خارج المُقَدس بقلم الشاعر والكاتب العراقي “عقيل منقوش”

هل يستطيع المفكر أو المثقف التنويري أن  يجرد الأديان السماوية من قدسيتها ؟ سؤال صعب سيما وأن القدسية تعني الارتباط بالإله والإله هو فكرة الغيب التي لا يستطيع أي إنسان مهما كانت قدراته العقلية في استيعاب التاريخ وذكائه في تحليل مجرياته أن يلغيها هكذا ويخرجها من العقل الباطن اللاواعي للبشر عبر البحث العقلاني المجرد أو العاطفي المتحيز مثلما يعتقد الكثير من الملاحدة والمفكرين الكبار والعلماء المتشككين  .

لذلك  أعتقد ان دور المفكر الحقيقي هو في التركيز على إبتكار طرائق عقلانية جديدة  تخلص البشر من  الخرافة التي ينسجها رجل الدين المنتفع بإسم تعاليم  الدين وليس الدين كمنظومة أخلاقية، فرجل الدين يسعى لإيقاف عجلة التطور التاريخية الطبيعية للأفكار والمفاهيم العلمية والنفسية والعلاقات الاجتماعية التي  أيضا يجب عليها  أن لا تنكر وجود الخالق أو  تعلن موته كونها نتيجة حتمية  لتطور التاريخ البشري ولها خصوصيتها  ورؤاها المختلفة تماما عن الظروف التي ولدت ونشأت فيها الأديان التوحيدية بإعتبارها تطورا  فلسفيا أيضا بفتراتها الزمنية التي مضت على ظهورها حيث  كان ذهن الانسان آنذاك  مهيئا للانتقال من الوثنية وآلهتها الأرضيين المتعددين إلى التوحيدية وإلهها الغيبي الواحد  في السماء.

ولابد من الإعتراف هنا بأن ظهور الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام كان له مبررا تاريخيا عظيما للوقوف بوجه الطغيان والعبودية اللتان كانتا سمتان من سمات آلهة الامبروطوريات الوثنية ونتيجتان لشعورهما بالقوة المطلقة مثال على هذه العبودية  بناء الأهرامات من قبل الفراعنة  كما وصفها الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر في  أثناء زيارته لمصر في سبعينات القرن الماضي حيث  كانت آلهتها  قد أعطت لأنفسها صفة الألوهية المطلقة في الأرض وهي الصفة التي ألغتها الديانات الثلاث وجردت البشر منها مرجعة إياها  لفكرة الإله الواحد الخالد بصفاته التي يفتقر لها البشر وأولها  الرحمة والغفران وآخرها البقاء وعدم الفناء  وهما حقيقتان يعجز أمامهما كل الآلهة الوثنيين والأباطرة والملوك والقادة العظام مهما كانت قوتهم وجبروتهم وعظمة نفوذهم فالموت كان نهايتهم  وبهذا الفعل استطاعت فكرة التوحيد أن تعيد المساواة للبشر  من جديد حتى لو كانت هذه المساواة بالموت الذي سوف يلاقيه جميعهم لكنه عادل حينما يشملهم جميعا وينهي فكرة الإله المستبد في  الديانات الوثنية التي كانت تذبحهم كقرابين له.

 

وفكرة العدالة والمساواة بين البشر  تعتبر  من أساسيات الوجود كون الرب هو الوحيد المالك لكل شيء، بيده السماء والأرض وهو القادر على كل شيء ولا يحق لأي كائن  في الأرض أن يتبوأ مكانه حسب الرؤية الدينية، ومن هنا جاءت فكرة القيامة  ومعها جاءت فكرتا الثواب  والعقاب وهما أقرب إلى فكرة الخلود التي يتمتع بها الخالق الإله الذي لا يُرى بالعين  المجردة بل بالإحساس الذي يتولد بالعرفان كما كانت تدعوا الكتب المقدسة للديانات الثلاث.

 

إن إصرار الديانات على محدودية قدرات الإنسان ليس الهدف منه تقزيمه بل منعه من الطغيان وتذكيره بعجزه أمام الكثير من الظواهر التي تحدث له وأحيانا يقف عاجزا تماما في الوصول إلى تفسير كامل ومنطقي لاستيعابها وكلما يصل إلى خيط يشده للتفكير كلما يعثر على خيط آخر يلتف عليه من  جديد لم يكن يعلم بوجوده وهذا دليل على أن الوجود أكبر من الإنسان الذي يعتقد بأنه سيد المخلوقات فيه .

