عمان
قالت ماريانا ماسا إن عددً من الباحثين الطليان أكدوا على وجود عناصر تشابه كثيرة بين الكوميديا الإلهية وقصة الإسراء والمعراج. وقالت باحثة الدكتوراة في الجامعة الكاثوليكية في نابولي في ندوة نظمتها الجمعية الفلسفية الأردنية بمناسبة ذكرى مرور سبعماية عام على وفاة دانتي يوم الثلاثاء الماضي في عمان: أن الباحثين الطليان وجدوا عناصر تشابه كثيرة بين الكوميديا الإلهية وقصة الإسراء والمعراج، لاسيما في البناء الهندسي للجحيم والمطهر والفردوس، والتقسيم إلى دوائر ووجود الكهوف، هذا بالإضافة إلى الكثير من الصور، خاصة في طرق عذاب المذنبين.
وقالت ماسا إن رحلة محمد (ص) إلى عالم الآخرة مذكورة في القرآن في سورة الإسراء آية ١(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿١﴾
ثم تطورت القصة في الحكايات الشفهية الشعبية حيث رُوي أن محمدًا (ص) سرى من مكة إلى القدس على متن البراق، ثم انتقل لرحلته في عالم الآخرة. وتقول الحكايات أن رحلة محمد بدأت من أسفل جبل عالٍ يصعب الصعود عليه، ولكن مرشد محمد الروحي (جبريل) يدعوه إلى الصعود، وأثناء السير يشاهد محمد عذاب أرواح الكافرين، ويشرح المرشد تلك الحالات للنبي محمد، حتى يصل مع مرشده إلى حديقة خضراء جميلة يقطنها بعض الأطفال المؤمنين السعداء، ثم يوجِّه محمد نظره إلى الأعلى ويرى عرش الرب فوقه.
نلاحظ هنا بعض التشابهات، فدانتي أيضًا بدأ رحلته من أسفل جبل، ثم صعد إلى الأعلى والتقى بمرشده الأول، الشاعر اللاتيني فرجيل.
وتطرقت ماسا في كلمتها إلى تأثير الثقافة العربية والإسلامية على دانتي، من وجهة نظر الباحثين الإيطاليين وقالت إن العنصر الإسلامي الأكثر وضوحًا في الكوميديا الإلهية هو شخصية النبي محمد (ص).
وقد وضع دانتي ابن سينا وابن رشد (الأنشودة الرابعة143-144) صلاح الدين الأيوبي (من ١٠٦ إلى ١٢٠ و ١٢٩) في “اللمبو”، أي المنطقة الحدودية السابقة للجحيم، وهي المنطقة المخصصة لعظماء التاريخ الذين قاموا بأفعال عظيمة، لكنهم لم يعتنقوا المسيحية، ومعهم أيضًا الأطفال الذين ماتوا قبل أن ينالوا التعميد. وعذابهم ليس ألمًا جسديًا أبديًا، بل هو الشوق الأبدي إلى رؤية الله.
وهذا دليل على مدى إعجاب دانتي بالفلاسفة العرب المسلمين القدماء.
ووجد النقاد من مختلف الجنسيات أن هناك عناصر تشابه بين الكوميديا الإلهية ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري، ومنظومة الشاعر الفارسي السنائي “سير العباد إلى المعاد” والفتوحات المكية لابن عربي.
وقالت ماسا إن أول من أدرك تأثير الثقافة الإسلامية على إنتاج دانتي كان العالم الدومينيكاني، أي من الرهبان الدومينيكان، غويدو فرناني Guido Vernani الذي اتهم دانتي عام ١٣٢٧ بأنه من أنصار ابن رشد، فأُحرق كتاب دانتي “في المَلَكية” علانية في ساحة مدينة بولونيا.
أول من كتب مقالة عن تأثّر دانتي بالفكر الإسلامي، وخاصة بابن رشد، هو الفيلسوف الإيطالي “برونو ناردي” في مقاله الذي نشره في جزأين بين عامي ١٩١١ و١٩١٢، في مجلة الفلسفة التابعة للجامعة الكاثوليكية وأجرى ناردي مقارنة دقيقة بين مؤلفات دانتي وكتابات غيره من فلاسفة مدرسة الأفلاطونية المحدثة، ونظريات ابن رشد وابن سينا، وتبين من بحث ناردي أنّ خلفية دانتي الفلسفية تصل إلى آفاق أبعد من الفلسفة الأكوينية، إذ اشتملت رؤية دانتي على نظريات المفكرين القدماء والمعاصرين له بغض النظر عن عقيدتهم.
