بدأت القصة منذ 60 ألف عام وكل يوم وكل عام تتم كتابة فصول وقصص جديدة.
في يوم أستراليا ، نفكر مليًا في تاريخنا ، وتاريخ مواطنينا وقصصهم. فنحن جميعا جزء من هذه القصص.
ونحتفل بأمتنا وإنجازاتها والأهم من ذلك كله بشعبها.
وقصتي تضاف الى قصص اخرى من قصص مواطني استراليا .
قصتي هي قصة مريم ( دورين) سركيس ( جوزيف) ، الفتاة الاشورية الاصل الفخورة بتاريخها وحضارتها ولغتها. ولدت في مدينة كركوك في بلاد الرافدين ( العراق). كركوك، المدينة التي تعيش وتعايشت فيها مجموعات عرقية مختلفة مثل العرب والأكراد والآشوريين الكلدان والتركمان والأرمن واليهود واليزيديين وغيرهم.
كانت احلام مريم بسيطة جدا وترعرعت في عائلة متكونة من الوالدين وثلاثة اخوات واخوة اثنين. احبت الرسم ولعبة التنس واحبت الدراسة وتفوقت فيها. كانت مريم محظوظة لتمكنها من الدخول إلى المدرسة الابتدائية الآشورية الخاصة والتي تأسست في كركوك عام 1928. ومنها تخرج الكثير من الاكاديميين والشعراء والفنانين والناشطين والرياضيين الاشوريين.
كانت لمريم حياة هادئة وطفولة عادية وسعيدة الى ان دخلت سن المراهقة وانتقلت الى الاعدادية وعندها بدات الحرب العراقية الايرانية في سبتمبر ١٩٨٠ والتي استمرت لمدة ٨ سنوات والتي ادت الى مقتل مليون شخص. وقد كان للحرب وتأثيراتها الثانوية تأثيرٌ تراكميّ مضرّ. ففي العقود التي تلت، عانى العراق وشعبه الإفلاس والحرمان والمزيد من الصراعات. لقد عان جميع العراقيون من آثار الحرب وعاشتها مريم في مرحلة دراستها الثانوية والجامعية. وقد كانت مريم تحب الدراسة والرسم وكانت تتمنى ان تصبح مهندسة معمارية ولكن بعد حصولها على درجاتها العالية في الثانوية العامة طلبت والدتها منها ان تدرس الطبية وفكرت مريم لوقت قصير وفي النهاية وافقت على طلب والدتها. دخلت مريم اعلى وارقى جامعة في بغداد في سنة ١٩٨٥ وهي كلية الطب. كانت تستغرق برامج دراسة الطب في العراق مدة 6 سنوات. ولقد كانت أول كلية طبية في العراق والتي كانت تسمى الكلية الطبية الملكية العراقية ( كلية طب بغداد) والتي تأسست عام ١٩٢٧. وقد بلغ نظام التعليم الطبي ذروته خلال الثمانينيات وأصبحت كليات الطب العراقية وجهة لعلماء الشرق الأوسط وأفريقيا. كانت جودة التعليم الطبي في العراق خلال ذلك الوقت متوافقة مع الإرشادات الدولية ویتم تحديثها باستمرار. كان فرح مريم وعائلتها كبير جدا عندما حصلت بنت كركوك معدلها العالي في مدرسة اعدادية حكومية محلية ولم تلقى في حياتها اي دروس خصوصية. وتم قبولها في كلية الطب وبدات دراستها في عام ١٩٨٥. ولم تكن مريم في يوم من الايام ان تفكر في دراسة الطب ولكن بعد قبولها وبدا دراستها بدأت تستمتع بدراسة المواضيع الطبية وكانت ممتنة جدا لوالدتها لاقناعها بدراسة الطب. وبعد اكمال ٥ سنوات من دراسة الطب وفي عامها الاخير وهي تستعد للتخرج وقطف ثمار تعبها وشقائها حصل الغير متوقع وقبل عدة اشهر من تخرجها جائت الصدمة الكبيرة التي غيرت مجرى حياتها وقلبتها رأسا على عقب. مريم كانت طالبة في الصف السادس في كلية الطب جامعة بغداد. وفي ذات يوم وكانت لاتزال نائمة في غرفة استأجرتها في منزل عائلة اشورية في ضاحية تسمى الدورة في مدينة بغداد، عاصمة العراق. . وفجاة استيقضت من النوم في حالة صدمة وسمعت أصواتًا عالية شعرت بالاهتزاز في عظامها. وأصيب سكان المنزل بالصدمة. وتوقفت البرامج التلفزيونية أو اي بث من على برامج الراديوهات، لمعرفة ما ذا حدث وانقطع الكهرباء والماء .
