شخصيات في حياة أبي
(سَيِّدُنَا) – رحمه الله – والكتاب
لم يكد يبلغ أبي الربيع الرابع من عمره حتى نداه جدي ذات ضحى تعالى يا سيد ، فانفلت أبي من وسط أترابه الذين يلهون ويلعب معهم فى الشارع أمام البيت من أبناء المنطقة .. فجذبه جدي من ثوبه ، وأمسك بيده ، وانطلق به مسرع الخطوات ، وأبي يجرى يحاول أن يقارب خطوات جدي سُدى من غير جدوى .. وهو يذكر فى ذلك الوقت أن الجو كانت تهب عليه نسمات رقيقة ، والأرض ينبعث منها شىء من البرد.
انطلق جدي قابظا على يد أبي لا يلوى على شىء ، ولم يلبث أن انتهى إلى حارة ضيقة ، ثم لم يلبث أن صار قليلا فى هذه الحارة الضيقة إلى بضعة أمتار حتى انحرف إلى اليمين قليلا ، وأخذا يغدوان المسير حتى انتهيا إلى صالة واسعة حافلة بالصبيان والأطفال الذين يجلس بعضهم على الأرض ، والبعض الآخر يجلس على حصيرة تناسب مقعده وقد أحضرها معه من بيته.
ولكن الشىء الذي لم ينساه أبي أن جلبة وصخبا كانا منبعثان من بُعد .. وما إن دخل جدي وأبي حتى استقبلهما “سيدنا” – رحمه الله – ببسمة هادئة ، وصوت رخيم هادىء ، ورحب بهما وقال : أهلا وسهلا مرحبا بك يا شيخ ابراهيم.
– أشار جدي إلى أبي وقال لـ “سيدنا” : هذا الرجل نريد أن يكون شيخا كبيرا إن شاء الله ..
– قال “سيدنا” على الفور : إن شاء الله تعالى .. ثم قال : ما اسم هذا الولد؟
– اسمه السيد ..
– قال “سيدنا” على الفور : بصوت مرتفع مدد يا شيخ العرب .. مدد يا سيد يا بدوى وصفق بيديه.
– قال جدي : اعتبره ابنك يا “سيدنا” من اليوم ، ولا أوصيك به لأن الأب لا يوصى على ابنه.
– توكل على الله أنت يا شيخ ابراهيم .. هؤلاء الأطفال كلهم أبنائى وتكلم على المفيد .
والحقيقة أن “سيدنا” – رحمه الله – كان رجلا طيبا ، ورعا ، قنوعا يرضى بالقليل كما ذكر لى أبي ، فلم يرهق أحدا من أمره عسرا فهو ينظر إلى أحاد الناس نظرة فاحصة .. فالغنى يأمره بالكثير ، ويناقش ، ويفرض مطلوباته .. وأواسط الناس يكفيه منهم بضعة قروش كل شهر ، ومأدبة غذاء كل مناسبة من المناسبات .. وعند ختم القرآن تكون المأدبة الكبرى.
أما الفقراء من الطبقة الرقيقة فيكفيه منهم البصل ، والأرز ، والديوك ، والفطائر ، والبط ، والإوز ، وما يتيسر لهم من النقود .. انتهى جدي و”سيدنا” إلى اتفاق مناسب ، وانصرف جدي وترك أبى مع الأطفال .. والحقيقة التى يُشهِد أبي الله عليها أنه لم يرى من “سيدنا” إلا كل خير وقناعة .. ولم يرى غير الرحمة ، والحب ، والاشفاق .. إلا فى موقف واحد فقط حيث يكشر عن أنيابه ، ويمسك عصاه الغليظة ، ويضرب الصبى الذى يلحن فى قرآة القرآن ، ولا يجارى العريف فى الحفظ أو التسميع.
