في رواية “النفي إلى لوطن” لمحمد جبريل( )يواجه المناضل الزعيم السيد عمر أفندي مكرم الأسيوطي كل ما يواجهه البطل التراجيدي في الدراما الإغريقية من تحديات تدمره بواسطة القدر،رنتيجة خلل غير معروف في شخصيته، ويتطلب هذا أن يحتل البطل مكانة سامية لا يتنازل عنها، ويوجهه القدر نحو هدف نبيل ثم يسقط ويدمر. ودوما ما نجد مع البطل رفيق أو صديق وأحيانا تابع يشد من أزره أو يعينه ويساعده ويرشده، فأوديب رافقته ابنته انتيجونا في مأساته حتى ضحت بنفسها من أجله، والملك لير كان في صحبته ذلك الخادم الذي رافقه طوال المأساة ، وغير ذلك الكثير ، وقد صاحب عمر مكرم حفيده صالح طوال سنوات النفي حتى وفاته في مدينة طنطا بجوار السيد أحمد البدوي وهذا النسق التراجيدي في الكتابة الروائية أو الشعرية قصد به استلهام ملامح الأسطورة اليونانية على اختلاف موضوعاتها وشخصياتها واستدماجها داخل النص الأدبي بحيث تسيطر روح القدر على البطل الذي لا يرتكب جريمة ولكنه يعاقب علي فعل غير آثم، بإرادة القدر ومجمل الأفكار والقضايا الفكرية والفلسفية تبحث في الأخطار التي يواجهها المرء في رحلته الطويلة على طريق البحث عن الذات والقيم العليا، وتبحث أيضا في مشاعر الذنب، وتكشف عن طبيعة القدر، وتدرس العلاقة بين الفرد وقدره. وهنا تآمر وخان وغدر رفاق الدرب – المشايخ – صديقهم عمر مكرم وباعوه بثمن بخس من الدراهم والأبعديات وتولوا المناصب التي كان يشغلها من نظارة الوقف ونقابة الأشراف، بل إن أحدهم طلب من محمد علي – القولي – أن يقتل عمر مكرم غيلة لينتهي أمره تماما. فيقول عمر مكرم “بلغني أن المشايخ لم يقصروا تدبيراتهم على نفيي إلى دمياط ، حرروا بيانا باتهامات تزعم إدخالي أسماء أشخاص في دفتر الأشراف ، جميعهم من الأقباط واليهود ، تواطئي مع أمراء المماليك في هجومهم على القاهرة وقت الاحتفال بوفاء النيل ،وإثارة فتنة تنتهي إلى خلع الباشا خورشيد وتولية محمد علي مكانه، قبولي منحة مالية من محمد بك الألفي لأساعده في تولي حكم البلاد، وجدوا فيما نسبوه لي سببا في عزلي من نقابة الأشراف ونفيي”.
لم يحظ عمر مكرم بترجمة معاصرة لحياته وأغلب الظن أنه من مواليد أسيوط في عام 1750 لأسرة تنتمي للنسب الشريف بيت النبي وتلقى تعليمه بالجامع الأزهر واتجه للعمل الإداري في نظارة الأوقاف إلى أن تولى نقابة الأشراف وهو منصب رفيع ، وظهر على الساحة السياسية في مصر عندما حاول الصلح بين المماليك القبليين الذين فروا لجنوب للوجه القبلي وحاكم مصر يومذاك محمد عزت باشا الوالي العثماني الجديد وذلك عام 1791. وغدا كبير زعماء مصر وزاد أمره بمباشرة الوقائع وولاية محمد علي وصار بيده الحل والعقد والأمر والنهي والمرجع في الأمور كلها وكان له في نفوس الشعب مكانة كبيرة وكان يتقدم مجالس المشايخ والأعيان ويجلس بجانب محمد علي واعتبره الشعب الزعيم المثالي الذي لم تدنسه المطامع الشخصية ولم يخض مع الخائضين في التكالب على إنماء ثرواتهم الخاصة فبقي الملاذ الذي يجأ إليه الشعب لرفع المظالم .
النفي إلى الوطن رواية تاريخية ذات نفس طويل اعتمد فيها علي العديد من المراجع التاريخية العربية والمترجمة والروايات الأدبية بلغت ثلاثين مرجعا وقد عنيت بتاريخ تلك الفترة التي تبدأ بدخول الحملة الفرنسية الغازية عام 1798م ليؤرخ في شكل أدبي لسيرة الزعيم المصري عمر مكرم “أشرف السيد عمر مكرم بنفسه على صنع آلات الحرب”. وحكم محمد علي لمصر ودور الزعيم عمر مكرم خلال تك المرحلة وما حققه من ازدهار على ساحة الوطن منذ كفاحه ضد المستعمر الفرنسي والبريطاني وجهاده ضد الولاة المماليك واستبدادهم في معاملة الشعب المصري ودوره في عزلهم وتولية محمد علي ثم معارضته له وما أصابه من انكسار وسقوط حتى كانت نهايته في المنفى الذي أجبر عليه داخل الوطن.
