هناك أهمية دائمة للأنواع الأدبية أو الفصائل الكتابية، بالرغم من وجود عدد من التساؤلات المستمرة حول جدوى وجودها وفاعليتها، وخاصة في العقود الأخيرة، حيث أصبحت التداخلات واضحة والحدود شبه غائمة ورجراجة. ففي بعض الأحيان نشعر أن مفهوم أي نوع من الأنواع موجود ومختزن، ولكن عند الممارسة الفعلية نشعر أن هذا المفهوم بتحديداته المعهودة ليس كافيا، لإسدال حدود وملامح متماسكة بين الأنواع، وخاصة تلك الأنواع التي تتشابه في المنطلق الأساسي في تجليها وتشكلها، وفي جذرها الأساسي المغذي لتمددها.
ويبدو أن السبب الرئيس في ذلك يعود إلى طبيعة النظر إلى الأنواع، وتوزعها إلى نظرة كلاسيكية ترتبط بثباتها واستمرارها بوصفها شيئا مقدسا علويا مفروضا انطلاقا من فكرة القدم، وإلى نظرة خاصة ترى الأنواع الأدبية في تشكلها ونموها أو تحللها وثيقة الصلة بالزمن وبالسياق، وهي في ظل هذه النظرة دينامية، ومدنسة بالنقصان والتلاشي والذوبان والتحول من شكل إلى شكل جديد، فالأنواع الأدبية ليست أنظمة منفصلة، ساكنة على الدوام، ولكنها متداخلة إلى حد بعيد.
النظرة المعاصرة للأنواع تؤكد على أن أشكالها ووظائفها دينامية، يشير ديفيد بكنجهام إلى أن الأنواع عملية تفاوض وتغيير مستمرة. ولا نستطيع أن نغض – في ظل ذلك الترابط بين الأنواع والسياقات الحضارية وانفتاحها على الذوبان والإضافة بفعل الإنتاج الأدبي المستمر- الطرف عن التداخل بين النظرية الأدبية السائدة في زمن ما، وكيفية تجلي الأنواع الأدبية وطبيعة النظر إليها. فالأنواع الأدبية لن تصبح ذات وجود ملموس وحيوي إلا إذا تمّ الإصغاء إليها بنوع من التأمل داخل سياقات النظريات الأدبية التي تطلّ –أيضا- متحركة ودينامية.
ففي ظل سيادة النظرية الماركسية يأتي النوع – حسب دانيال تشاندلر- بوصفه أداة للتحكم الاجتماعي الذي يعيد إنتاج الأيديولوجيا المهيمنة. وفي ظل وجهة النظر هذه نجد النوع يموقع الجمهور من أجل تطبيع الأيديولوجيات المضمنة في النص، وفي الإطار ذاته تشير كارولين ميلر إلى أن عدد الأنواع يعتمد على مدى تعقيد وتنوع المجتمع. وأعتقد أن قداسة الأنواع المرتبطة بتشكل سابق ظلت واضحة الملامح في ظل النظرية الماركسية، لأنها وثيقة الصلة بدلالة استخلاص ملامح ومحددات النوع.
لكن هذه القداسة المرتبطة بالثبات والوجود الفوقي المفروض من خلال أسس جاهزة، بدأت في التلاشي بالتدريج مع سيادة البنيوية، لأن تحديد النوع أصبح مشدودا إلى معايير شكلية بنائية، وبدأ الحديث بين المنظرين البنيويين عن العنصر الفاعل في تحديد إمكانية التسكين داخل إطار نوعي محدد، من خلال الاهتمام بالتشكيل المنجز في لحظة آنية للوصول إلى العنصر الفاعل. أما مع نظريات ما بعد الحداثة فقد تولّد ميل لإنزال الأنواع من بنائها الفوقي، لكي تشير إلى وجود أنماط كتابية متباينة ومتشابهة في آن. فالأنواع الأدبية في ظلّ سيادة هذه النظريات فصائل مفتوحة للتداخل وللهدم أو الإضافة، ويصبح دوران هذه الفصائل والأنماط مرتبطا بقدر الإمكانات التي يتيحها كل نمط بمفرده، وتجاوبه وتداخله مع الأتماط الأخرى.
