الدراسة الأشمل للحياة الفكرية والسياسية للعلامة خالد الذكر الدكتور قدري حفني
* قدري حفني عالما وسياسيا *
بقلم / د.خالد محمد عبدالغني
الجزء الثالث :
ثم كانت هزيمة 67 ليصفها بقوله : كانت حادثة كارثية في حياتي وفي حياة كل المصريين والأمة العربية أيضا ، وهزتني أنا ورفاقي فجلسنا ذات ليلة عدة أصدقاء نجتر آلامنا؛ وما تركته في نفسه من رغبة في الكفاح المسلح ضد الصهيونية ولكنه لم يستطع بسب ظروفه الصحية حيث إصابته المبكرة بمرض في القلب تكشف له أثناء فترة الاعتقال، وهنا حدث التحول في حياة قدرى حفني ليتجه نحو علم النفس السياسي محاولا فهم الشخصية الإسرائيلية فيقول : وعزمت على ذلك، ونشرت مقالا في مجلة الفكر المعاصر وفوجئت باتصال تليفوني من جريدة الأهرام، ولقاء سيجمعني مع الأستاذ حاتم صادق سكرتير الرئيس عبدالناصر، وأنجزت كتابا بعنوان “تجسيد الوهم” دراسة سيكولوجية للشخصية الإسرائيلية. (قدري حفني :2018)” . ثم أنجز رسالته للدكتوراه ” دراسة في الشخصية الإسرائيلية: الأشكنازيم 1974″. ثم أنجز بعد عددا ضخما من البحوث وشارك في الكثير من الندوات والمؤتمرات والمؤسسات المصرية والعربية والعالمية وأشرف وناقش العديد من الأطروحات الجامعية ، كل ذلك مهد السبيل ليصبح قدري حفني مؤسسا لفرع علم النفس السياسي عربيا. وأني لأرى أن حادثة يونيو 67 أخرجته مما كان قد اعتزمه من عزلة أو على الأقل اتخاذ موقف محايد من العمل السياسي الماركسي الذي هجره تنظيما قبل خروجه من المعتقل ليتفرغ لعمله السيكولوجي والبحثي ولتوجهه تلك الحادثة لاتجاه علم النفس السياسي والانشغال بالقضايا التي تخدم الجماهير والمجتمع كما نتابع في مسيرة بقية نشاطاته العلمية والمهنية والفكرية طوال حياته.
وهكذا مثلما حدث مع الأعمدة المؤسسة لعلم النفس من تشابه بين كل من فرويد وفونت ووليم جيمس وسكنر إذا تأثرت أعمالهم العلمية بأفكارهم السياسية والفكرية وظروف النشأة والتربية لهم جميعا كما عرفنا قدري حفني ذلك عنهم بدراساته الرائدة والفريدة التي تناولت حياتهم وأعمالهم برؤية نقدية جامعة . حدث نفس الشيء معه وكأن قدره قاده لأن يكون ضمن مؤسسي علم النفس بتأسيسه لعلم النفس السياسي وما كنا لنفهمه ولا أن نقدر منجزه العلمي ومعرفة دلالة تفضيلاته العلمية واختياراته البحثية ونوعية قضاياه الاجتماعية دون فهم ظروف عصره وما ألمت به من محن وآلام وما تصارع في عقله من تيارات فكرية وسياسية وملابسات حول نشأته وتربيته الجادة التي أبعدته عن الهزل وأغرقته في عالم القراءة مبكرا وما شهده الوطن من خسائر تركت أثرها في شخصيته وما قدمته ثورة يوليو من ايجابيات على رأسها مجانية التعليم التي استفاد منها وسلبياتها التي كان على رأسها قمع الحريات وتكميم الأفواه والاعتقالات والتعذيب وقد ناله منها تنصيب وافر أيضا، ورغم ذاك فقد كان قدري حفني حتى آخر حياته حالما بالعدالة الاجتماعية والحرية الإنسانية.
و تضم قائمة أعماله المنشورة العديد من الكتابات بين مؤلف ومترجم بين كتاب وبحث ومقال وندوة ومحاضرة باللغتين العربية والإنجليزية. وتغطى تلك الأعمال مجالات علم النفس السياسي والتاريخ الاجتماعي لعلم النفس، والتنشئة الاجتماعية، وعلم النفس الصناعي، ومشكلة الأمية، والقياس النفسي، ومناهج البحث والمراهقة، والصراع العربي الإسرائيلي، والتدريب الإداري، وتنظيم الأسرة، ومشكلات الطفولة والأمراض النفسية وشخصية الفلاح وسيكولوجية الشخصية.
