جالسة في الشمس وأشعر أنني شفافة ويعبرني الضوء، فاقدة لكل شهواتي وبرغم صعوبة تدبير الحياة في المنزل لم أكن متأسفة لخسارة شريك حياتي لأنه تركني بعد أن حاول يائسا تكسير أجنحتي التي نميتها ريشة ريشة في جبال أهل، محتملة كل قسوة الجبال وتقاليد أهلها،
حزينة لأنني وحيدة وما زلت شابة وبحمل ثقيل جدا على أكتافي الشاعربة الإحتمال. وهناك خلف البيت هبط عليّ ملاك شاعر، سموه أهله كما سماني أهلي ليقول لي أنّه أحبّ كل ما فيني، ولأني كنت مشتاقة لأهل بلدي ولونهم وإرتفاع قاماتهم عن الأرض، ولأني كنت متروكة وحرة أكثر من أية أم، ولأنني لم أصدق أن هناك من يهتم لي أنا المتروكة في شمس جنوب القارة الأسترالية، فشمال القارة على الأقل أقرب بستة ساعات لبيت أهلي، ومكان طفولتي، أمّا جنوبها يبعد 24 ساعة، ولأن لدي سيارة ولأني رغبت بأن أتحدث مع رجل من بلدي دعوته لأسوح به يوميا لمدة أسبوع في كل إتجاهات ملبورن، وأتى في اليوم التالي وأعطيناه غرفة في بيتنا، غرفتي، ونمت أنا في غرفة إبنتي، سمعت نحنحته في الليل وتجاهلته.
في الصباح التالي صنعت شايا وحليته وجلبته الى غرفتي، سعيدة أحتفل بوجود إبن بلدي في بيتي، أيقظته لنبدأ سياحتنا في ملبورن … لم اكن أتوقع أن يكون قادرا على إختراق مناعتي بأية طريقة، وكيف يجروء؟ لم يسألني رأيي في قبلات جميلة إنهمرت على شفتاي وذهلت لأنني شعرت، ولأول مرة منذ أنجبت أولادي كان العشق ممنوحا لي بدون مقابل، وبدون جهد، مقدماً على فراش من إلفة وأمام شباك مغطى بفيء بشجرة مملوءة بأزهار من ليلك زهري، لأول مرة منذ كنت شابة، منذ تاريخ طويل، يعشقني رجل ويتحرش بي، وكأني المرأة الوحيدة الشهية في الحياة، وأحسست أنني أجمل إمرأة على هذه الأرض، وأصبت بحالة بله كلي، لم أستيقظ منها إنما أنبتت في داخلي رضاً وشعور بالخفة والجمال. لأول مرة منذ أنجبت أطفالي يدعوني رجل الى مطعم ويطلب ما أشتهي من طعام ولا يكون معي الأولاد، لأول مرة يكرمني رجل ويدللني منذ اصبحت أما، يوصلني بجسدي وبطفولتي ويذكرني دائما أنّ أبي أرسله خصيصا ليفعل كل ذلك، وأن أمه وأبي يحرساننا من الأعلى، لأول مرة يكون للسماء ولأهله وأهلي دور في علاقتي الغرامية، وصرت فجأة محميّة ووعدني بأنه سيكون سياج بيتي، وكدت أبكي لأنّه ضعيف الجسد وشاعر وشفاف وغير قادر على حمايتي ولكني قبلت بكل حب عرضه الذي ارضى شعورا ما أحتاجه في داخلي، وأخبرته أنني صدقته وأريده ان ينضم الى مملكتي ولو كسياج، ومنذ ذلك اليوم والسياج يذكرني به. برغم من أنني أقوى منه بدرجات وأحمي أولادي وأصدقائي وأهلي وكل من إتصل بي. بطريقة خفيفة وبكرم كلي لم يشاركني طعامي الذي إشتراه لي فلم يكن يحب الأكل كثيرا وكان يطبخ لنا كل يوم بكل حب، وصرنا نطعم بعضنا قصصنا، تاريخنا، علاقاتنا، خليط من قصص هي نحن وكنا قد نسيناها محاولين أن نتكون لنعيش. وقال لي “ساميا أنت تتعرين من تاريخك الآن، فهل أنت بحجم هذا التعري؟” شعرت ببعض البرد حين نبهني للموضوع، صحيح فأنا أتخلى عن زواج وعلاقة حب قديمة قدم شبابي منذ كنت في الثامنة عشرة، علاقة تخلى أميرها عن مملكته بسخف راكضا وراء وهم الشهرة والمال، رغبت في الغوص بمنظور آخر للحياة، وبما أنّ الشاعر كان هناك ويقدم لي الشيء الوحيد الذي أحتاجه في الحياة وهو العطف والحب وسياج البيت، قبلت، وصرت أنثى أرتجف لمجرد أن ينظر في عيني أو يغني لي أو يمزح معي، ورقصت خلف البيت وأمامه وعلى الطريق وسرت بدون حذاء وعدت طفلة من جمل شعرية كتبها لي، وصرت أذوب وخسرت وزني بسرعة هائلة، وإشترى لي فستان أحمر عاري الكتفين لأصير غجرية كما أشتهي، وجننت تماما من رقة الحياة وتوحدت معه ولم يعد احد قادرا على إختراق ولائي له أو ولاءه لي، وكنت أتعرّى بفرح من تاريخ أصر فيه أبو اولادي على محو وجودي وتدمير مناعتي، متجاهلا أنني إبنة الجبال.
وزمجرت الجبال في ذاكرتي، وعصف الهواء الكليّ النظافة في رأسي، ولم أبكي حينها فلقد كنت أتواصل بفرح مع طفولتي واستعيد قوتي وإستلقائي على جسد جدتي الملوكي الإمتداد وخطواتي وأنا صغيرة فوق حصى جبل المكمل، وخرير السواقي الأبدي الإمتداد وفلسفة أمي القادمة من أخلاق أورثوذكسية مضمخة بقصص بني هلال العربية وأشعارهم وتاريخ لا نهاية له من المواقف حتى أنني أسمعها من أستراليا الى لبنان تقول “لا، هذا لا يناسبنا يا إبني” وتصر على مواقفها حتى تعلمنا كلنا أن نقول “لا” ونفكر في عروض الآخرين ونقرر ونستخدم عقولنا الفتية النظيفة، ولم نشعر بالخيبة مطلقاً. وقبلت بعرض الشاعر لأنّه راق لي.
ساميًا مخائيل
ملبورن