لكن العقلية الغربية المادية الحديثة  ترفض فكرة الخالق الأقوى الذي على الإنسان أن يتنازل لقوته المطلقة  بل يلجأ إليه منذ بدايات الفلسفة الأوربية الكلاسيكية مرورا بالفلسفات الحديثة  كالوجودية  حتى يومنا هذا حيث مختبرات العلوم التجربية التي تعتبر مغامرة العقل سهما منطلقا لا أحد يعرف متى وأين سوف يتوقف والإرادة البشرية يجب أن تكون مكملة لانطلاق هذا السهم . لكن السؤال الأهم ،هل يشعر الإنسان الحديث بالأمان والاطمئنان الكاملين؟؟

الجواب : كلا

في واحدة من آلاف الإحصائيات الحديثة قام بعملها مجموعة من الأطباء المختصين بعلم النفس السريري والعاملين بإحدى  الجامعات الأمريكية حيث ذهبوا إلى دولة اليونان أثناء أزمتها الاقتصادية التي أدت إلى إعلان إفلاسها كدولة غير قادرة على تسديد مرتبات موظفيها ومواطنيها ممن يملكون أموالا في البنوك وهي دولة أوربية معروفة بفقر اقتصادها وإمكانياتها المادية من قبل الأزمة بعقود طويلة وأجروا لقاءات كثيرة مع فئات عمرية مختلفة من مواطنيها  لفهم السبب الرئيسي لقلة المنتحرين في هذا البلد فالنسبة تكاد تكون صفرا مقارنة بالبلدان الأوربية الأخرى التي يتمتع مواطنوها بمزايا حياتية مرفهة تتفوق كثيرا على اليونانيين المعدمة حياتهم بالكامل ، وقد وجد الأطباء بعد إكمال البحث الميداني أن السعادة التي تجلبها البساطة وفطرة الإيمان، هما المسؤولان عن حب اليوناني للحياة رغم قسوتها كذلك عدم التخلي عن أواصر العائلة لا كما تفعل الكثير من المجتمعات الصناعية  الحديثة باسم الحرية الفردية بالاختيار والخروج من سلطة الوالدين والبحث عن الذات خارج العائلة  واكتشف الأطباء أيضا

إن وجود الجدة والجد في حياة الأجيال الجديدة في المجتمع اليوناني من الأسباب القوية التي تجعلهم يتمكنون من الإصرار على المسير في الحياة رغم كل الصعاب التي تواجههم من قلة فرص العمل وصعوبة العيش مقارنة بالبلدان الأوربية الأخرى والولايات المتحدة الأمريكية التي تكثر فيهما نسبة المنتحرين بشكل مثير للاهتمام كذلك دول الشمال الأوربي.

أعود إلى فكرة قدسية الأديان التي اشتغل الكثيرون من المفكرين عليها ومنها قدسية الدين الإسلامي فقد أفنى الكثيرون من عمرهم ووقتهم في إثبات عدم قدسيته وبطلان معجزته المتمثلة بالقرآن ، كتاب الله المنزل على نبيه وأقصد نبي الإسلام محمد  وهي قضية برأيي تتعلق بلغة وبلاغة وفنية ومصادر القرآن أكثر من التعاليم   التي نادى بها وبمجملها تعاليم تسعى لبناء الإنسان ولا تسعى لخرابه إذا وضعت وطبقت بسياقاتها الصحيحة وإلغاء القدسية عن الدين الإسلامي بالضرورة يلغي القدسية عن الدينيين الآخرين اليهودية والمسيحية كونهما يشتركان  معه  بالفكرة الأساسية ألا  وهي التوحيد طبعا كل دين له معجزاته الخاصة به وأنا شخصيا أعتقد بأن الأديان الثلاثة تكمل بعضها وقد حققت رسالاتها بقيام الإمبراطورية الإسلامية في أوجها  في القرن الثامن الميلادي،  تلك الإمبراطورية التي اهتمت كثيرا بالعلم ، يعني طورت الحياة بمعزل عن الخرافة التي تعزو كل ظاهرة لفعل قوى الشر وهنا بيت القصيد،