وهذه محاولة لإعادة قراءة الأعمال الكاملة للأستاذ الدكتور قدري حفني لبيان مقدار ما تمتع به من جهد ومثابرة وعطاء علمي وعند تحليل النتاج العلمي والفكري الذي قدمه حسب ما جاء بقائمة أعماله المنشورة بمجلة علم النفس (اد.قدري حفني صفحات من السيرة العلمية والمهنية. مجلة علم النفس . العدد 116 . الهيئة المصرية العامة للكتاب. 2018. ص ص 11- 20)
الأعمال المترجمة بلغت تسعة عشرة عملا ما بين مقالات وبحوث وكتب ومراجعات ومقدمات بدأت منذ عام 1959 أي بعد تخرجه بعد عام واحد حتى عام 2017.
الكتب المؤلفة بلغت ثلاثين كتابا في مختلف القضايا النفسية المجتمعية بدأت من عام 1971 حتى عام 2011.
كتب موجهة للأطفال والمراهقين والشباب وهما كتابين “مصر والجيران والعالم” . و”احترام الآخر” .
مؤلفات باللغة الانجليزية بلغت ثمانية بحوث ودراسات وكتب .
مئات البحوث والدراسات والمقالات والحوارات الصحفية والندوات العامة والمتخصصة واللقاءات الإذاعية والتليفزيونية وورش العمل والمؤتمرات الدولية والإقليمية والمحلية والإشراف العلمي والمناقشات للأطروحات الجامعية في مختلف الجامعات المصرية طوال تسعة وخمسين عاما. كان آخرها مقاله بعنوان : الإرهاب في بلادنا() والذي نشر بعد يوم واحد من خلوده للرفيق الأعلى.
أولا: كتاب ” القياس النفسي()” نجده وقد استهل الكتاب بتقديم اعتذار للطالب الذي سيدرس هذا الكتاب – وهذه سابقة لم نجدها في مؤلفات الأساتذة من قبل – إذ كتب يقول :” ليست المذكرات التي يعدها المدرس بالأسلوب الأمثل لتلقي العلم في الجامعة فإعداد المذكرة لو لم يكن من إعدادها بد هي مهمة الدارس – الطالب – أما مهمة المدرس فهي المحاضرة والمناقشة، هكذا تلقينا العلم في الجامعة على أساتذة لنا أجلاء وهكذا كنا نود أن نحاول الإسهام في نقله إليكم بل هكذا كان سبيلنا بالفعل لسنوات ثلاث مضت منذ العام الدراسي 1973-1974 بل هكذا كنا نأمل أن نستطيع الاستمرار ولكن الخروج عن الصواب – حتى ولو كان ضرورة – لا ينبغي إلا أن يكون من قبيل الاستثناء الذي ينبغي الاعتذار عنه، ومحاولة بل الجهد مستقبلا لتجنبه فبدون مثل هذا الاعتذار قد تختلط الأمور ويصبح الاستثناء بحكم الممارسة قاعدة ، ويصبح الخطأ بحكم العادة صوابا”.
ويعرض لنا المؤلف في بداية الكتاب نظرية القياس السيكولوجي ويلاحظ ندرة الكتابة العلمية في نظرية القياس السيكولوجي ولا حتى مجرد استخدام لهذا المصطلح وبالمثل فإن الكتابات المتخصصة في القياس السيكولوجي لا تولي اهتماما مذكورا للنظرية التي تحكم هذا المجال، وهنا يؤكد على أن التيار الفسيولوجي والإحصائي قد تطورا وأسهما في تقدم نظرية القياس السيكولوجي التي تقوم على عدد من المسلمات وهي أن الفروق بين الأفراد فروق كمية، وأن تلك الفروق بين الأفراد تتوزع توزيعا اعتداليا، وهناك مسلمة مهمة وهي العمومية ومن هذا لمفهوم خرج مفهوم العينة الممثلة والتي اتخذت شكلين هما عينة التقنين والعينة السلوكية.