في ١٩١٩ نشر القسيس الإسباني ميجيل آسيم بلاثيوس كتابًا بعنوان Escatologìa Musulmana en la Divina Comedia (أثر الإسلام في الكوميدايا الإلهية)، يثبت فيه التشابهات الكبيرة بين رحلة دانتي في عالم الآخرة ورحلة النبي محمد (ص) في قصة الإسراء والمعراج، وغيرها من أعمال المفكرين الإسلاميين مثل ابن عربي، ويعرض بالاثيوس بعض الوثائق التي تثبت الاتصال بين الإسلام وأوروبا في القرون الوسطى، كما يوضح طرق انتقال النماذج الإسلامية إلى أوروبا. ثم يتحدث عن شخصية برونيتو لاتيني، وهو أديب موسوعي المعرفة شغل منصبا يسمح له بأن يحصل على معرفة مباشرة بالثقافة العربية، وذلك عندما عُيِّن سنة ١٢٦٠ سفيرًا لفلورنسا لدى بلاط الفونسو الحكيم، راعي مدرسة الترجمة الشهيرة في طليطلة.
وعام ١٩٤٩ نشر كل من الإيطالي إنريكو تشيرولي والإسباني مونوث ساندينو الترجمات اللاتينية والفرنسية والقشتالية لوثيقة “معراج محمد”، واُعتبرت هذه الوثيقة الدليل الحاسم في تأثير التراث الإسلامي على دانتي بسبب التشابهات والعناصر المشتركة بينها وبين الكوميديا الإلهية.
وعرف العالم من هذه الوثيقة أنّ ملك إسبانيا ألفونسو العاشر “العالم” قد أمر طبيبًا يهوديًا يعمل في بلاطه، ويدعى “إبراهيم الحكيم”، بترجمة قصة المعراج الإسلامية من العربية إلى الإسبانية القشتالية عام ١٢٦٣، وأنّ هذه الترجمة كانت أصلًا لترجمة أخرى إلى اللاتينية والفرنسية قام بها مترجم وموثق إيطالي كان يعمل في نفس البلاط، وهو “Bonaventura Da Siena” في العام التالي 1264، قبل ميلاد دانتي بسنة واحدة.
وقالت ماسا: وبالرغم من أن أفكار تشيرولي لقيت ترحيب بعض المثقفين والمستشرقين الإيطاليين، مثل جورجو ليفي دي لا فيدا وأومبيرتو بوسكو، إلا أنّ القضية بقيت حساسة جدًا في الأوساط الثقافية الإيطالية. وبعد إصدار كتاب آخر لتشيرولي عن الموضوع نفسه عام ١٩٧٢، ساد الصمت حول الموضوع لمدة عشرين عامًا. وربما كان سبب ذلك الصمت عدم تقبُّل النقاد الإيطاليين مقولة أن يكون الشاعر الإيطالي الأعظم قد استوحى أفكاره من الثقافة العربية الإسلامية. كتب فرانشيسك، جابرييلي، وهو من أبرز المستشرقين الإيطاليين، في كتابه “دانتي والإسلام” الصادر عام ١٩٧٠: إنّ استناد دانتي على أفكار إسلامية لا يقلل من القيمة الأدبية لعمله، لأنّ عظمة دانتي هي أساسًا في الإبداع الشعري والجمالي للكوميديا الإلهية، أما مصادر المادة فليس لها أي تأثير جمالي على المنظومة الشعرية، وعلى سبيل المثال لا يؤثر جودة الرخام الخام على شكل.
ثم صدرت في ١٩٩١ الترجمة الإيطالية لقصة الإسراء المعراج، والتي أنجزها الشاعر الإيطالي روبيرتو روسي تيستا، حينها عاد المثقفون الإيطاليون إلى القضية، فكتب كارلو ساكوني، أستاذ اللغة الفارسية، مؤيدًا أفكار فرانشيسكو جابرييلي في مقدمته للترجمة الإيطالية لقصة الإسراء المعراج.
إنّ النقاد الإيطاليين لم يتناولوا القضية على نحو موضوعي، لأن فكرة أنّ الشاعر الإيطالي الأعظم قد استوحى بعض أفكاره من الثقافة الإسلامية كانت صادمة إلى حد كبير.
• ولم تظهر في المشهد الثقافي الإيطالي ترجمة كتاب بلاثيوس إلا في ١٩٩٤، في تلك الفترة ظهرت نظرية أخرى حول القضية من قبل الكاتبة والناقدة، وأستاذة علم العلامات (السيميوطيقا)، الإيطالية ماريا كورتي، والتي أيدت أفكار بلاثيوس وتشيرولي، لأنّ نقل الأفكار والعناصر الثقافية من العرب والإسلام إلى الحضارات الأوروبية كانت ظاهرة منتشرة جدًّا في زمن دانتي. وهي تضيف إلى الشعر بيتًا وتشير إلى أمثلة أخرى في الكوميديا الإلهية تدل على تأثير الثقافة العربية والإسلامية على دانتي.