وهنا يثور “سيدنا” ولا نَجْوَةََ من غضبه .. ويذكر أبي أن “سيدنا” تَعَرَّضَ لعسف كبير ، وغمط مهول نَسَبَهُ إليه بعض الكتاب ممن نالوا مناصب شهيرة ، ومراكز اجتماعية مرموقة .. فتنكروا لفضائلة ، ومناقبه ، وطَاخُوهُ بالمنكر من القول .. وإن “سيدنا” فى نظر أبي فى كل القرى ، والنجوع ، والأصقاع ، والدساكر هو “سيدنا” مع تغيير طفيف نادر فى الشخصية والتكوين .. لقد صوَّرَهُ بعضهم على أنه محتال ، ومراوغ ، ولا يرضى باليسير وكذا وكذا بما لا يرضى الله ، ولا يقبله الذوق السليم .. وكل “سيدنا” وفي كل مصر وعصر برىء من هذا الشان براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
إن الذي يغرس المبادىء في نفس الطفل الصغير من طاعة ، وأدب ، والتزام وفوق ذلك كله لا يزال لسانه رطبا بذكر الله تحفه الملائكة من كل صوب وناحية .. مهما أعطى من مقابل فلا يمكن أن ينهض بواجب يستحقه .. بل إن هذه الكتاتيب كانت مقاييس ومشكاة هداية تخرَّج فيها أعيان المبرزين ، وأساطين النهضة ، وأرباب الفصاحة والبيان .. وما انحطت الثقافة إلا بانحسار هذه الكتاتيب ، واستبدلوا بها الحضانات العصرية التى تعنى بالمستحدثات ، والدنيويات ، وتشيح أكثرها عن محجة الاسلام القويمة ، ولا تهتم بحفظ القرآن إلا قليلا.
قضى والدي في الكتاب شوطا بعيدا ، وازداد حبه له يوما بعد يوم .. وكان “سيدنا” – رحمه الله – فضلا عن إشرافه على الكتاب .. كان يقوم أيضا بعمل وصناعة المكاتل ، والزنابيل وهو لا ينفك يشرف على تحفيظ الأطفال ، ومراجعة العريف إن سها ، أو أخطأ ، أو تجاوز شيئا غير متجوز فيه .. وكان تنبيه “سيدنا” بالعصى ، وزجره ، وتبكيته (بالغلظة) .. وهو في جميع أطواره ، ومتابين أحواله طيب القلب لكن لا بد من جرعة من القسوة لأن التهاون ، والفتور فى محاسبة الصبيان والأطفال يؤذيهم .. فإن الدواء المر الطعم إنما يدفع المرض والداء .. ولا يضير المريض أن يتحمل مرارة الدواء لدفع الداء .. وكثيرا ما تكون هذه القسوة النسبية ضربا من الشفقة ، والحدب ، والتحنن.
ولأن معادن البشر مختلفة وليست متفقة العنصر .. فإن الاستجابة قطعا تتباين طبقا لذلك من انسان لآخر وهذا ينجلى واضحا في الأطفال فإن هناك الطفل الهادىء الوقور ، وهناك الطفل الخفيف النزق ، وهناك الشقى ولكن الأغلب أن يكونوا أشقياء لأن البيئة التى صدروا عنها والظروف من حولهم بما فيها كانت سببا في هذه الحدة في مرحلة الطفولة الأولى.
كان الآباء يقومون بالتربية البدنية ، والجسدية لأبناءهم .. أما التربية الروحية ، والنفسية فإنها موكلة بأصبارها إلى “سيدنا” وإلى العريف .. فـ “سيدنا” هو الأب الروحى الذى يعهد إليه تقويم الأولاد ، وتهذيبهم وليس لطفل أو صبى يتراخى أو تعتريه فترة في تنفيذ أوامر “سيدنا” إلآ وتكون العصا لمن عصى كما كان دائما يقول.
كثيرا من الأطفال لم يصبروا على الحياة الجادة
فى الك
تاب فنال منهم اليأس ، وفََتَّ فى ساعدهم القنوط فتخلفوا عنه ، وقعدت بهم الهمة فلم يواصلوا المسيرة ، واستجاب لهم أباؤهم فانصرفوا عنه ، وتفرغوا لزراعة الأرض مع أبائهم ، وهو يفنُون أعمارهم على الأرض يكدون عليها ، ويتهالكون على اصلاحها يروونها بعرقهم ، ويجودون عليها بالنفس والنفيس ، ثم يذهبون لا يدرى عهنم أحد شيئا.