ومع كل نظرة تنطلق من النظريات السابقة يصبح التحديد النوعي مشدودا لإطار محدد ينبع من النظرية ذاتها، فالنظرية الماركسية ترى الأنواع أشكالا طبيعية توجد بشكل مسبق ومستقل، ومع البنيوية تتشكل انطلاقا من الوعي بالعناصر الفاعلة، قد تتسم بالثبات نظرا لنمطية التردد والدوران، أما مع ما بعد الحداثة فتصبح الأنواع الأدبية مرتبطة بالإمكانات التي تتيحها وتوجدها كل صيغة كتابية أو نمط، ومن ثم فهي ليست بنى شكلية فقط، ولكنها بنى منفتحة على القرّاء بقدر انفتاحها على الكتّاب والنصوص نفسها. وتحديد النوع هنا مرتبط بجدل التشابه والتباين، وليس مرتبطا بالتحديد الصارم ونمطية التوزيع الذي يسكّن الإبداعات الأدبية داخل كيانات وأطر منفصلة، وفي ذلك التوجه يشير ألان إتش باسكو إلى أنه لا يمكن لأي تعريف في العلم أو الأدب أن يأمل بأكثر من كونه يقوم بلفت الانتباه إلى الأشكال السائدة التي يمكن أن تكون موجودة، ويمكن العثور عليها في مكان آخر أو في نوع آخر.
وظيفة وجدوى النوع
يظلّ سؤال جدوى الأنواع الأدبية مهما، وذلك للمتغيرات التي تلحق بهذه الجدوى أو تلك الوظيفة أو الوظائف التي تقوم بها، فجوناثان كوللر يؤكد على أهمية التحديدات النوعية حيث أشار إلى أهمية هذه التحديدات لتأسيس عقد بين القارئ والكاتب، ولإقامة توقعات متشابكة ومتداخلة، ومن ثمّ الإقرار بآليات الامتثال والانحراف المقبول. وقد أشار إلى تلك الفكرة دانيال تشاندلر- نقلا عن ستيف نيل الذي ربما أخذ الفكرة عن رينيه ويلك وأوستن وارين- في قوله (إن المتعة مشتقة من التكرار والاختلاف. ليس هناك متعة بدون اختلاف، فالاختلاف الكامل- مثل التشابه الكامل- ممل، فالشكل الجديد الكامل سيكون مبهما، ولا يمكن تصوره. ربما تُستمدّ المتعة من مراقبة انتهاك التحديدات النوعية، وربما تُستمدّ أيضا من تمدد النوع في اتجاهات جديدة، ومما يترتب على ذلك من تحوّل في توقعاتنا.
وإذا كان هناك دائما شكوك أو تساؤلات ترتبط بقيمة الأنواع الأدبية أو بجدوى النظرية بشكل عام، فإن هذه الشكوك وتلك التساؤلات تتولّد في الغالب من تغير الدور الحيوي الذي تقوم به الأنواع الأدبية، واختلافها من لحظة زمنية إلى لحظة زمنية أخرى. يشير دانيال تشاندلر إلى بعض هذه التساؤلات في قوله: هل يوجد فعلا تصنيف محدد للأنواع، أم أنها من حيث المبدأ لانهائية، وهل هي خالدة أم كيانات وأطر محددة زمنيا سريعة التحلل، وهل هي مرتبطة بثقافة محددة أم عابرة للثقافات؟.
فكل هذه التساؤلات تكشف لنا حجم الإشكالية التي تواجها الأنواع الأدبية، تلك الإشكالية المرتبطة بقيمة وجدوى الدور الذي تؤديه. ويمكننا الإجابة عن معظم هذه التساؤلات إذا كان لدينا وعي بتطور هذا الدور وتلك الجدوى، من وقوفها عند كونها أداة تصنيفية تقيم حدودا ثابتة، إلى تخليها عن هذا الدور، وارتباطها- فوق دورها السابق- بدور جديد يرتبط بفاعلية مغايرة تتعاظم على الدور التصنيفي الذي يحدّد ويسكّن الأعمال الأدبية وفق تصوّر مسبق، إلى دور يسهم في عملية القراءة، بحيث تتجاوب مع الممارسة والفهم، وتتحوّل في سبيل ذلك من أداة تصنيفية إلى أداة جمالية تزيد من متعتنا في قراءة وتلقي النصوص الأدبية.