وذكرت ماسا رأي الكاتب الإيطالي أمبيرتو إيكو عن هذه القضية والتي عبر عنها في مقال نشر في جريدة ليسبريسو عام ٢٠١٤، وقال “عندما ينتابنا القلق من الحركات الإسلامية المتطرفة نميل إلى نسيان كل ما ربط الثقافة الغربية بالثقافة الإسلامية الثرية جدًا والمتقدمة على مدار القرون الماضية”.
وختمت ماسا قائلةً إنّ الصور والتخيلات التي استوحاها دانتي من الثقافة الإسلامية على الأرجح جعلت الكثير من نقاط الكوميديا الإلهية تلمع لمعانًا أقوى، مما يزيد مدى تأثير تلك الصور على عقول القراء على مدار القرون ليتذكروا أنوع عذاب المذنبين ونعم الفردوس، وبالتالي تدفعهم تلك الصور إلى إتباع النماذج البشرية الحسنة، وإلى الالتزام التزاماً أقوى بالقيم الأخلاقية والدينية الكاثوليكية.
وكان الشاعر موسى حوامدة الذي قدم الباحثة ماسا وشارك بشهادة عن دانتي قال في بداية الندوة: إذا كان فرجيل هو الذي يقود دانتي، ويحميه من الشرور والأخطار التي تصادفه خلال رحلته في العالم الآخر، فإن دانتي بذكائه الحاد، هو الذي يقود العالم، ويجلسه على كرسي، لكي يعرض عليه كل هذا التراث الإنساني الضخم، عبر كوميدياه الإلهية في أجزائها الثلاثة؛ الجحيم والمطهر والفردوس. دون أن يتخلى عن هذه الشعرية المتأججة والعميقة.
وأضاف حوامدة: على حد السيف يمشي بنا دانتي، دون يقين، ووثوق، ودون طمأنينة من ربوبية أو وحدانية أو مصير، معليًا من شأن الفضائل اليونانية المعروفة، لكنه لا يعدنا بشيء، بل يجعل أرواحنا تفزع ليس من درجات العذاب وصنوفه في الجحيم، بل من بؤس البشر وظلمهم وطغيانهم وجشعهم وشرورهم التي لا حد لها:
أنا الطريق إلى مدينة الخراب
انا الطريق الى العذاب الابدي
انا طريق الخلق الهالكين
صحيح أنه يسعى لتكريس الخير عبر امتداح الفضيلة، لا التدين الأعمى، لكنه لا يضع حجابًا على توجه الفرد فالإرادة لديه حرة بالمطلق، وهو لا يبشر بدين أو مبدأ، بل يشير ويكشف ويبقى الخيار للإنسان، فالمتدين يجد ما يشفي غليله في الكوميديا، والملحد سيجد أيضأ نقدًا عميقًا للدين دون تجريح ودون نفي ودون رفض، ولهذا ليس غريبًا أن الكوميديا مقبولة في الكنيسة، ومقبولة لدى العلمانيين، وأصحاب مبدأ فصل الدين عن الدولة.
إنه يمشي بنا على الحد الفاصل بين النقيض والنقيض، بين العدل والظلم، بين النور والعتمة، بين الخير المطلق والنعمة المطلقة، بين الجهل والعلم، وبين الطيبة الإنسانية التي تعلو على كل دين وبين الجبروت الذي لا يخلو حتى من قلوب المؤمنين أنفسهم.
سبعمائة عام تمر وما زالت الكوميديا الإلهية، تطرح الأسئلة والتعليقات وتثير الكثير من المقاصد والأسئلة التي طرحها دانتي، والذي كان ماهرًا في الرياضيات والعلوم والتواريخ والأديان والعصور الرومانية والاغريقية والآلهة والأساطير وكل الحقب التاريخية للبشرية،وكأنه الفيلسوف والمؤرخ الموسوعي، والعالم الرياضي، فقد أقام الكوميديا على ثلاثية متكررة، وختمها بإضافة رقم واحد، حتى صارت الأناشيد مئة نشيد، وهو الفلكي الذي يفهم بالفلك ومدرات النجوم،وهو العالم النفساني يفهم دواخل النفس البشرية، ويكشف الإيمان المزيف، ويفصل بين الفضيلة والاستعراض.
لم يكن كاثوليكيا متعصبًا لكن ما يعرضه من فهم في الدين، ومن حب لمريم العذراء وللمسيح يَجبُّ عنه، كل ما جاء به من نقد لرجال الدين وللباباوات وللكنيسة، وهو المتمسك بالمبادئ الإغريقية والتي يفضلها على بعض العصبيات والفهم المغلوط للايمان.
وقال: لا تزال الكوميديا الإلهية وبعد سبعمائة سنة، تفرض تأثيرها وأثرها على الأدب العالمي كله، وقد ترجمت إلى أغلب لغات العالم بل لدينا في اللغة العربية أكثر من ترجمة لها، وما يزال الباب مفتوحًا للمزيد منها.