منطق القراءة .
جاءت في ورقة الشهيد كامل المرقمة (13) مقاطع لها علاقة مباشرة بالخصب السردي موزعة في القراءة على النحو الآتي :
أ ـ سردية المتخيل المركب
يقول الشهيد كامل : [تعرفتُ على الناس جيداً , صرتُ واقعياً بدرجة ما , لكن أكثر ما كان يستفزني من الوقت هو وقت الغروب وبدايات الفجر , في هذه الأوقات أحس بالتلاشي والاختناق والاغتراب . السيجارة صديقتي الوحيدة] ـ الرواية , ص71 لنتصور :
1ـ الأفعال التي قام بها البطل (كامل) ليتعرف على الناس من الكلام والحكي , وأعمال المساعدة للناس , وأفعال المجالسة , والأعمال الأُخرى الخاصة بالعيش والحياة اليومية , والأفعال التي قام بها ليتعلم اللهجة ومهنة الصيد وقيادة البلم .
2 ـ لنتصور أيضاً كيف صار البطل واقعياً , ألا يتطلب ذلك منه نسيان حياته في المدينة, وشهادته العلمية , وبيته وحبيبته. ثم أليس عليه تحييد أفكاره السياسية وتعلم أفكار جديدة تتعلق بمسايرة الناس ومساندتهم لتجاوز الصِعاب المتأتية من الطبيعة المناخية والمياه والسلطة الحاكمة , وغير ذلك كثير جداً .
3 ـ ان تصورنا ذلك كله جاء عبر (8) ثمانية ألفاظ هي (تعرفت على الناس جيداً , صرت واقعياً بدرجة ما).
4 ـ إذاً كم هي طاقة المتخيل لدى الروائي ليزج بكل هذه الكثافة وراء جملتين بثمانية ألفاظ .
5 ـ على أساس النقاط الأربع الفائتة يمكننا تقدير الأفعال النفسية والحركية لما وراء أفعال العبارات الأُخر(لكن أكثر ما كان يستفزني من الوقت هو وقت الغروب وبدايات الفجر , في هذه الاوقات أحس بالتلاشي والاختناق والاغتراب . السيجارة صديقتي الوحيدة). ب ـ التخصيب الثقافي
[في أحد النهارات ذهبتُ بعيداً , ربما لاكتشاف مناطق لم أُشاهدها , مررتُ في الطريق على بيت مناهل , مرَّ شهر على رحيلهم الى بغداد . تساءلتُ بيني وبين نفسي هل تمرض البيوت بغياب أهلها؟ رأيتُ ثوبها القديم ملقى على حافة المياه مثل علم منكس . رأيتُ صندوقها الخشبي مفتوحاً مثل تابوت ينتظر جثة. كان هذا الصندوق الذي حدثتني عنه تضع فيه مشطها الوحيد ومرآة كبيرة مع بقجة ملابسها . نزلتُ مثل دفان يدخل الى مقبرة] ـ الرواية , ص71
المقطع الفائت يحيل مباشرة الى القيم الفطرية لسكان الأهوار , في تذكر الغائبين والاحباب , وحتى نمط الحزن , وطبيعة حفظ الأشياء العزيزة . هي تذاوب بيئي انساني لثقافة الهور والمدينة التي جذبت إليه العذوبة والأناقة والحزن السامي الجليل . أقصد ان الموجز أعلاه يحقق وحدة الخصوبة الثقافية على نحو فني مقنع كثيراُ . نرى ذلك يتحرك على وفق الأسس الآتية :
1 ـ البحث والكشف ثقافة عامة وخاصة , عامة في المدينة وخاصة في الهور لكنهما يتوحدان (هنا) بنقطتين : حب الاطلاع , وتفقد منازل الأحبة .
2 ـ الشعور بمرض الديار بعد رحيل أهاليها هو شعور إنساني متسلل من أولى خطوات الوجود الإنساني الذي يتعلق بأرومية نشأته , وهذا الشعور ينتقل مع البشر أينما حلوا وكيفما صاروا , وهو هنا تذكر حزين شديد التأثر , يُعّبِّر عن مزاج تراثي ثقافي لأهل الهور , وهو ذاته ما انسل الى الرجل البغدادي عند مروره ببيت مناهل التي كانت ترعاه مثل عينيها .
3 ـ انشداد كامل للأشياء في الصندوق فعل يقارب حزن مناهل وهي تودعه , مما يعني انعما ينهلان من ذات التراث الإنساني بوحدة مزاحية من الثقافة الى الوجدان وبالعكس . 4 ـ النزول مثل دفان في مقبرة , صورة توازي من يودع قتيلاً , وهي حال مؤسي للبطل يعادل شعور مناهل وهي تمزق قلبها وتودع صاحبها مضطرة , كأنها ستموت لا ان ترحل فقط . بمعنى ان فراق الأحبة المعادل للموت هو ارث مشترك يمثل التخصيب المتداخل بين تراث الهور والمدينة.
