حلقة جديدة من ( تأملات آية )
( أهؤلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ۚ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ)- سورة الأعراف 49-
الحلقة الثانية
تحدثنا في الحلقة السابقة عن الصور الذهنية وكيف تؤثر على تفكير الشخص وقناعاته، حتى تكلم مفيد وقال: دعوني أخبركم بقصة تدور حول ذلك المفهوم، قصة غيّرت مفهوم حياتي بالكامل..
فأنصت الجميع إلى مفيد وقد اعتدل في جلسته قائلا : عندما سافرت إلى الخارج بعقد عمل، كانت وظيفتي في التعاقد مديرا عاما للشركة وبعد أن هبطت في مطار العاصمة وقطنت الفندق، استقبلت اتصالا من رئيس مجلس الإدارة ، يطلب منى السفر إلى أحدى المدن التي سيقام فيها مؤتمر بتنظيم شركتنا ، سافرت في اليوم التالي ووصلت إلى الموقع ،كانت هناك حالة من الهرج والمرج فالكل يعمل كخلية نحل، وباعتباري مديرا عاما للشركة أخذت أمرّ على الموظفين وأشدّ على أيديهم وأشجعهم وأعرفهم بنفسي إن سمح الوقت بذلك، بينما الجميع في حالة سباق مع الوقت قبل موعد الافتتاح ، أخذت عيناي تتفحص الجميع بحثاً عن رئيس مجلس الإدارة وهو الأنيق صاحب الثياب الجميلة ، فلم أجد أحدا على صفته أو هيئته تماما . وبينما أنا كذلك أوّجه العمال والموظفين إذا وجدت رجلا يلبس بنطالا وتي شيرتا وحذاء رياضيا وحاملا طاولة على كتفه يتحرك بسرعة بين حشود الموظفين ،فلم أعر الموضوع انتباها وأخذت أسأل الموظفين عن رئيس مجلس الإدارة فأخذوا يوجهونني إلى أحد الأماكن حتى وجدته؛ فإذا أنا أقف أمام صاحب البنطال والتي شيرت وقد تصبب العرق منه، فرحب بي على عجل، وقال: نحتاج إلى توزيع كراسي كبار الضيوف ، فأخذت أشير إلى أحد العمال ليحمل بعض الكراسي، فوجدت الرجل استنفر من مكانه وأخذ يحمل الكراسي ويضعها وهو يقول : العمل يحتاج إلى حمية وعمل ولا يحتاج إلى استعلاء وتوجيه . فأخجلني رده، فشمرت ساعدي وأخذت أعيد ترتيب الكراسي معه بنفسي.
حتى إذا انتهى المؤتمر أقام رئيس الإدارة حفلا كبيرا لتكريم الموظفين وجاء موعد الصورة الجماعية والمصورين والإعلام ينتظر صورة لفريق العمل ؛ و بحكم منصبي وقفت جوار رئيس مجلس الإدارة ، فاعتذر منى بلطف وقال : لو تسمح لي هناك أشخاص أحب أن يكونوا جواري في هذه الصورة ، فظننت أنه سينادي أعضاء مجلس الإدارة أو المدراء الآخرين ، فوجدت أنه تنحي من مكانه وأخذ بأيدي صغار العمال في الحفل وطلب منهم جميعا أن يكونوا جواره على أن يكون المدراء في الصف الذي يليه، وعندما انتهت الصورة سألته لماذا هم : أليس عجيبا أن تظهر صورتك في الإعلام وبجوارك العمال. قال : لولاهم لما كانت هذه الشركة ، بعض العمال هم أساس الشركة لولا تفانيهم وإخلاصهم لما كانت هناك شركة في الأساس .
فتعلمت أن الأمر ليس بالصورة التي نرسمها للآخرين وإنما بالعمل والإخلاص والتفاني ، والتقييم هنا ليس لأفراد بعينهم بل لرب الأفراد وخالقهم ، هو الأعلم بهم وبأعمالهم .
رد البعض: قصة عجيبة ، لكن كثيرا من رجال الأعمال ، خاصة العصاميون يعتمدون على أنفسهم في القيام بكل شيء، لعله واحد منهم؟
– وليد : الأمر في نظري هو الصدمة بين ما كان يعتقده مفيد وما رآه بالفعل ، فالانطباع الذى ارتسم عند مفيد شيء وما رآه وتفاعل معه كان شيئا آخرا..
تحدث سليم : ولعل ما أشرت إليه يا مفيد أصبح داء في عصرنا الحالي ، فالمظاهر الآن تحكم كل شيء ، نحن نقيّم الأشخاص بملابسهم ، هواتفهم وسيارتهم وعناوين منازلهم ومستوى الترفيه الذي يتمتعون به . كل شيء نستخدمه ليعبر عن تصنيف اجتماعي للأخر بداية من لهجته التي توضح لنا من أي منطقة جغرافية ينتمي، أو خلال سياق حديثه وتشدقه ببعض الكلمات الأجنبية التي يعبر فيها عن ثقافته، أو حال الاستعراض التي يظهر فيها الماركة أو البراند الذي يزين به ملابسه و متعلقاته ، وأهملنا جانبا مهما للغاية وهو خلقه ودينه وقربه من الله أو بعده .