فالغرض من النقد المبني على الأنواع الأدبية في دوره الأول يرتبط بالمنحى التصنيفي، انطلاقا من مراقبة ومعاينة تقاليد وأسس كل نوع التي يستند إليها في تكوين سمات أو محددات دالة ومغايرة وسميكة للفصل بينه وبين الأنواع الأخرى. والنوع الأدبي في ظل الفهم يغدو نمطا معبّدا يؤسس دروبا أو تقاليد أو إيقاعا موسيقيا جاهزا للعزف التنميطي باستثناء الفروق الفردية بين العازفين. فإذا كانت الوظيفة التصنيفية تراقب التقاليد الكتابية أو البنيات الخاصة بالنوع داخل النصوص الإبداعية، فإنها تؤسس لأيديولوجيا وقيم معينة من جانب، ومن جانب آخر- كما تشير برناديت كيسي- تعمل على إسدال الطمأنينة والتفسيرات المحافظة لنص معين.
النوع في حدود الفهم السابق يعتبر إطارا مرجعيا يساعد القرّاء والمتلقين من خلال الميثاق الموضوع على الغلاف في تشكيل أفق توقعات سابق التجهيز، بالإضافة إلى اختيار تفسيرات تظلّ برأسها للعمل- انطلاقا من الميثاق- كتوجهات أو مضمرات استهلاكية متوارية جاهزة، فلكل نوع وسائله وأنماطه وثيماته الجاهزة التي يتوسل بها لتأسيس حدوده. النوع هنا يقوم بمراقبة الثابت في حركته المؤسسة لتقاليد النوع، ومراقبة المتغير الجديد الذي لا يخرق مواضعة ثابتة من تقاليده، وإنما يقدم فقط نموّا جزئيا، يستطيع النوع- في ظل حركته البطيئة وفي ظل تفعيله لسطوة المتن المتورط بالتشابه والحركة داخل الأفق الثابت، والقدرة على التهميش والإقصاء في حال التباين الكلي والمفصلي- أن يكيّف هذا النمو، ويجعله بالتدريج مسيّجا داخل حدود النوع التي يوسعها بهدوء دون جلبة واضحة أو مغايرة تفكك أسسه التاريخية الممتدة.
إن وظيفة وجدوى النوع في ظل الثبات تسهم في صناعة إطار إبداعي مؤسس له فاعلية تؤثر في تشيكل التجليات المستقبلية لمجموعة النصوص المرتبطة بنوع محدد، وتكشف في الوقت ذاته عن الخروجات والخروقات المحدودة عن هذا الإطار. والوظيفة هنا ترتبط – كما يقول تشاندلر- بنمط استهلاكي سلبي يعتمد على شيوع عدد من العناصر الثابتة والدائمة.
ولكن هذا الدور التصنيفي لم يستمر بوصفه الدور الوحيد للأنواع الأدبية، وإنما تولّد لهذه النظرية الخاصة بالأنواع في ظل جدل النظريات المؤثرة وتراكمها دور جديد، بالإضافة إلى تعدد الأشكال الإبداعية المشدودة إلى جذر مغذ للعديد من الأشكال المتباينة والمتشابهة في آن، ويغدو هذا الجذر المغذي والمؤسس نقطة ارتكاز أساسية. والكتابة الأدبية في تشكلها- بالرغم من استنادها إلى هذا الجذر المغذي- تتوالد ذاتيا مخلفة أشكالا عديدة، تتجلى في أطر وخطابات لها مساحة كبيرة من الخصوصية الإجناسية، ولكنها تظل مشدودة لهذا الجذر الأساسي السابق. فالغرض من الدراسات المبنية من مقاربة الأنواع الأدبية ليس تصنيفيا بقدر كونه- كما يقول روجر ألان- الوصول إلى عدد كبير من العلاقات التي لا يمكن ملاحظتها طالما لم يتمّ إنشاء سياق لها.