ج ـ رقي الشبع والارتواء
[أغلقتُ الصندوق الفارغ , وأخذتُ قطعة صغيرة من ثوبها ذكرى للأيام , ندتْ من قلبي حسرة كبيرة حين تحركتُ . في المساء عدتُ الى البيت جائعاً . دخلتُ الجباشة رفعتُ الكلّة ودون أن أُفكر في طعام أو شراب أخرجتُ قطعةَ القماش الصغيرة , وضعتُها عند الوسادة ونمت] ـ الرواية , ص72
اننا ـ بالتمعن بالمقطع ـ يصير بمقدورنا ان نتوصل الى /
1 ـ غلق الصندوق يعني السكوت على فراغ داخل الصندوق , الذي يعادل الرحيل الممض , وهو اشارة الى ان الأماني والرغبات لن تشبع من قدرها مؤقتاً على الأقل. 2 ـ اخذ قطعة من الثوب يحيل الى الجوع العاطفي العنيف المندمج بالحزن القاهر , وهو فعل عابر لنمطي الشبع والجوع بعلاقة تجمع (الأسف الى الاحتجاج).
3 ـ حسرة القلب تصنع آهة كبيرة تتجاوز الشبع والارتواء الوجداني , لتقيم علاقة التعاطف الإنساني البعيد المتعلق بحق الإنسان للعيش بحرية بمكان آمن ورغيد . 4 ـ اللجوء الى النوم بلا شراب ولا طعام يعطي فكرة عن الهروب غير المنطقي من حقيقة واقع عجز الإنسان عن تغييره , ان لن يكن يسهم بتعقيده! , والعجز فكرة تتجاوز الشبع واللا ارتواء.
* سنلاحظ عند متابعة الفقرات ( أ , ب , ج ) ان الحالات كلها تضخم فعل السرد الروائي , وهذا هو أبرز مظهر ننشده للخصب السردي.
رابعاً : نور التحضر المفتوح
من نور الحضارة ان يكون العشق بين الموجودات الكونية والأرض لراع وشاعر وفيلسوف , مجللون بوعي حاجة النفس والفضاء الى انفتاح كوني مطلق الجمال , له عمق لا يتحكم به عقل ولا تخطيط . لنقرأ الورقة 14:
[تضيق الأرض ويتسع الماء , تتسع العيون على خارطة لا تنتهي من الطرق المائية , الطيور بأصواتها المختلفة كأنما كانت تنادي عليك , أه أيتها الطيور .. هل تعرفين من أنا ؟ من يعرفني الآن لا كلمات لا أغاني تثلج القلب . كل ما هنا مياه , الماء صديق الذين يجيدون عبوره , وعدو من يخاف منه , كيف أتيت ؟ من قال لي ذلك ؟ لم أعد أهتم لهذا الأمر . لابدّ من وجود صديق غير بشري هنا . كنت انظر الى السماء بعيون مغلقة , ولا أفتحها إلّا على خضرة القصب والبردي . صار بيني وبين القصب علاقة من نوع آخر.. أنام على حصيرة من القصب , واستظل ببيت من القصب , وان خفت الغرق كان القصب ملجئي . كنت أمسك به , أتشبث بعيدانه القوية الباسقة , كي أكون في مأمن من كل خطر …
في ليالي الشتاء الطويلة , حين يكون الحلم باباً للدخول نحو عوالم أخرى , يأتي أُخوتي من عالمهم الآخر , أخي تركتْكَ أُمي هنا ألا تخاف؟ وبلهفة أركض نحوهم . ويأتيني صوتهم واحداً : لا يمكن أن تصل إلينا] ـ الرواية , ص72 .
بالقراءة المُقَنِّنة للغايات الجمالية للمشد اعلاه , يتاح لنا القول :
1ـ عندما تضيق الأرض ويتسع الماء ينفتح الفضاء على الكون اللانهائي , وفيه يتوحد الجمال وتُلغى الفجوة بين الوجود الأرضي والسماء . من هذه اللحظة يتمتع الكائن المتحضر الحقيقي بقمة من (النشوى) , وبقيمة من المعنى , وبفن من النعمى لا حدود لجمال هذا الحال .
2ـ عندما تتوحد لغة الطير مع لغة الكائن الحضاري الحقيقي , فيعنى هذا بلوغ النور مداه الأعمق في النفس والجسد والحس الإنساني بالوجد والألم .
3 ـ البحث عن صديق غير بشري يعنى عبور الدلالة الجمالية الى اللا حِس المنطقي في الغامض المفعم بالمتعة غير المشروطة , التي يستهدفها جميع العاملين بالجماليات اللسانية وما بعدها.
4 ـ ان اختيار القصب صديقاً غير بشري هو حال من يختار الواحد المنقذ اللانهائي , كامل التحضر , تام المعرفة , وثيق الخلود , أزلي الاخلاص .. وهذا لا يتأتى الا لمن توصل الى حل اللغز البشري بسؤال المعرفة (أين حدود اللامحدود؟)!.