كانت لـ حلاوة التعليم ، وفك الخط ، ثم حفظ القرآن الكريم لذة ما بعدها لذة عند أبي .. ولكن جدي لم يترك أبى وشأنه فى كتاب “سيدنا” بل كان ينتظره بعد انتهاء الكتاب فى البيت لمراجعة ما أخذه فى الكتاب .. ويضيف إلى ذلك منهجا آخر من عنده ، وكأنَّ أبى انتقل من كتاب “سيدنا” إلى كتاب جدي .. ولم يكن جدي تأخذه شفقة بأبي ، ولا هوادة .. فأبي فى كتاب جدي لا مجال له للتنفيس ، أو الترويح عن النفس .. فإنه يباشر التلقين بنفسه مباشرة ، ولا مفر للمواجهة ، ولا مجال للسرحان فإن “سيدنا” أحيانا يترك الكتاب للعريف ، وقطعا يتظاهر العريف أمام “سيدنا” بالجد ، والحزم ، والسيطرة على الكتاب .. ولكن مجرد أن يخرج “سيدنا” إلى أداء الصلاة ، يتراخى العريف بعض الشىء إن لم يكن كله ، ويكون ذلك متنفس للصبية يمرحون ، ويتمارون حتى إذا رأى العريف “سيدنا” قادما من بعيد ، صرخ بحزم ، وشدة ، ونظر بعينيه شذرا ، وكشر عن أنيابه ، وقد يرفع العصى ويهوى بها على طفل برىء لمجرد أنه يريد أن يُشعر “سيدنا” بحزمه فيطمئن إليه.
لم يكن جدي يعرف المزاح إنما الجد ، والشدة هما كل شىء في حياته .. فبينما يراجع أبى الدرس بخطه الجميل ، وحروفه الواضحة فإن مجرد الخطأ منه حتى تهوى يد جدي على وجهه ضربا من غير مقدمات .. فـ جدي لم يقنع بمستوى التفوق العادى ، ولكنه يُريد مستوى جيد وهو أن الطفل يجب أن لا يخطأ البته ، وأنه إن أخطأ استوجب الضرب .. لأن عدم الضرب في نظره يقضى إلى عدم الاكتراث ، وعدم الامبالاه من الطفل ، وهذا هو سر الفشل.
هذا الحماس إلى التعليم ، والتلقين الصارم من جدي فاق ، وأربى على قوة “سيدنا” فى عنفوان غضبه حتى إن أبي كان يتمنى أن لا يرجع من الكتاب إلى البيت من شدة الفزع الذى ينتظره من بطش جدي .. ومن غريب الأمر أنه كان يرى أن هذه هى الطريقة الصحيحة لتوجيه الطفل حتى لا يخرج للحياة ضعيف الشخصية .. فإن الرجل لكى يكون ذات شخصية قوية لابد أن يهذب في الصغر بقوة ، وشدة ، وأن لا يترك له الحبل على الغارب مطلقا.
كانت لحظات الكتاب هى أسعد أوقات أبي حيث أن أبى يستروح فيها بعض الشىء ، ويعتبر عصا “سيدنا” ، وفلقته شيئا لا يذكر إذا ما قورن بعصا جدي .. ثم إن “سيدنا” عندما يضرب يترك الصبى وشأنه يبكى كيف ما شاء .. لأن ما يعنيه هو أن ينزل بالصبى العقاب .. لكن جدى يستفزه البكاء فيزيد هياجا وظربا.
تقدَّم أبي في الكتاب ، وتفوق في حفظ القرآن الكريم ، وكان مبرزا على أصحابه ، وكان سيدنا راضيا عنه كل الرضى مطمئنا له كل الاطمئنان ولكن – تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن – انقطعت صلة أبى بالكتاب والسبب في ذلك “مغربي أفندى” (ناظر) المدرسة الالزامية .. فََسَبَّبَ ذلك الانقطاع آثارا مدمرة في نفسه فإن حب أبي وتعلقه بالكتاب كان قد خالط دمه ولكن لابد من التسليم لأمر الله تعالى.
—————————————————————–
** الشخصية القادمة ستكون .. شخصية “مغربي أفندي” (ناظر – المدرسة الالزامية) ..