ابنة الطين
بقلم الكاتب الإعلامي: أحمد سعدون البزوني – العراق
“الكاتبة مُنى سالم”– من مصر
دائماً تذكرني بالشجرة ـأوـ (السجرة) كما يُسمونها في صعيد مصر، كلما فرع طولها واخضر عودها، تبقى روحها في جذرها،
ها هي (منُى سالم سعد الدين) الإنسانة والزوجة والأم والصديقة والكاتبة والروائية، ما شدني إليها حديثها المتسمر والمتواصل عن جذورها الطينية، وموضوعاتها التي شغلت هاجسها الأدبي والفكري، رغم سكنها في الإسكندرية لم تصبح ساحلية، وعملها المتواصل في القاهرة، لم تخطفها أضواء المدينة الساحرة، غرست أصابعها في أرض الأجداد، كما فعلها (محمد بو سويلم)، الفرق بينهما هو غرس دم يديه بأرض، وهي غرسة ثمرة الفكر والإبداع في كتاباتها المتجذرة عن هويتها وأهلها وناسها، أتصور أنه أكثر إبداعاً، لأن الإنسان يموت إنما الفكر حي لا يموت،
سبب عدم شُهرتها إلى الآن بين الأوساط الفنية والأدبية والثقافية في الوطن العربي، هو أن كتابتها مليئة بالاحترام والعفة والصدق، بعيداً عن الإسفاف المُخزي والعُري الفاحش الذي يهلُ عليها مع هلال رمضان عِبر الشاشة الفضية، أو لم تكن (ترند) أو (نمبر وان) في (السوشيال ميديا).
جمهورها رتيب كرتابة شخصها ومتابعيها، فهي صاحبة المُشهرات، روايتها التي أوقفتني كثيراً، مِن حيث الحبكة في السرد وقوة الموضوعية وتنقُلاتها في الدراما، كانت (مُشهراتها) خُلاصة حكايات الجدات، حاملة الموروث واختزال الطقوس والعادات والتقاليد التي مرت عليها وعاشتها.
تظهر الكاتبة حكّاءة مُميزة وذكية تتقمص أرواحاً بعيدة عن واقعنا ومُجتمعنا الحالي، وتُلون حِكايتُها بأصوات وصور وشخصيات مُتعددة مِن خلال سرد سريع لاهث، فتأتي الأشياء طازجة، خارجة من أزمنة سبقت تاريخها، تُشكل أنماط حياتهم الأولى، مِن الغيبي والواقعي، ومِن الملموس والمحسوس، أخذت الكاتبة مُنى سالم مِن مَعين جدتها حلوُ الحديث وعِشق الخير والرغبة في الحياة، واحترام المُجتمع ومحبة البيت، ذكريات كثيرة تتجمد بداخلها وتتلاشى أحياناً، تعود مجدداً عندما تجتمع الأسرة وتُجدد الحكايات، تقتنص الفُرصة عندما تُحيطها الأفكار، وتتزلزل مِن فوق جبل مثقلةً به، في منتصف الليل تجلسُ مُرغمة وسط أوراقها، حتى تتخلص مِن أفكارها التي تغزوها ليلاً، لِتعيش في عالم غير عالمِها، تغـوصُ بِنا في رواياتها، في عالم الطقوس والخُرافات والأساطير الشعبية، عالم الذكريات والشجن الذي عاشتهُ في طفولتها في أرياف مصر، مُتأثرة بأسلوب حكائي بسيط أخاذ، إنها قادرة على إيصال المعنى والمغزى مِن هذا العالم المُدهش والغريب، بشخصيات مُنتقاه مِن الواقع المصري المُعاصر، تؤمن بهذا العالم، فـبرعت في وصفهُ بين أسطر أوراقها، فرواية (البيوت في بر مصر) هي الأقرب إلى روحها، حيثُ تكشف صورة الفلاح والريف المصري مُنذ بداية القرن التاسع عشر وحتى قُبيل نهاية القرن العشرين، وتحولات تِلك الصورة عِبر الزمن في النُصوص السردية البارزة، وارتباط تِلك الصورة بِتجلياتها اﻷدبية، إذ يظهر الفلاح من خلالها باعتبارهُ رمزاً واضحاً للإنسان المُكافح، وكيف تبلورت حياتهُ المعيشية المُتعبة، بدأت الكاتبة بتفاصيل الرواية ما قبل القرن السابع عشر، وهي مرحلة سياسية واجتماعية مُغايرة، ليقف القارئ على ما تعنيه مِن خلال رواياتها والتي تناولت العلاقة بين الرواية والمُجتمع مع ظهور الأيديولوجيات المُتعددة، إذ ترى أن هُناك توافقاً عاماً حول خصائص الرواية على مستوى البِناء والخِطاب، وعلى تمثيلها للزمان والمكان، وأن كل هذا موجود في الفضاء التاريخي الجديد للمجتمع والحداثة، أدى إلى تدفُق عدد مِن الأعمال، تناولت العلاقة الجدلية بين الرواية والمُجتمع سواء في إطار السياقين القديم والحديث، ومِن ثم تناولت الجدل حول الذات الروائية، حيث كان هُناك شُبه إجماع على أن رواية (المُشهرات) هي هويتها في مجالها الأدبي البارز، على الرغم مِن ظهور عدة محاولات روائية لها، والتي تلوح في اﻷفق مِن ماضٍ بعيد وصناعة خِطاب مُعاصر واﻻستمرارية عِبر الزمان والمكان، وبناء على ذلك اعتُبرَت روايتها المُشهرات الرواية البارزة أقرانها، فهي تعرض صور كاملة للحالة الاجتماعية في ذاك الزمن العصيب، مُتماسكة فيما يتعلق بِنصوصها مِن (الحِبكة والدراما والسرد والزمان والمكان)،
تود الكاتبة مُنى سالم طرح قصص القرية في فترة السبعينيات التي عاشتها، للإشكاليات المنطقية مِن المُعتقدات الطائفية والشعائرية والقبلية الريفية البدائية مِن أجل استكشاف الطبيعة اﻷسطورية للثقافة الشعبية وكذلك الجانب القسري والحّدَي الخفي في المُجتمع الريفي، ترى الكاتبة أن روايتها (المُشهرات) تُمثل التضاد بين الثقافة الريفية وخِطاب نظام الحداثة، تصف كل مرحلة مِن خلال تضمينُها في مستوى جدلي وإعادة خلقها باعتبارها فضاءات مُتوازية للتمثيل السردي لِدراما فردية وجماعية.
تستضيفنا (مُنى سالم) بين صفحاتها، وتعرض علينا طبخة بمقاديرها وطرق إعدادها، كاتبه تُجيد قياس المسافات من رواياتها إلى ذهن القارئ، بارعة بـ (طبخ الأدب) أو (أدب المُطبخ)، فطريقتُها في طبخ النصوص تُذكرني بـ الكاتبة اليابانية (بنانا يوشيموتو) حينما تقول: (المطبخ والطبخ هما محور الرواية)، هكذا خرجت علينا مُنى سالم بهذه الروايات التي تُثير الدهشة والشجون معاً، أتت من موروث عريق، مُتجذر في أعماق الأراضي الريفية، عاشت مع جميع الحالات والكلمات التي كتبتها في قصصها وأشعارها ورواياتها، فهي إحدى المُبدعات اللواتي يعتصرن الإبداع، بِسهر ومُعاناة وشق الأنفُس .