كتبت الدكتورة دينا السيد الجميلي:
أعلام وشخصيات فى حياة أبي
الأستاذ .. نبيل متولي رمضان حلاوة .. مدرس اللغة العربية .. بالمدرسة الالزامية
ما إن بلغ أبي الصف السادس الابتدائي حتى نداه جدي وقال له يا سيد يا ابني أرجوك افهنى ثم وضع يده على كتف أبى .. فاخذت أبي دهشة وقال خير يا والدي .. قال سأكلمك على موضوع باختصار ثم قال ان الانسان لا يحب أن يكون أحدا فى هذه الدنيا أفضل منه إلا ابنه .. الذي يرجو الأب أن يكون أوفر منه حظا وأكثر منه مالا وجاها .. قال أبي ماذا تريد يا والدي وما المقصود؟ قال جدي أنا أزرع الأرض وحدي وليس معي أحدا يساعدنى على ذلك ثم أن والدتك وحدها ليس لها ابنة تعاونها فى شئون المنزل وكل إخوتك صغار لا يعتمد عليهم .. قال والدي لم أفهم المطلوب يا أبي .. قال جدي أقصد يا سيد يا ابني أن تترك التعليم وتشاركنى فى زراعة الأرض وتمارس التجارة لتصبح تاجرا كبيرا فان ثلاثة أرباع الرزق فى التجارة .. ومن ناحيتي إن شاء الله سأمهد إليك السبيل وبعد سنتين أو ثلاث سأزوجك ببنت الحلال .. ثم يكون هناك متسع لتعليم إخوتك فيما بعد .. لكن جدتي سمعت الحوار ورفضت هذا رفضا مطلقا .. ولكن لم يكن لموقفها أى أثر يذكر في القرار النهائي الذى اتخذه جدي .. قال جدي فى إصرار وتصميم وقوة فاصلة انتهى الأمر أنا قلت لا تعليم مطلقا للسيد.
أصبح الأمر منتهيا ولم يجرؤ أبي على اقناع جدي برغبته فى مواصلة تعليمه .. فقال له بما أنها آخر سنة فى مسيرته التعليمية أن يدعه ينتفع ببعض الدروس .. وكان هدف أبي من ذلك “أمل” تعلق به وهو لعل جدي يرجع فى قراره خلال هذه الشهور المتبقية على امتحانات آخر العام.
مرت الأسابيع والأشهر حتى بقى على الامتحانات شهر واحد وطفق التلاميذ يقدمون الصور المطلوبة ويدفعون مصروفات الامتحان .. ثم يملأ أولياء الأمور الاستمارات المقررة لذلك .. بيد أن المدرس الفاضل فى ذلك الوقت جزاه الله خيرا وتقبل منه أحسن ما عمل واسمه -نبيل متولى رمضان حلاوة- نظر فى الاستمارات المملوءة والصور فلم يعثر لأبي على استمارة ولا صورة فناداه وسأله أين استمارتك وصورك يا سيد قال له والدي لن أدخل الامتحان يا أستاذ .. وكأن صاعقة من الكهرباء مست الأستاذ فنظر مشدوها إلي أبي وقال نعم!!! .. قال أبي لم أدخل الامتحان .. قال وتكررها مرة أخرى يا ولد .. اخرج فورا وارسل إليا أباك على وجه السرعة .. لم يبقى على الامتحانات غير شهر واحد أَزِفَ الوقت .. قل لأبيك الأستاذ نبيل منتظرك فى المدرسة.
فوجىء جدي وجدتي بأبي يهرول مسرعا وقد وقف بينهما يتفصد جبينه عرقا من الجرى وقلبه يضظرب اضطرابا قال له جدي ما جرى لك يا ولد قال : الأستاذ نبيل فى انتظارك الان .. قال خيرا ان شاء الله وماذا يريد الأستاذ نبيل منى؟ .. قال يقول لك لابد أن أدخل امتحانات اتمام الشهادة الابتدائية ولم يبقى على غلق القبول سوى أيام قلائل .. قال جدي ألم تقل للأستاذ نبيل أن قرار أبي فى هذا الشأن أصبح نهائيا قال : إننى قلت له أن أبي رأى وقرر ألا أدخل الامتحان .. صرخت جدتي وقالت أرجوك يا ابراهيم علشان خاطري يا ابراهيم حرام عليك .. اتقى الله فى السيد أنا سأموت إن لم يدخل السيد الجامعة ويصبح متعلما .. حرام عليك يا ابراهيم كفاية حرمته من الأزهر ثم تحرمه من التعليم!!! قلبي يشعر أن السيد ابني لو تعلم سيكون له شأن آخر .. قال لها جدي يا حبيبتي يخرج السيد ويتعلم باقى إخوته لأن السيد هو يدي التى أعمل بها .. الأرض واسعة وشؤونها كثيرة .. قالت جدتي اخرجهم جميعا للفلاحة واترك السيد يتعلم أرجوك يا ابراهيم .. قال لماذا السيد بالذات تحرصين أن يتعلم لابد أن في الأمر سرا .. قالت فاكر يا ابراهيم الرؤيا التى رأيتها وأنا حامل فى السيد إذ جاءنى رجلا صالحا ذو لحية طويلة وقال لي أنت حامل فى ولد سيشرح صدرك وسيكون له شأن .. ثم قالت ودموعها تتوسل اليه إن أحببت أعطيتك أرضى وتترك السيد للعلام .. أطرق جدي طويلا ثم توقعت منه جدتي أن يعدل عن وجهة نظره لا سيما أن إغراء جدتي له كان كبيرا إلا أن جدي رفض هذه المكافأة .. وذهبت توسلات جدتي أدراج الرياح .. حاول والدي أن ينضم إلى جدتي فى التماسها فلم يغنى ذلك شيئا.