فالعلاقات التي لا يمكن ملاحظتها بعيدا عن وجود سياق تجعلنا في مواجهة السمات المميزة التي يتيحها كل شكل كتابي بالرغم من وجود الجذر وتحققه في أشكال عديدة، فالأنواع هنا تصبح بحثا عن الفرادة أو التميز الذي يتيحه كل نمط، فتشابه الأفراد داخل الأسرة الواحدة لا ينفي أن هناك خصوصية لكل فرد. فالكتابة النثرية بتوجهها السردي-الرواية والقصة القصيرة والسيرة الذاتية والنقد الأدبي- تشير إلى جذر خاص يجمع كل هذه الأشكال، ولكن عمل نظرية الأنواع هنا لا يرتبط- في دورها الجديد- بالجذر بقدر ارتباطه بخصوصية كل توجه أو نمط من الأنماط السابقة، وما يتيحه من خصوصية التوجه المعرفي في إدراك العالم ومقاربته.
ويمكن أن تكون المقارنة بين الوظيفتين ماثلة في وقوف الوظيفة الأولى – التصنيفية- في منجزها عند حدود التعريف والتحديد، وارتباط الوظائف الأخرى لعمل وجدوى النوع واستحضاره من خلال عملية وصفية للعمل، وارتباط القيمة النوعية المصفاة بتلقي العمل، وجعله يتم وينجز على نحو خاص. فالتعريف يرتبط بالمحدد وينطلق من الثبات والسكون، ولا ينجح (تعريف) أو (تحديد) النوع في أداء دوره إلا إذا ارتبط بالممارسة النقدية والفهم، وأصبح داخلا في نسيجها، فالتعريف يعتمد على النماذج المستقرة.
في ظل وجود الجذر الأساسي مع تعدد وتشعب الأشكال المنتمية إلى هذا الجذر يظل الوصف أكثر نجاعة من التعريف، لأن الوصف يخرج الأنواع من الثبات، ويجعلها منفتحة على التجليات الجديدة، ويعيد النظر إلى حدود النوع بين ثباته وحركته مع كل عمل جديد يخلخل المستقر، فالوصف استقصاء للشكل في كل مرة لمعاينة الثبات والحركة. وقد توقف روجر ألان في كتابه (دراسات مختارة) عند هذه الفكرة حين أشار إلى أن دراسة التقنيات لن تؤدي إلى فهم الغرض السردي النوعي. فاستقصاء التأثير الناتج عن النوع سيكون أكثر قيمة من (التعريف أو التحديد) الذي يعتمد على قائمة المعايير.
إن الدراسات القائمة على فاعلية النوع في الدرس النقدي حين تستحضر الوصف في الدرس النقدي خاصة في الأنواع المشدودة إلى جذر جامع بوصفه منطلقا لمراقبة ومعاينة التشابهات والتباينات تحقق شيئا مهما يرتبط بالتلقي، وبنوعية وكفاءة الاتصال. فالأنواع – في منطق دانيال تشاندلر- تمثل نوعا من الاختزال الذي يقوم بدوره لحظة معاينة النص. ففي أثناء الكتابة داخل إطار نوع معين، يتضمن النوع بعض العناصر الجاهزة والاصطلاحية المسيجة، ويضيف كل عمل من خلال الانفلات من سطوة المؤسس بعض العناصر الجديدة.
فالتوجه في جعل النوع الأدبي يمارس دوره في تأطير تفسير أو المشاركة في تأطير تفسير للقارئ يجعل المقاربة النقدية ترتبط بالكيفية التي يحدّد بها القرّاء النوع الأدبي بدلا من الانطلاق من محددات جاهزة. فمع الوصف الخاص بالشكل ومتغيراته وعناصره الثابتة نحن أمام محاولة جادة للوصول للقيمة الحقيقية للنوع، لأن النوع هنا يتداخل ويندغم في حدود الممارسة النقدية المشدودة والمرتبطة بالفهم، وتصبح الوظائف الخاصة بالنوع وظائف دينامية، ترتبط بالحركة الدائبة والانتقال المستمر من العناصر المستقرة المؤسسة إلى العناصر الجديدة، وهذا يفضي إلى أن يكون النوع الأدبي أقرب – كما يقول تشارلز إي ماي- إلى عملية تفاوض وتغيير مستمرة.
