ربما لا يدرك الكثيرون ممن يعرفون الشاعر وديع سعادة بأن شعره ورقة خضراء كانت قد سقطت من شجرة غامضة صادفها يوما في لحظة من لحظات صباه ومازال يحاول أن يعيد الغصن إليها.تلك الورقة التي تتطاير في الريح منذ أكثر من ستين عام في ضيعة شبطين حيث مكان ولادة الشاعر الذي مازال يطاردها بيديه العاريتين حيث النسائم النازلة من السحب الشاردة نحو الأرض القريبة منه ورؤوس الجبال البعيدة قرب السماء التي طالما فكر أن يصبح طائرا بجناحين من خفة قصائده كي يعلوها في أشعاره المبكرة في مجموعة ليس للمساء من إخوة. إنها مغامرة الشعر الذي يتملص من الدفاتر المدرسية المهترئة والسلطات الأبوية المغلقة .الشعر الذي لا يتقنه إلا القليل من الشعراء الأحرار وأعني سارقي النار ممن لا تخضع أشعارهم لكاشف الأسرار الذي يؤشر إلى مرجعيتها التقليدية بلمح البصر.إنه لا يحب البلاغة ولا يميل إلى الفخامة اللغوية اللتان جعلتا الكثير من الشعراء ممن عرفهم امواتا بجنازات فخمة.ثمة سؤال يطرحه في شعره الذي يحاول ترميم الغياب بنظرة ظلت واقفة على الباب كما يقول في إحدى قصائده قبل أعوام.شعره المتميز عن ما يكتبه الآخرون والذي بمجمله يشبه النهر الجاري الذي يتسابق مع الزمن ولا يختلف جريانه عن جريان الساقية التي تردد في عبورها الشاعر مرة في نهار صيف تحت أغصان الكروم ساعة قرر أن لا يعبرها بل يتأملها في مرحلة من عمره ولم يكن يعلم إن التأمل سوف يطول .إنها دهشة الحياة التي تأتي دفعة واحدة مثل عيد حقيقي نيرانه مشتعلة لا تنطفئ إلى الأبد ولا يستطيع العقل المادي المحمل بالخرائط والمعادلات الرياضية من جهة والعقل المأخوذ بالخرافة والغيب اليقيني أن يدركا هذه العلاقة غير المشروطة التي تنشأ بين الشاعر والأرض التي يسعى الشاعر وديع سعادة أن يعيد لها تناغمها الطبيعي الفطري ،المصالحة المعقودة بين الأرض ودورتها التي تحجب الشمس من الشروق كي يجيء الضياء بنوره الساطع ،وهكذا تتعاقب الفصول بألوانها المختلفة وتزدهر الحياة بسنابلها الذهبية الوافرة ،ربما يكون الشاعر الأمريكي والت ويتمان من الشعراء القلائل الذين صادقوا العشب الأخضر البسيط حد الإخوة ليكتب ملحمة الإنسان والعشب أو الشاعر الفرنسي بول إيلوار الذي كان يدعو زملائه الشعراء الآخرين أن يتمددوا فوق العشب ليروا سعة السماء التي حجبتها سحب النازية العرقية.
ما أحوج العالم اليوم إلى الشعر الذي يخلص الكائن البسيط من اورام الأنظمة الأيديولوجية الفاشلة ورتابة الحياة المدنية الكئيبة التي جعلت منه كائنا بليدا طائفيا لا يتقن غير الثرثرة والإدعاء الفارغين. ما أحوجنا إلى شاعر حقيقي ينتقل بنا إلى عالم أخضر يقف على قدميه المسالمتين المغروستين في عمق الأرض منذ الأزل مثل شجرة عملاقة لا تشيخ ولا تهزها الأعاصير القادمة ،ولا أعني شجرة الشاعر الالماني ريلكة التي وصلت أغصانها الطويلة إلى السماء البعيدة بل شجرة الشاعر وديع سعادة ،شجرتنا الواقفة دائما في ممر العواصف .
عقيل منقوش. أستراليا. ٢٠١٩