ساشا تشارك نجيب سرور مرقده الطاهر
تغسل وجهها ببقاياه
وتنسحب على الرغم من أنها تمقت الانسحاب
هنا… في هذه الأزقة القاهرية…. ارتبطت الروح بالروح…
وتعانقت القلوب الحالمة… فأصرت ساشا الطيبة على العودة إلى حيث ينام شاعرها وفارسها وقائد فيلق حربها النبيل…
هناك يراقب نجيب سرور هذا العالم الخرب… وهذا ما تعرفه ساشا جيدًا…
يبتسم لبهية من خلف النخلتين حين يعود القطار الغريب… وهذا ما يؤرقها في بعض الأحيان…
ويرسم وجه ياسين على جدران قرية بهوت المستكينة… وهذا ما يزعجها كلما جن ضرب الرصاص من بنادق الهجانة في ظلمة الموت…
تدور الجوزة بين أفواه الحمقى والمغفلين… وساشا تحاول إقصاء حمدي عن فعلته الشنعاء
الفنان لا يلقي بنفسه من فوق برج عالمه… عد ولا تكن مغفلاً أيها العبقري المقاتل…
ينصرف نجيب فتنصرف روح ساشا…
هذا عالم مليء بالخوف…
الوحدة مميتة…
وفقد الأحبة عذاب متصل…
القصص مرعبة…
والروايات مخيفة…
وجلسة المقهى أعين جائعة لكل شيء…
حتى قصائد الشعراء أصبحت ملبدة بالغيوم وجائعة كأعين الجالسين على المقاهي ذات الروائح النتنة…
تغسل ساشا وجهها في الصباح الغريب وتجلس على كرسي نجيب الساكن…
هل ستكتب لنا قصيدة جديدة تفوق (الحذاء)
لست مهيأً لكتابة قصائد كاذبة يا ساشا… عودي إلى مقعدك على حافة الحياة وانتظريني فراشة… أو نخلة… أو حصان بيت مهمل… أو سيجارة في علبة كستها الأتربة… أو حتى رائحة تبغ ترفض أن تتخلى عن صدر هذا الوجود المتسخ…
ياسين لم يعد يخرج لمقابلة عفاريت قصر الباشا
وبهية لا تحب عطية… ولم تجد رائحة شال فلاحها في ملابس أمين صاحب الزي الأزرق… ولم تتمكن من إقصاء حامل الموسيقى عن الانتحار… وتكره كل البلدان التي ترتدي ظلمة بهوت في الصباح…
ساشا لم تنسحب كثيرًا من المشهد… فقط ذهبت لتودع شهدي وتعود متكئة على ذراع فريد الأيمن إلى تلك الشوارع المليئة بعربات الفول والطعمية ورائحة الباذنجان الطازج وصوت الرجل المسكين الذي يصرخ (بيكيا) ولا يجيبه غير رجع الصدى
الشوارع التي أسعدتها وصدمتها…
الشوراع الخالية من كل شيء إلا صراخ نجيب سرور وهم يطاردونه بعربات الأبدان الخسيسة والجثث القذرة… وبائعة الهوى العفنة..
بائعة الهوى هي الأخرى مازالت هنا… تبث قذارتها في أركان الحياة..
الشياطين يعتبرون الحياة ملجأهم الوحيد… لذا يتمسكون بها بطريقة مملة… لينسحب الملائكة واحدًا واحدًا وتستمر الأغربة في مطاردة اليمام الطيب
ساشا لم تعد إلى هنا كي تتغزل في عيون الليل… أو لأن المساء في بلادها ضيق… ولكن لأن صدرها لم يعد يحتمل هواءً غير الهواء الذي زفره صدر سرور المنهك
ولم تعد قادرة على خلق خطى أكثر اتساعًا من خطاها في هذه الشوارع الممتلئة بالشحاذين وحاملي المباخر والكتب المهملة ومدعي النبوة وساندوتشات الفراغ والكلاب الضالة…
هنا ينتظرك حامل مسبحة فقير لتربتي على كتفه الأيسر يا ساشا
بنت صامتة لتحكي لها عن مغامرات نجيب سرور في بلاد الغرابة…
حصان خشبي ليركبه الرجل الذي لم يعد يقرأ البروتوكولات
ساعة يد معطلة لا وقت فيها…
لزوميات تخلت عن قصائدها…
حذاء مهمل يمقته الفارس الطيب
قارورة عشق مكتوب فوق غطائها الحجري:
«قد آن يا كيخوت للقلب الجريح، أن يستريح/ فاحفر هنا قبرًا ونم/ واكتب على الصخر الأصم/ يا نابشًا قبرى حنانك ها هنا قبر ينام/ لا فرق من عام ينام وألف عام/ هذى العظام حصاد أيامى فرفقًا بالعظام»..
وداعًا يا صوت نجيب الطيب…. تمسكي وأنتِ هناك بالحياة… لأنه لا يحب الموت…
………….