وارتباط دراسات النوع النقدية بالقارئ يجعلها وثيقة الصلة ببناء المعنى وإنتاجه، خاصة إذا كانت الأنواع الأدبية وفق النظريات المتراكمة في العقود الأخيرة ليست كيانات ثابتة، وإنما هي تقدم أشكالا أو فصائل مرنة، ومن ثم فهي منفتحة على تغيير استراتيجيات تشكلها ووجودها بشكل دائم، فالأنواع ليست مجرد ملامح أو مميزات جاهزة التشكيل للنصوص، ولكنها إطارات وسيطة بين النصوص وصانعيها ومفسريها. وهذا ربما يجعلنا نقرّر أن الأنواع الأدبية ترتبط بكل الآليات أو المعايير التي تستدعيها عملية القراءة والتلقي.
وظيفة النوع وفق هذا التحديد الأخير تصبح إطارا مرجعيا ومدرجا يستطيع القارئ من خلاله اختيار وتأويل النصوص، وهذا يعزّز وعينا وارتباطنا بالنصوص. وفي إطار ذلك ينقل تشارلز إي ماي اقتباسا من فريدريك جيمسون وثيق الصلة بالسرد في إطاره العام، وبالقصة القصيرة بوصفها نمطا كتابيا داخل ذلك الإطار، حيث يشير جيمسون إلى أن السرد إطار معرفي، وأحد التصنيفات التي يمكن من خلالها أن نفهم العالم، وبريد أن يعرف ما إذا كانت السرديات القصيرة تفهم العالم بشكل مختلف عن السرديات والأشكال الطويلة.
جوهر النوع بين القصر والانقطاع
تتولّد لبعض الأنواع الأدبية- نظرا لتطابق الجذع السردي المغذي لكل هذه الأشكال أو الأنماط الكتابية- الكثير من الإشكاليات التي تلازم تحديده، وتطل برأسها على الدوام. ولعل القصة القصيرة تعدّ النوع الأبرز في ذلك السياق. ففي كل الآداب لدينا في البداية مساحة ممتدة يطل فيها مصطلح القصة مصطلحا جامعا للرواية والقصة القصيرة. ويمكن في ذلك الإطار أن نتوقف عند بعض الصفات المقدمة للقصة القصيرة في اللحظة الآنية، أو دخولها في تراتب هرمي بينها وبين الرواية، حيث تأتي الرواية في المقدمة، وتأتي هي تابعة، ونتيجة لذلك لا يمكن صياغة تحديد نوعي لها إلا من خلال جدلها مع الأنواع السردية الأخرى التي تشكل قمة الهرم. وقد أدخلها ذلك –أيضا- تحت مظلة الأنواع الهامشية، بالإضافة إلى وصفها بالهجنة، ذلك الوصف الذي ظل حاضرا في مقاربة الكثير من الباحثين، لأنها مشدودة إلى السردي والنثري، وإلى الشعري والاستعاري في آن.
ولهذا نجد الكثير من التحديدات لم تكن كلها ذات أثر إيجابي، خاصة أن كل هذه التحديدات تنطلق من المشابهة في الجذر السردي مع فنون سردية أخرى أكثر طولا. فهناك التحديد الكلاسيكي المتمثل في ارتباط القراءة بجلسة واحدة، ويبدو تحديدا فضفاضا. وفي أحيان أخرى نجد التحديد مرتبطا بتأمل الشكل، وذلك من خلال الإشارة إلى وقوف القصة القصيرة عند حدث واحد، أو عند شخصية واحدة، أو سلسلة من المشاعر يستدعيها موقف واحد، أو الحديث عن نوعية محددة من الأبطال المغمورين كما أشار فرانك أوكونور.
وثمة تحديدات ترتبط بالموضوعات والثيمات التي تبدو غير كافية بوصفها أساسا لتحديد النوع، لأنها متغيرة من زمن لزمن، ومكفولة ومتاحة لكل الأنماط الإبداعية الأخرى. ففي دراسة ماري لويس برات نجدها تربط القصة القصيرة بالتهميش المكاني والجنساني والسياسي، ففي رأيها أن القصة القصيرة تزهر حيث تسعى المجموعات المهمشة لتأكيد صوتها داخل الآداب القومية. ولكن التحديد الأهم الذي ربما يكون قريبا من تجسير نوع من المشروعية يتمثل في مجموعة المقاربات التي ترى القصة القصيرة مشدودة للحركة والثبات في آن، فهي تنتمي للسرد النثري بوصفه الوسيط، وتستخدم اللغة الاستعارية المشحونة دلاليا للإيحاء وعدم المباشرة.