بدأت حملة قصف جوي واسعة النطاق على العراق عام ١٩٩١ ١٧ يناير احتجاجا لغزو العراق للكويت. حيث نفذت قوات التحالف أكثر من 100000 طلعة جوية ، وسميت الحملة بعاصفة الصحراء واستمرت ٦ اسابيع .
وقد كانت الضربات الجوية مروعة للغاية. وبعد جهود كبيرة وطلب المساعدة من اناس عديدة، تمكنت مريم من ترك بغداد مع مجموعة من العوائل الاشورية والالتحاق باهلها وبسبب الصعوبة في ايجاد المواصلات، استغرقت رحلة الهروب من بغداد الى كركوك عشرة ساعات والتي في الايام العادية تستغرق ٤ ساعات سياقة من بغداد الى مدينة كركوك. الاجواء في بغداد كانت مخيفة جدا والموت كان يلاحق الجميع والقصف كان مكثفا ومروعا واستمر لساعات طويلة يوميا. ولم تصدق عائلة مريم عند اللقاء بها ليلا في كركوك كيف نجت من الموت بعد القصف المكثف على العاصمة بغداد. وبقيت في كركوك تقريبا شهرين وكانت تأمل ان تنتهي الاضطرابات لتعود لدراستها ولكن لم تكمل فرحة مريم . وخلال مكوثها مع اهلها في كركوك حدثت اضرابات جديدة في المدينة وهذه المرة لحقتها الى كركوك. وفي غضون ايام بدات انتفاضات في محافظات عديدة في العراق ومنها كركوك حيث انتفضت جماعات معارضة كردية ضد النظام . واستمرت الانتفاضة عدة ايام ولكن بدأت غارة المروحيات العراقية ، بعد أيام قليلة من سقوط مدينة كركوك تحت سيطرة قوات المعارضة الكردية. وخلال هذه الاحداث تم تدمير جزء من بيت مريم وهي وعائلتها كانوا موجودين فيه ونجوا من الموت باعجوبة وهذا ما جعلهم ان يتخذوا قرارا بترك كركوك مؤقتا واللجوء الى محافظة اربيل لحماية انفسهم الى ان تستقر الامور. ولكن الامور لم تستقر وتدهورت اكثرواستمرت رحلتها وهروبها مع عائلتها الى شمال العراق لان الاحوال كانت تتدهور تدريجيا في مناطق عديدة من العراق ومن ضمنها المناطق الشمالية. وكانوا الناس يعيشون في رعب شديد واضطر الكثير من المدنيين الهروب الى المناطق الشمالية ومعهم اولادهم الذين بعضا منهم كانوا في الجيش العراقي وعودتهم كانت تعني لقي حتفهم. لذلك وعندما اشتدت الامور اضطرت الكثير من العوائل الهروب من العراق باتجاهات مختلفة ومنها تركيا واستطاعت مريم وعائلتها ان يعبروا الحدود التركية العراقية لتبدا مرحلة جديدة صعبة في حياتها والعيش كنازحين في جبال تركيا في البرد القارس وبدون اي مأوى. واستمرت الاحوال لاشهر عديدة وكانت الحياة صعبة جدا الى درجة كانت الناس تتمنى ان تموت لعدم امكانها تحمل المزيد من الشقاء. واستمرت المسيرة الشاقة والمعاناة وتدهور الصحة والحالة النفسية بكل اشكالها . لقد عانت مريم وعائلتها الكثير في كل خطوة من خطوات تحركهم ورحيلهم من بغداد والى ان تركوا العراق رغما عنهم وعاشوا مرحلة