وعرض أيضا للاختبار السيكولوجي من حيث تعريفه ومجالات استخدامه بحيث يشير الاختبار إلى أنه عينة سلوكية مقننة تستهدف القياس الموضوعي لخاصية نفسية معينة، وعن مجالات استخدامه يقول: إن أول الاستخدامات هي الاختيار المهني والتعليمي والتوجيه والتصنيف والتشخيص الإكلينيكي والتقويم المدرسي واختبار الفروض العلمية. وأشار المؤلف فيما يتعلق بتصنيف الاختبارات النفسية حسب ميدان القياس أنها تضم ما يلي: المقاييس العقلية والمعرفية والشخصية والنواحي المزاجية والمقاييس الاسقاطية والمقابلة والاختبارات الموقفية. وذكر أن الاختبارات النفسية حسب المفحوص تنقسم إلى اختبارات فردية وجماعية. وبالنسبة لطريقة الأداء تنقسم إلى اختبارات الورقة والقلم والاختبارات العملية الأدائية. وحسب الزمن المستغرق في تطبيقها تنقسم إلى اختبارات السرعة واختبارات القوة. وحسب المعايير المستخدمة فيها تنقسم إلى اختبارات معيارية المرجع وأخرى محكية المرجع.
كما تناول المؤلف أصول استخدام الاختبار النفسي وتطبيقه وعرضها بمزيد من الإيضاح وهي: الألفة الكاملة بالاختبار. وحيادية القائم بالتطبيق والاستخدام. والعلاقة بين الفاحص والمفحوص. والظروف الفيزيقية المحيطة بجلسة تطبيق الاختبار. والحالة الانفعالية الصعبة للمفحوص. وقيادة موقف الاختبار النفسي. ومستوى الدافعية لدى المفحوص.
وحول تصميم وبناء الاختبار النفسي يشير المؤلف إلى الضرورة التي تفرض القيام بتصميم الاختبار النفسي، وعرض للخطوات اللازمة والمتبعة لتحقيق ذلك وكيفية حساب الصدق والثبات والعوامل المؤثرة فيهما وأهميتهما وطريقة إعداد المعايير المحلية عند تصميم الاختبار حتى يصبح الاختبار صالحا للاستخدام والتطبيق ، وقدم تعريفا عاما وشاملا لعدد من المقاييس الخاصة بالذكاء والميول والاتجاهات والشخصية.
ثانيا : كتاب “تاريخ علم النفس “محاولة اجتهادية”(). فيقول فيه: كانت المكتبة العربية تخلو تماما من أي مرجع مؤلف في هذا الموضوع وهو تاريخ علم النفس، وكان المرجع المترجم الوحيد هو كتاب “علم النفس في مائة عام من تأليف ج فلوجل. وقد ترجمه للعربية لطفي فطيم. وأما المراجع الأجنبية حول تاريخ علم النفس فيسودها طابع تجزيئي يكاد يحيل مضمونها في النهاية إلى مجرد ركام هائل من المعلومات التقريرية المتناثرة حيث الأفكار الأساسية في تاريخ علم النفس تعرض منفصلة عن السياق الاجتماعي التاريخي الذي نبعت منه. وأراء الرواد التاريخيين لعلم النفس تًطرح دون تعرض لأفكارهم السياسية أو لمواقفهم الاجتماعية أو للصراعات الفكرية التي خاضوها خارج نطاق تخصصهم العلمي وكأن تاريخ علم النفس في النهاية يمضي منفصلا تماما عن تاريخ المجتمع بل وعن تاريخ الفكر الإنساني عامة وكأن مؤرخي علم النفس قد اعتبروا أن مهمتهم إنما تنتهي بالوصول إلى حقائق فحسب.
ويحتوي الكتاب على عدد من الدراسات حول تاريخ علم النفس وهي: رأي في نشأة علم النفس تضمن نظرة علم النفس بين العامة وأهل الاختصاص الأكاديمي وعلم النفس بين الصعوبة والاختلاف وهي جملة الصعوبات المتعلقة بالموضوعات التي يتناولها بالدراسة حيث التفرد وعدم التشابه والتغير في مجال السلوك البشري سواء في شكله ومساره بصفة دائمة، وهي الموضوعات التي يدرسها علم النفس. وأخرى متعلقة بالمنهج المستخدم وما به من تحيز فالباحث يعد جزء من موضوع البحث بحكم كونه أنسانا ولذا فقد تكون لتحيزاته نصيب في توجيه نتائج بحثه, وصعوبة التجريب فتحقيق التجريب في علم النفس أمر بالغ الصعوبة ويتعرض لسلبيات شتى تتصل بأخلاق البحث وموضوعه، وقد عرض المؤلف لتجربته أثناء إعداد رسالته للدكتوراه حول الشخصية الإسرائيلية وما واجهه من تحيز ومحاولة التمسك بالموضوعية وكيف يمكن تحقيق ذلك دون ما تأثير على نتائج البحث.