فالقصة القصيرة وفق التحديد الأخير سردية في الشكل، ولكنها غنائية في الجوهر، فهي تقدم رؤية حيوية للحياة. يشير ألان إتش باسكو جامعا لكل هذه السمات المرتبطة بالحركة داخل الثبات في قوله ( القصة القصيرة بوجه خاص لها انشداد ملحوظ نحو الإبجرام والصيغة والمثال، والحقيقة الأساسية أو الفكرة التي ترتفع عن الزمن، وتنفي أي تطور زمني يمكن أن يمتلكه العمل). وربما يرتبط بالتوجه ذاته إشارة إدجار ألان بو إلى قدرة القصة القصيرة في صناعة الأثر النفسي لدى القارئ.
وفي ظل هذا التعدد في توجهات التحديد أو الوصف، من المنطقي أن نشير إلى أن كل هذه التوجهات على اختلاف مساربها لم تصل إلى تعريف أو وصف قار للقصة القصيرة، فلا يمكن لتوجه واحد أن يضمّ هذا التنوع اللافت للأشكال، ويبدو أن السمة الغالبة هو تحقيق هدف سردي في فضاء موجز نسبيا. ولكن هذا القصر أو الإيجاز – بالرغم من أهميته فليس هناك من يجادل في ضرورة الإيجاز- لم يسلم من مناقشات مهمة حوله، وحول اعتبار هذا القصر-بالرغم من نسبيته- سمة نوعية مستقرة. فقد تساءل فريدمان: ما الذي يجعل القصة القصيرة قصيرة؟ بالرغم من إدراكه أن القصر في القصة القصيرة نسبي، ولكن نسبيته – كما يشير باسكو- لا تجعله عديم الفائدة او الجدوى.
إن هذا السؤال الذي طرحه فريدمان سؤال قلما يتمّ طرحه، خاصة إذا كانت السمة الجوهرية الموجودة في اسم هذا الفن- القصر- نسبية، ولهذا نجد بعض الآراء التي ترى أن سمة القصر محل تساؤل مستمر، فماري برات تنطلق من فرضية أن القصر لا يمكن أن يكون خاصية جوهرية لأي شيء. فالقصر- أو الطول- يعتمد على الطريقة التي يقارب بها أي مبدع موضوعا ما.
القصر في التحديد السابق ربما يعد مظهرا كاشفا عن شيء جوهري يمثل مركز النوع أو بؤرته حيث يرتبط بالسياق الفكري أو المعرفي، ويتمثل في الوجود الجزئي القائم على الانقطاع دون تاريخ مؤسس سابق، والقارئ لكي يستكمل هذا السياق الفكري أو المعرفي عليه أن يتجاوز هذا الانقطاع الجزئي. وقد أشار خوليو كورتيزار إلى فكرة قريبة من الفكرة السابقة في قوله: إن القصة القصيرة تشبه لقطة الكاميرا فهي تلتقط شظية من الكل أو لقطة، وتستخدمها للانفتاح على واقع أكثر اتساعا، ولتقديم رؤية دينامية تتجاوز الفضاء الذي وصلت إليه الكاميرا.
القصة القصيرة هي فن الجزء الذي يتعاظم على حدوده، للوصول إلى صورة كاملة للكل بالرغم من هذه الجزئية المنقطعة عن السابق التاريخي أو اللاحق المستقبلي. فتوزع القصة القصيرة بين فكرتي الجزئية والانقطاع، ومحاولة الوصول في ظل هذه الجزئية وذلك الانقطاع إلى إعطاء صورة تشير وتكشف عن كيان كامل ملمح أساسي من ملامحها النوعية المؤسسة. ومن ثم تنفتح القصة القصيرة على وحدة الإدراك المعرفي الذي يستوعبه القارئ بشكل عام، من خلال هذا الانصهار والاندماج والتوجيه إلى إطار فكري خاص.