صعبة جدا في جبال ومخيمات تركيا للاجئين. ولكن لقد كتبت لهم حياة جديدة عندما تم قبولهم لاستراليا كلاجئين. ووصلت مريم مع عائلتها في عام ١٩٩٢ لتبدأ حياة جديدة مع تحديات وصعوبات جديدة. ولم تكن البداية سهلة وانما كانت مرة ومرهقة وصعبة. الحياة في بدايتها في استراليا كانت بلاطعم واحتاجت مريم لوقت لتتفهم ماذا حدث لها ولتستوعب الصدمة وكيف انقلبت حياتها في يوم وضحى وكيف فقدت كل جهود تعبها ودراستها وماضيها واصدقائها وزملائها وذكرياتها في وقت واحد. الصدمة كانت قوية عليها جدا ولم تعد تشعر بالسعادة او الفرح ولسنوات طويلة من وصولها الى استراليا. الشعور الذي كانت تشعره هو كان كخدر كبير في جسمها وعدم الاحساس او التلذذ بأي شي. لم تعد الحياة مهمة لها وعاشت حياتها رغما عنها وبدون اي مشاعر.ولكن وسط كل احزانها وحجم المأساة التي مرت بها وعانت منها لجأت الى الدراسة والعمل الجاد والتركيز وعدم تضييع الوقت لطرد اي فكرة سلبية كانت ممكن ان تعيشها او تمر بها وحاولت ومن ثم حاولت ان تكون صبورة وغير متسرعة لتحقيق امالها. وحدث وان تم قبولها في جامعة سدني لتدرس الطب مرة اخرى وفعلا درست الطب مرة اخرى وتخرجت وبعدها عملت ساعات طويلة تتراوح بين ١٠-٢٤ ساعة في اليوم الواحد. وعملت في ايام العطل والمناسبات وبدون توقف. الدراسة والعمل الجاد كانا الطريقان الوحيدان لتخلصها من اي فكرة سلبية في مخيلتها. ومن ثم قدمت لتدرس الاختصاص في الطب في الجامعة الطبية الملكية واستطاعت ان تعمل وتدرس الاختصاص في نفس الوقت ودرست ٧ سنوات اخرى لاكمال اختصاصها في مجال امراض الشيخوخة والباطنية في سنة ٢٠٠٥ واصبحت ايضا استاذة في جامعة نيوساوثويلز. وحاليا تعمل في واحدة من مستشفيات سدني ولها مركزها الطبي الخاص وايضا تزور عدة دور المسنين في مناطق جنوب غرب سدني لتقديم الرعاية الخاصة لهم. وفي وسط انشغالها في الدراسة والعمل لم تبخل ان تقدم خدمات تطوعية اجتماعية وطبية وخيرية للجاليات الاشورية والمسيحية والعراقية والعربية وباشكال مختلفة من عام ١٩٩٢ ولحد يومنا هذا.
ونعم فلكل منا له قصة تضاف الى قصص اخرى وفصول اخرى لكتابنا ولوطننا استراليا . ونشكر البلد الذي اعطانا الفرصة الثانية لتحقيق احلامنا والعيش في سلام وامان والتمتع بانواع الحقوق والتي افتقدناه في بلدنا الام. الاصرار والعزيمة والتركيز والصبر والعمل الجاد والتخطيط المنتظم عوامل مهمة لتحقيق الاحلام وجعلها اهداف ومن ثم اتمامها. الاحلام والاهداف ممكن تحقيقها في اي عمر ويجب ان لاتكون اعمارنا عامل مقيد لاهدافنا وامانينا.
ويعتمد نجاحنا كأمة على جهودنا جميعًا ، والعمل معًا لتحقيق هدف مشترك. اتمنى للجميع يوم وطني استرالي سعيد .