تحدث وليد : لعلك تربط لنا ذلك بالآية الكريمة يا سليم ؟
– للآية أكثر من تفسير يا وليد عند المفسرين فمنهم من نسب الآية إلى أهل الأعراف .
رد مفيد : ومن هم أهل الأعراف يا سليم ؟
سليم : مكان بين الجنة والنار يسمَّى ” الأعراف ” ، وهو سور عالٍ يطلِّع منه أصحابه على أهل الجنة وعلى أهل النَّار ، ثم يُدخلهم ربهم عز وجل في آخر المطاف جنَّته ولا يدخلون النار ،
رد وليد : ولماذا لا يدخلون الجنة أو النار ؟ أوليس الأمر بين جنة ونار؟
سليم: أرجح أقوال العلماء بأنهم أقوام استوت حسناتهم وسيئاتهم .قال تعالى : ( وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ . وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ . أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ) الأعراف/ 46 – 49 .
رد مفيد أعتقد أنى قرأت شيئا من ذلك عن ابن مسعود في قوله … ” ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط ثم عرَفوا أهل الجنة وأهل النار ، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا ( سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ) وإذا صرفوا أبصارهم إلى أصحاب النار ( قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فأما أصحاب الحسنات فإنهم يُعطون نوراً يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم ، ويُعطى كل عبد يومئذ نوراً فإذا أتوا على الصراط سلب الله تعالى نور كل منافق ومنافقة ، فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون ( قَالُوا رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا ) .
وأما أصحاب الأعراف : فإن النور لم ينزع من أيديهم فيقول الله ( لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) فكان الطمع للنور الذي في أيديهم ، ثم أدخلوا الجنة ، وكانوا آخر أهل الجنة دخولاً ” .
سليم : جميل يا مفيد لكن تعددت اقوال المفسرين في ذلك ، لكن الغاية من الأمر في نقاشنا هو أن التقييم والمكانة لا تتحقق إلا بالقرب من الله ، فمنازل الدنيا وإن كانت مبهرة وجاذبة ومغرية لكنها لا تغنى عن منازل الآخرة ، لذلك عندما قال بعض المفسرين في الآية إن القصد فيها هو ضعاف المسلمين من أمثال : بلال بن رباح والخباب بن الأرت وغيرهم ، عندما قال أهل قريش من الكفار لو دخل هؤلاء الجنة فنحن الأولى أن ندخلها ونحن أغنياء قريش وسادتها ، فجاء جواب ربك بدخولهم مباشرة ..
وليد – لحظة يا سليم هناك لفتة في الآية عجيبة جدا..
– ماهي؟
– عند الإتيان بأمر في اللغة نأتي بحرف عطف فنقول: أكل ثم شرب أو استيقظ ثم أفطر، أو تعب فارتاح كما تعرفون؛ فإن حروف العطف لها معاني مختلفة أسرعها في المعنى وتعقيب الفعل هي حرف الفاء .. لذلك الله سبحانه وتعالى يقول : (فدعا ربه إني مغلوب فانتصر) سورة نوح، فكانت الفاء تفيد التعقيب دون انتظار .. ، أما في الآية الكريمة فالرد عجيب ، يغمرك الله فيه برحمته وعفوه وكرمه ، فبينما الناس يتجادلون هل يدخل ( هؤلاء الناس ) الجنة أم لا ؟ وبين مصدق ومكذب وصاحب رأي آخر .. يأتي أمر الله دون تعقيب أو إبطاء أو عطف يستوجب الأنا أو التفكير .. وكأنما تأتى الرحمة إليهم بأبواب مفتوحة تجذبهم إليها جذبا ، ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا هم يحزنون … وكأن الله سبحانه وتعالى يكتم أفواه المشككين والمتخرصين ، مثبتا بأن الرحمة ملك خاص به عز و جل لا يملكها أحد غير الله
– فصاح مفيد : سبحانه وتعالى (رحمته وسعت كل شيء ..)
– فالمقياس هنا يا سليم ليس الفقر ولا الغنى ولا الجاه ولا السلطة وإنما المقياس إلى أي مدى أنت تسير على نهج الله قربا أو بعدا ، فهما وعملا ، قناعة وإدراكا .. فإن وعيت الغاية من خلقك أدركت السبيل وأحسنت السير ..
– منك لله يا سليم ، مجموعة إجابات صماء تحللني من خلالها على هذا الشكل والصورة ، جعلتني مجرم حرب
انتظر حتى نكمل الأسئلة مع مفيد ..
مفيد : لا يا سيدي كفاية علينا وليد ….
كتبه أسامة العمري