وقد عاين المنظرون هذه الحال الغريبة والفريدة للقصة القصيرة، وعبروا في تناولهم النقدي عن خصوصية هذا الفن، فجيسكا وارين باتلر في دراستها (هل القصة القصيرة بوصفها نوعا موجودة؟) تشير إلى موقف إدجار ألان بو وأوكونور في اعتبارهما القصة القصيرة أكثر من كونها مجرد (قصيرة) في التحديد أو التعريف البسيط لذلك النوع. وربما يكون ارتباط الجوهري النوعي في القصة القصيرة بالفكر والمعرفة يعود إلى أصولها في بداية نشأتها، وارتباطها بسؤال الحقيقة والانفتاح على الوجود في صمته الذي لا يبين، لمقاربة الأسئلة التجريدية الصعبة. وبحسب الناقد الشكلي بوريس إيخنباوم- فيما نقلته فيوريكا باتيا في بحثها- فإن القصة القصيرة تمثل العنصر الأولي الذي يحافظ على روابطه القوية مع الأسطورة، وخصائصها من حيث التركيز والتكثيف، ففي رأيه أن القصة لغز.
ارتباط القصة القصيرة بالأسطورة، أسهم في تأسيس هذا البناء المغاير المرتبط بتجلي الأفكار التجريدية خارج حدود الزمن ومظاهره المعروفة والمحددة، وأسس لجزئية الانقطاع، والتعاظم في الوقت ذاته لمحاولة تشكيل وإكمال الأجزاء المتبقية أو الإحساس بفحواها على الأقل، بالرغم من ظلام النقصان أو الغياب المطبق. فجزئية الانقطاع بوصفها ملمحا جوهريا للقصة القصيرة تشير إلى تجل أساسي من أساسيات النوع، فنحن غالبا في القصة القصيرة أمام شخصيات غير مكتملة منقطعة عن سياقها، وتقدم بهذا النقصان، وهذا يوجه عملية التلقي الخاصة بها إلى جزئيات قد تكون أكثر عمقا من مجرد السرد البسيط لحكاية ما. وفي ذلك يقول خوليو كورتيزار: تصبح القصة القصيرة ذات مغزى حين تخرج من حدودها الضيقة من خلال مدى الطاقة الروحية التي تكشف فجأة عن شيء أو أشياء أكثر بعدا عن ذلك الشيء البسيط في الحكاية التي تروى.
وهذا قد يشير إلى فارق جوهري بين القصة القصيرة والرواية، فالرواية في ظل التحديد المستقر خطاب له مسحة أقرب إلى البشرية، لأنه قائم –بالرغم من بلاغته الخاصة- على الاتصال الحرفي المباشر، وإن كان لا يخلو من الرموز. أما القصة القصيرة فهي خطاب- ربما لانشدادها للأسطوري- به مسحة إلهية مقدسة نابعة من كون القصص لا تكف عن الإشارة إلى عوالم أخرى. فهي تجاهد- بالرغم من تجذرها داخل سرديتها النثرية- للوصول إلى شيء غير موجود، ولا يمكن الإمساك به بشكل مباشر. وهذا يفسر كثافة القصة القصيرة، ومن ثم تصبح – على حد تعبير أحد النقاد- متمتعة بقدرة غير محدودة لتذويب الحدود بين المعلوم والمجهول، والمرئي وغير المرئي، والسطحي والغائر العميق لمجمل الأشياء المحيطة.
القصة القصيرة في تحديدها النوعي خطاب نثري يعاني من الانقطاع، ومن ثم يعاني بالضرورة من النقصان وعدم الاكتمال، وهي – نتيجة لذلك التقصان وهذا الانقطاع- تبحث عن اكتمالها، ومن ثمّ تتوجه نحو الخارج الفكري المعرفي المجرد لتكتمل به، حيث يشكل عناصر غائبة، تستدعيها بالضرورة جزئيات حاضرة ودافقة في بنية النص الناقص، فالمكوّن الأساسي للقصة القصيرة ليس خاصا بالبنية السردية، ولكنه خاص بلحظة الحقيقة والإدراك. يقول ألان إتش باسكو في دراسته (في تحديد القصة القصيرة): بسبب الحاجة الملحة إلى الإيجاز تميل القصة القصيرة نحو العام، حتى عندما تكون التفاصيل موجودة ومتاحة، فالقرّاء بالضرورة يتوقعون أن تحمل الكلمات أهمية أكثر من الأهمية المعتادة، ولهذا أنا أظن أنها أكثر عرضة للتجريد من الرواية.