فالنهضة الأوربية الحديثة مدينة بشكل كبير للمنهج التجريبي العلمي الذي أسسه  العلماء المسلمون في دراسة الظواهر الفيزيائية من فلك ومعادلات رياضية  وأواصر كيميائية كذلك الطب الجسدي والعقلي بعيدا عن تأثير القوى الشريرة والأرواح الشيطانية  المسببة لذلك كما كان يعتقد  الأطباء الذين  ينتمون  للحضارات  الأخرى التي كانت تؤمن بالغيب المجهول  وتتأمل ظواهر الكون تأملا تخيليا شعريا خائفا.

نعم لقد مرت على الدين الإسلامي فترات عصيبة في التاريخ ابتدأها المسلمون بصراعات حربية لإثبات وجودهم  مع أعتى وأعظم إمبراطورية على الأرض ألا وهي الإمبراطورية الرومانية وعاصمتها روما  وكذلك في بلاد الأناضول ضد البيزنطينيين وبيزنطية هي حدود الإمبراطورية الرومانية  في الشرق وهذه  الإمبراطورية بوجودها الشمالي والشرقي وقفت ضد الدعوة الإسلامية ناعتة رسولها محمد  بالدجال كما كان يردد شاعرهم الكبير دانتي  كذلك على يد المغول التتار القادمين من أواسط آسيا بقيادة هولاكو والتي سقطت على يديهم عاصمة الخلافة الإسلامية بغداد وبسقوطها

انتهت دولتها  العباسية   الذي  حكمت  (٧٥٩ م _١٢٥٨)

بعدها جاءت الدولة العثمانية التي حكمت أكثر من

٦٠٠ سنة وبحكمها استطاع المسلمون على القضاء التام على الدولة البينزنطية وعاصمتها القسطنطينية على يد السلطان محمد الثاني سنة ١٤٥٣ الملقب بمحمد الفاتح.

خلاصة القول :

لقد شهد العالم بظهور الدعوة الإسلامية تدفق الكثير من البشر لاعتناقها ممن كانوا عبيدا في زمن  الديانات الوثنية التي قسمت البشر حسب الرؤية الإغريقية للمجتمعات :طبقة الأسياد وطبقة العبيد  كذلك ايقاف وأد النساء الذي كان شائعا عند العرب قبل الإسلام ومساواتهن مع الرجال بالحقوق  والأهم  طلب العلم الذي جعل من مدينة بغداد التي بناها الخليفة أبو جعفر المنصور  سنة ٧٦٢ ميلادية من أهم  المدن  على الأرض قاطبة بمكاتبها ومدارسها  وإصداراتها وعلمائها ومنهم العالم الجليل الخوارزمي مكتشف علم الجبر  النواة الأولى لاكتشاف الحاسوب الذي يستخدمه العالم اليوم وهو القائم على فكرة  Algorithms وتعني الخوارزمي والأمثلة تكاد لا تحصى على مساهمات المسلمين في صناعة عصر الأنوار الذي جعل أوربا تقفز قفزة علمية هائلة نحو بناء المجتمع المدني المتطور ولا يخفى أيضا على الجميع بأن الفيلسوف الأندلسي المسلم ابن رشد هو من ترجم كتاب الفيلسوف  أرسطو الإغريقي حول فصل الدولة عن الدين الذي قاد إلى بناء الدولة الحديثة بدستورها وتشريعاتها القائمة على  ضمان حرية الأفراد وحفظ حقوقهم في العيش بكرامة وأمان وعدل ، فضلا عن  اكتشاف العدد  صفر الذي غير مجرى الحساب والأرقام في المعدلات الرياضية وجدولتها.

 

ختاما أقول ليس مهما أن تكون الدعوة الإسلامية من وحي الإله أو من صنع إنسان مادامت هذه الدعوة الصحيحة أقول الصحيحة وليست المشوهة التي تعرضت إلى الكثير من التحريف والبدع والأكاذيب  قد تجاوزت الآفاق بانجازاتها التي حررت العقل من الخرافة الوثنية  التي تستعبده إلى فضاء الإله غير المحدود المانح للعقل والمعرفة وطلب العلم…

عقيل منقوش.ملبورن ٢٠٢٢