5 ـ ومن يتعرف على (حدود اللامحدود) سيدرك كل شيء , من المجرد الى المطلق , والى حتى استحضار الأحبة الراحلين.
خامساً : تخطي أعراف النموذج
تعدّ المراجعة لأوليات أي ظاهرة ضرورة لترصن الظاهرة , تدفع بها لعبور النموذج السابق لمثالها العملي ـ المادي . وللفعل الروائي المجاور للحياة والخيال في الهور , المحاذي لقيم سكانه , أهمية متأتية من التجارب الكتابية السابقة , ومن خلق مبرر جديد لتخطي النموذج السابق .
الحق ان أكثر النماذج قُرباً لتجربة (حمدان طاهر المالكي هي ثلاثة نماذج , قصص وحكايات ونصوص مفتوحة لجمعة اللامي , وقصص وروايات محدودة لوارد بدر السالم, وقصص وحكايات د. سلمان كيوش . وطبعاً هناك العديد من التجارب المحاذية لكنها ضعيفة الأثر , ضيقة الانتشار . اما تجربة حمدان طاهر المالكي فهي تخطت النماذج السابقة من الجانبين الفني والثيمي , إذ لم تخلط بين القصص والحكايات والرواية. فضلاً عن أنها تجربة روائية تستثمر الحياة في مكان جغرافي محدد , وزمن تاريخي مدون بقيد السجل السياسي العراقي لمرحلة من أحلك تاريخ العراق السياسي والاجتماعي .
وعلى الرغم من ان النماذج السابقة على الرواية فان ثمة خيط يوصلها بالتجارب السابقة يحتمه عاملان , البيئة والحرب.
ترى كيف استقلت تجربة (ظلال القصب)عن النماذج السابقة؟
نعتقد ان أول فعل روائي هو الأوراق التي تركها كامل , التي تصف الحياة في هور الصحين كما هي , ولا تنكر الأوراق العين السياحية المدونة لتلك الحياة , كون المدون من بغداد جاء لاجئاً الى الصحين , ورصد بعينه وسلوكه , ما أراده معرفة سياحية وعلمية لجغرافية (الصحين) البشرية , عبر فن السرد .
اما القيمة الأكثر جدية فهي ان النظام السياسي لم نجد له ملامح في النماذج السابقة , بينما هذه الرواية كلها مصممة لاحتواء الصراع بين السلطة المركزية والحرية التي يريدها اهل الهور , ومما يميز هذا الصراع ان الجيش المقابل لسكان الهور لا يترفع عن القتل بأي لحظة , لكن ابن الهور له اسلوب آخر , لننظر ونتعلم من قائد مجموعة المقاومة , حين سُئل : أين تذهب أنت وهؤلاء الرجال بزوارقكم؟ قال :
” نخاف ان يأتي الجيش خلسة فيأخذنا أسرى . سيقتلوننا دون شك . أنت تعلو أنني لست مع أحد هما لكنها أرضي وعنها أُدافع . لقد أمسكت أنا ورجالي بالجنود أسرى , ولكني أطلقتهم لا أريد أن أقتل إنساناً لم يوجه إلي سلاحه. انت تعرف جيداً ان هذه المعركة فرضت من طرفين , انا لست منهما ”
لقد دوّن الروائي روايته ليقول أكثر من قضية من بينها تجفيف الأهوار التي لم يلتفت إليها الروائي العراقي , حتى الروائيين من الجنوب , والعودة الى الحياة الطبيعية عند البعض . يقول ابن اخ بطل الرواية الثاني لعمه جبار :
[حين نزلنا في الصحين دهشت لما رأيت . انها تراب يا الهي اين الماء قال هل تذكر حلم السمكة العملاقة الذي قرأته في أوراق كامل؟ السمكة التي تبتلع الماء وتجعل الهور أرضا ها هو يتحقق …
قلت : هل تنسى حكايات عمك جبار؟ الا يمكن ان تزورنا بعد ان تتغير الامور؟ عند الفجر أيقظني , أعد الفطور بنفسه وشربنا أقداح الشاي سوياً . ومع خلل الدخان الذي يغطي وجهه بانت دموع صغيرة من عينيه . ” ستكون بخير وامان يا ابن اخي ” . أركبني في الزورق … ودفعه نحو الماء , وادار وجهه كي لا يرى دموعي التي ودعته وهي تعرف بأنها لن تراه بعد اليوم] ـ الرواية , ص106 , ص109
* كما نرى .. ان الرواية أوجدتْ مجتمعاً على هامش مجتمع الهور , هم اللاجئين اليهم , وكذلك المهاجرين منهم , وكل حال تجد سلطة القوة المناوئة لحرية الفرد والشعب طريقة للاعتداء على سكان الهور , أصل الشعوب والمجتمعات والديانات كلها!.