لم تملك جدتي إلا الدعاء للخروج من هذه المحنة .. دخلت غرفة مظلمة فوجدها أبي تدعو الله سبحانه أن ينقذه من هذه الكارثة.
لم يرجع أبي للمدرسة ولم يرجع للأستاذ نبيل حلاوة ورضى بقدر الله وقضاءه وكان لابد أن يوطن نفسه على هذا .. فى اليوم التالى بعث له الأستاذ نبيل حلاوة زميلا من زملاء أبي فى الفصل ليقابله في مسكنة .. قال أبي لزميله أن جدي مصر على موقفه فأرجو أن تعتذر للأستاذ نبيل عن عدم حضورى معك إليه .. لم تمر بضع ساعات حتى دخل الأستاذ نبيل على جدي المنزل وألقى السلام فرد جدي السلام فى تقدير واحترام وقال للأستاذ نبيل تفضل يا أستاذ .. وسارعت جدتي بتقديم التحية للضيف وقد انشرح صدرها فقد شعرت بأن هناك شيئا سيحدث .. وأن الأستاذ جاء من أجل مناقشة جدي فى القضية ولعل الله يكتب على يديه التوفيق.
قال الأستاذ نبيل جزاه الله خيرا بأحسن ما عمل .. يا شيخ ابراهيم لن أطيل عليك ولن أقبل أى تحية ولكنى جئت لأقول لك اتقى الله فى هذا الولد .. لابد أن يدخل الامتحان بأية وسيلة فإن الامتحان لم يبقى عليه إلا شهر واحد ولم يبقى على تسليم الاستمارات ومرفقاتها إلى المنطقة التعليمية إلا ثلاثة أيام .. أنا جئت لأنقذ مستقبل هذا الولد فهو من أفضل التلاميذ فى المدرسة .. أرجوك يا شيخ ابراهيم أن تسمح لى أن آخذ السيد لأصوره على حسابي حالا .. وطبعا الصور لن نأخذها إلا بعد أسبوع (فى ذلك الوقت) وليس قبل سبعة أيام .. ومن ناحيتى سأراوغ فى تسليم الاستمارات والصور والرسوم للمنطقة التعليمية حتى تكتمل أوراق السيد .. وبعد إذنك أستأذنك فى دفع الرسوم المقررة .. كما أستأذنك أن يحضر السيد عندي فى البيت لألخص له المنهج حتى يعوض ما فاته وهذا بدون مقابل .. وحسابي على الله.
قال جدي أوافق ولكن ما ذنبك أنت فى هذا كله سيادتك تأمر وأنا أنفذ كل ما تأمر به .. قال الأستاذ نبيل “مشكورا” أبدا لن يحدث ولن آخذ مليما واحدا لأنني أنا الذي طلبت هذا وجئتك بنفسي .. ظل أبي يختلف إلى الأستاذ نبيل يوميا طوال هذا الشهر وكان الأستاذ يحوطه برعاية خاصة.
ظهرت نتيجة الامتحانات وكان والدي من الثلاثة المتفوقين فى المدرسة رغم عدم انتظامه طوال شهور الدراسة لأن اجتهاده التعليمى كان تراكميا .. وأما الأستاذ نبيل حلاوة فإن أبي -رحمه الله- كان مدين له من كل حبات كيانه وكان دائما يسأل الله له أن يجازيه الله الجزاء الأوفى كفاء ما قدم من عمل صالح مبرور وجهد مشكور لأنه غير مسيرة حياة والدي كلها من ظلمات الجهل إلى نور العلم.
مدرس بالمدرسة الإبتدائية الإلزامية على هذا الخلق الرفيع والإنسانية الراقية فى أطهر وأنقى معانيها إنه لحرى بمثله قول أمير الشعراء أحمد شوقى : «قم للمعلم وفّه التبجيلا *** كاد المعلم أن يكون رسولا».
لم يكن يعلم أمير الشعراء أحمد شوقى عندما كتب هذه القصيدة ، أن العلاقة بين المعلم والتلميذ ستتطور عن الزمن الذى عاصره ، حتى تصبح علاقة رسول العلم بتابعه الأمين «نفّعنى وأنفّعك» ، وذلك نظرا لقلة المرتبات وعدم الاهتمام بشؤون المعلمين ، ومعاملتهم على أنهم موظفون درجة ثانية ، مما جعلهم يقبلون على إعطاء الدروس الخصوصية ، فتحوّل التابع الأمين إلى مموّل للرسول ، فكيف إذن سيؤدى الرسالة؟
** الشخصية القادمة ستكون للأستاذ “محمد متولى سالم” .. (مدرس أول اللغة العربية) فى المرحلة الإعدادية .. رحمه الله تعالى.