الدراسة الأشمل للحياة الفكرية والسياسية للعلامة خالد الذكر الدكتور قدري حفني
* قدري حفني عالما وسياسيا *
بقلم / د.خالد محمد عبدالغني
الجزء الأول :
هذه المرة ليست الأولى التي أتحدث فيها عن العلامة قدري حفني ولن تكون الأخيرة ما دمت حيا ، وهو حديث غير مكرور ففي كل مرة يفرض جانب من حياته سطوته على تفكيري فأجدني مشدودا للحديث عنه في جدة وجدية كأنه الحديث الأول، فهو من أكثر أبناء جيله عطاء فكريا وعلميا وحضورا في المشهد الثقافي والعلمي لأكثر من نصف قرن من الزمان لخدمة علمه الذي انتمى إليه علم النفس الذي دعا لتغييره إلى علمين هما علم الوعي وعلم السلوك ، واشتباك مع قضايا وطنه وأمته العربية – الذين عشقهما – سواء كانت السياسية والاجتماعية حيث مجالات علم النفس السياسي والتاريخ الاجتماعي لعلم النفس، والتنشئة الاجتماعية، وعلم النفس الصناعي، ومشكلة الأمية، والقياس النفسي، ومناهج البحث والمراهقة، والصراع العربي الإسرائيلي، والتدريب الإداري، وتنظيم الأسرة، ومشكلات الطفولة والأمراض النفسية وشخصية الفلاح وسيكولوجية الشخصية.
وهكذ عُدَّ قدري حفني من أهم العلماء البارزين في تاريخ علم النفس في مصر والعالم العربي، وهو مفكر كبير قبل أن يكون عالما فذا، فهو الموسوعي التكوين والعطاء في آن. فهو لم يؤسس علم النفس السياسي في مصر فقط بل يعد أحد أكبر علماء النفس العرب ليكون وبحق أحد البنائين الكبار في علم النفس (محمود الورداني :2010).
ولقد كتب مصطفى سويف عن بعض تلك الأعمال التي تقدم بها العلامة قدري حفني للترقية لدرجة أستاذ مساعد:” إنها أعمال تتسم بالأصالة والجدية والغزارة وأن السمة الشائعة لها الشعور بأداء رسالة لها خطرها، هي رسالة المعلم والباحث ويتضح ذلك بصورة خاصة في اختياره للمشكلات التي يدرسها، فهي دائما مشكلات ذات دلالة اجتماعية(مصطفى سويف : 1979).” وليست هناك غرابة في هذا التميز والتنوع في العطاء فهو ابن لمدرسة علمية انفتحت على كافة التيارات الفكرية والنظريات النفسية وقدمت العلم لخدمة المجتمع، إنها مدرسة آداب عين شمس، ونظرة سريعة تلقيها على حياته الخاصة والعامة ومنجزه العلمي والفكري تجعلك تشاهد هذه الحقائق بجلاء لا غيم فيه، وسواء أكنت معه أو ضده في مواقفه السياسية لن تملك إلا الإعجاب به والإشادة بجهده والاحترام لخطابه الإيديولوجي بعامة فالسياسة وجهة نظر في إدارة شئون العباد والبلاد والمهم فيها الانطلاق من أرضية وطنية وقد كان هو كذلك بلا ريب
ونطالع في أحد كتبه المبكرة ما يؤكد ذلك إذ يقول : أقام مصطفى زيور مؤسس قسم علم النفس بآداب عين شمس مدرسته العلمية على قضيتين محوريتين هما حتمية الربط بين العلم والمجتمع وحتمية الحوار بين مختلف الاجتهادات الفكرية” ، ثم يحدثنا قدري حفني عن رؤية جديدة لمقرر بعنوان :الأمراض النفسية الاجتماعية إذ يقول عنها : أن تسمية الأمراض النفسية الاجتماعية يجب أن تكون التسمية “مشكلات نفسية اجتماعية” حيث أنها تتمثل في وجود نوع من المشكلات تتوسط المشكلات النفسية الخالصة والمشكلات الاجتماعية الخالصة، أو التفسير النفسي للمشكلات الاجتماعية باعتبار أن العامل النفسي هو الجذر الرئيسي لتلك المشكلات. وتفسيرا اجتماعيا لمشكلات نفسية خالصة استنادا لكون العامل الاجتماعي هو مصدر كل شيء. وهنا كانت الدعوة لنبذ تلك الأفكار للبحث عن طريق جديد لفهم الظاهرة في بعديها النفسي والاجتماعي.