النفي إلى الوطن رواية اتخذ فيها محمد جبريل تقنية الوثائق والمذكرات التي كتبها كل من عمر مكرم ليضعنا أمام نص آخر كتبه مؤرخ تلك الفترة عبدالرحمن الجبرتي الذي لم يعرف لمحمد علي فضيلة أو خلق حتى أسماه “القولي” نسبة إلى مدينة “قوله” مسقط رأس محمد علي وكان ضابطا عثمانيا مغمورا ولم تمض سنوات ذات عدد حتى أصبح على رأس الحكومة فوضع مخططا سياسيا هو أن يؤسس في مصر ملكا يورثه لأبنائه وحفدته من بعده وكان قد قرر أنه يروم إنشاء حكم وراثي في أسرته في مصر، فأصبح هو الزارع الوحيد والتاجر الوحيد والصانع الوحيد في مصر وأستبد بالأمر بعد أن أطاح بخصومه من المماليك والزعامة الشعبية والعلماء والمشايخ وما فعله مع الزعيم يكشف عن طبيعته العنيفة والمستبدة والغادرة والمتنكرة لأصحاب الفضل عليه ( ) .
كما اعتمد محمد جبريل في روايته تلك على نصوص من كتب المؤرخين من الأجانب وقناصل بعض الدول الذين تناولوا تلك المرحلة المهمة فيقول ضابط فرنسي “فجأة تحولت القاهرة إلى مدينة مقاتلة نصبت المتاريس في كل شوارعها ” ورحل الفرنسيون بعد أن أمضوا ثلاث سنوات وثلاثة أشهر من احتلال مصر “.. وإذا كان عمر مكرم يمثل المقاومة والمعارضة الشعبية العلنية فإن عبدالرحمن الجبرتي كان يمثل المعارضة السرية، حتى أن محمد علي قتل ابن الجبرتي فأصابه الغم والحزن حتى لقي ربه على هذه الحال، وتخلص من عمر مكرم بالنفي ومن قبله بعزله من المناصب التي كان يحتلها ومحاولات لتشويه سمعته وإلصاق التهم الباطلة حول نزاهته. وكان الزعيم هو من ولى “القولي” حكم مصر وقد كان من قبل يعمل بتجارة الدخان حتى أن توفيق الحكيم يعرض بذلك في روايته “الأيدي الناعمة” فيقول “جدنا الدخاخني باشا”، ويقول محمد جبريل “قبل أن يؤذن للعصر ألبس السيد عمر الوالي الجديد قفطانا وعباءة مبطنة بالفرو”. نودي علي محمد علي واليا”.
وهكذا استقر محمد علي واليا لمصر وسرعان ما استبد بالأمر وفرض الضرائب وبدأت معارضة الزعيم له حتى زاد الشقاق بينهما فامتنع عن الصعود للقلعة ولقاء الوالي حتى انعقد لقاء للصلح بينهما رفضه الزعيم وقال محمد علي فيه “لعلنا نعزله وننفيه إلى دمياط”، وطالب البعض الزعيم باستجداء العطف من الوالي فرفض الزعيم قائلا ” حامل القرءان ليس في حاجة إلى استجداء أحد، سيدي الذي اتجه إليه مستجديا هو الله وحده”. وتحقق النفي إلى دمياط وقد صحب الزعيم حفيده صالح واثنين من الخدم وبعض الحراس، وذكر الجبرتي ” نفي عمر مكرم عقابا سماويا لدور عمر أفندي في تولية حاكم ظالم”. وقد بدأت الرواية بمقولة لأبي حيان التوحيدي “أغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه وأبعد البعداء من كان بعيدا في محل قربه”. وهنا سنجد إشارة لما سيحدث لعمر مكرم من النفي والتهميش داخل الوطن.
وفي أول مقاطع الرواية يأتينا ما كتبه الجبرتي “هي أول سني الملاحم العظيمة والحوادث الجسيمة والوقائع النازلة والنوازل الهائلة وتضاعف الشرور ….” كأنها إشارة مبدئية على أن كل ما في الرواية نماذج من الشرور والحوادث الجسيمة حول حياة المناضل والزعيم عمر مكرم من جهة ومن الجهة الأخرى ما حدث لمصر والمصريين من استبداد الحكام والغزاة طوال تلك الفترة . وبدا عمر مكرم آخر مختلفا عن الشيخ الذي قاد المصريين في ثورات ضد المماليك والفرنسيين ، يلتفت حوله فيعاني شعور الوحدة ، يقول لحفيده صالح “أعرف أن الشيخ الجبرتي وجد فيما أعانيه عقابا سماويا لأني سعيت إلى تولية ظالم ، ما تصورته دفاعا من محمد علي عن الناس ضد ظلم المماليك هو الذي دفعني إلى تزكية ولايته ، أيقنت أن المظهر الهادئ وملامح الطيبة في وجهه ، واجهة لما يحاول مداراته من مشاعر الخسة والعنف ، هو شيطان في صورة آدمي قد يتنكر الشيطان في هيئة الملائكة لكنه سيظل شيطانا ! إذا كنت قد أخطأت ، فلعلي أعالج خطئي “.
قضى عمر مكرم عشر سنوات من النفي في دمياط ثم طنطا وقد عاد للقاهرة ولكن محمد علي خشي من نفوذ الزعيم بالرغم من اعتكافه في بيته اعتكافا تاما عن الناس ، فأوفد في الخامس من أبريل عام 1822 أحد الضباط إلى دار عمر مكرم ليطلب منه الذهاب إلى طنطا مرة ثانية فخرج مع الضابط يحيط به الحراس وقد تجاوز الثانية والسبعين من عمره وأصبح شيخا طاعنا ، وقد اعتقد محمد علي انه كان المحرك لانتفاضة قامت في التاسع والعشرين من مارس عام 1822 أي قبل أسبوع من نفي عمر مكرم إلى طنطا ولم تطل إقامته بها وكانت النهاية في نفس السنة “راع صالح همس جده : كل حياة آخرها الموت”.