ثم يقدم لنا طرحا فريدا عن علم النفس بعامة ولقد ذهب في دعوته للحوار إلى أن نفرق بين علمين مستقلين ومتمايزين ضُما تحت عباءة علم النفس هما علم الوعي وعلم السلوك نشأ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر للبحث عن علم يقدم اكبر فائدة لصاحب رأس المال بدافعية اكبر لضمان أقصى إنتاجية من العامل ولإثارة أقصى دافعية لدى المستهلك فيزيد من استهلاكه ليزداد صاحب رأس المال ربحا دون وعي من العامل والمستهلك بحقيقة العلاقة بين تكلفة السلعة وسعرها ومدى حاجته الموضوعية إليها ، وحاجة الجماهير العملة للتخفف من معاناتها التي تمثلت في اغترابها، ولما كانت التسمية المريبة لهذا العلم الوليد “علم النفس ” فقد حققت الغرض منها فمن خلالها تم استعاد “الوعي” ومحاصرة جذوره الأصيلة داخل حدود الإبداع الفني والفكر الفلسفي والاعتقاد الديني باعتبار أن كل ذلك ليس من العلم في شيء ومن خلال هذه التسمية تبلور “علم السلوك” ونضج وتجددت ملامحه وإن ظل مصرا على التخفي ، وهكذا فإن عباءة علم النفس التي نعرفها اليوم تضم في الحقيقة جسدين متمايزين تاريخا وموضوعا ومنهجا ولا علاقة بين أي منهما وبين مصطلح “النفس” . فعلم السلوك يرجع بتاريخه القديم إلى جذور علم الطبيعي القائم على الملاحظة الموضوعية متخذا من السلوك القابل للملاحظة والضبط موضوعا له ومن التجريب منهجا، أما علم الوعي فيرجع بتاريخه القديم إلى جذور التعبير الفني والعقيدة الدينية والفكر الفلسفي متخذا من الوعي بشقيه الشعوري واللاشعوري موضوعا له ومن الملاحظة بالمشاركة منهجا. ومن هنا فلابد من التكريس للانفصال بين علمي الوعي والسلوك والسعي لتأصيل كل منهما وكل هذا تحت الدعوة لتصنيف جديد للعلوم الإنسانية(قدري حفني :1980).
وهناك رؤيته حول العلم والتفكير العلمي والإرهاب وفيها أنه استرعى انتباهه أن قادة التنظيمات الإرهابية من دارسي كليات القمة الطب والهندسة وفسر ذلك بكونهم من الذين علموا أحادية الرأي والرؤية من خلال دراستهم للعلوم الطبيعية ون مقرراتهم الدراسة تخلو من مواد تتعلق بالتفكير العلمي والتدريب عيه ، أو المنطق أو مناهج البحث أو الفلسفة أو العلوم الإنسانية بعامة ، وخلص إلى أن محاولة القضاء على الأفكار بدعوى اجتثاث الجذور الفكرية للعنف أو للعنف المضاد ليست سوى أوهام تدحضها حقائق العلم والتاريخ معا ، فحين تحاول السلطة ذلك فإنها لا تنجح في المدى البعيد في القضاء على أي من الفكر أو السلوك وكذلك فحين يحاول المتمردون على السلطة توجيه رصاصاتهم إلى من يعتبرونهم بمثابة رموزها الفكرية فإنهم يغامرون بتعريض مجمل مسعاهم للانتكاس. وحول طريقة معالجة أثار العنف والتعصب تبنى المؤلف طريق الرصاصة مقابل الرصاصة والفكرة مقابل الفكرة والقبول بحق الأفكار جميعا في التعبير عن نفسها مهما كانت درجة الاختلاف معها أو النفور منها بما يتضمنه ذلك القبول من تسليم واع بما سوف ينجم عنه من فوضى فكرية ، إن فوضى الأفكار أقل ضررا من إرهاب العنف وضجيج الكلمات مهما كان ما يسببه من إزعاج أهون كثيرا من صوت لعلة الرصاص(قدري حفني :2007) .
تم نشر هذه الدراسة بأدب ونقد