يحيى شاهين .. فى ذكراه
(سي السيد) فى الطاحونة.. و”قلب الطاحونة حجر”!
***
“الدنيا سكة سفر
ولكل حي أوان”
(حارة السقّايين ـ1930)
في تلك الحارة الشعبية الصغيرة بوسط العاصمة، وداخل شقة متواضعة، تعيش أسرة متوسطة الحال، حيث يجلس الآن طفلها الصغير في صمت ودهشة وبلاهة. بعدما داهمه الحزن، والغم، والهم، وأدخله في متاهة، كلما توقع – ومعه أفراد أسرته ـ ما ستحمله له الأيام القادمة من أحزان ونسيان، في قلب طاحونة الزمن التي تطحن الإنسان ـ أي إنسان ـ إذا ما شاء قدره، وانقضى أمره، ومات أبيه، وهو مازال طفلاً صغيراً. في هذا الصباح الحار الحزين فوجئ الطفل بموت أبيه ـ أبيه الذي رأى فيه شخصية السيد أحمد عبد الجواد (سي السيد) الشهيرة ـ والذي جاء موته بصورة مفاجئة، ومباغتة، ومحزنة، ومؤلمة للجميع! أمامه الآن يرى أمه ( أمه التي رأى فيها شخصية الست أمينة) وهى جالسة على مقاعد صالون قديم تستقبل وتودع المعزين من أهل الحارة البسطاء في صبر وثبات قدر استطاعتها، وهو ينظر لها في عطف وحنان وخوف. بعد قليل تركت مكانها وتحركت ناحيته وعندما لمحها في طريقها إليه، انهمرت دموعه على خديه. بعد خطوات اقتربت قائلة :”أبوك مات يا يحيى” نظر لها دون رد! ثم أكملت باكية:” أنت من الآن راجل البيت يا يحيى” نظر لها دون رد! ثم التفت في صمت موحش ناحية صورة لأبيه معلقةً بالقرب من باب الشقة قبل أن يرتمي في حضنها باكياً بحرارة ومرارة لا تخطئها عين. بعد لحظات صمت قالت:” لازم تكمل دراستك وتصبح أفندي زي ما أبوك كان عايز .. فاهم يا يحيى.؟ فاهم يا نينه ! كانت هذه الأم هي زوجة حسن أفندي شاهين. وكان هذا الابن هو الطفل يحيى يحيى حسن شاهين( اسم الشهرة يحيى شاهين ) وكان هذا الصباح في صيف عام 1930 عندما مات أبيه وعمره 12 سنة، ليموت هو نفسه ـ أي الفنان يحيي شاهين ـ فى 18 / مارس آذار/ عام 1994 ويترك للحياة طفلته الصغيرة داليا وعمرها ـ يوم موته ـ كان 12 سنة أيضاً! وكأن طاحونة الحياة (الطاحونة اسم مسلسل درامي شهير لعب بطولته عام 1983) مازالت تواصل دورانها، وطحنها رغم اختلاف الزمن، وتعدد المحن، في طحن قلوب البشر، أزمان وراء أزمان، وأعمار وراء أعمار، وأشكال على ألوان!
***
” قلب الطاحونة حجر
قلب الزمن صوان
يطحن قلوب البشر
أشكال على ألوان”
( القاهرة ـ 1930 )
في هذا العام كان إسماعيل صدقي باشا رئيس الوزراء (ووزير المالية والداخلية في ذات الوقت) قد انتهى من وضع دستورٍ جديدٍ للبلاد ـ بعدما عطل دستور 1923 ـ معتبرًا أن مصر” بلد لم ينضج بعد النضوج الكافي ولم يتعود التفكير الذاتي” وبعد شهور من ذلك نجح في إنهاء الصراع الملكي ما بين الخديوي عباس حلمي الثاني وعمه الملك فؤاد الذي جاء مكانه بعدما خلعه الانجليز في صيف 1914 ولقد استطاع إسماعيل صدقي أن يجعل الخديوي عباس يتنازل عن العرش ـ لعمه فؤاد ـ مقابل 30 ألف جنيه مصري سنويًا ( الجنيه المصري حينذاك كانت قيمته تساوي ما بين 7 ـ 10 دولار تقريباً) كراتب سنوي يعيش به في سويسرا التي استقر بها أمره. أما أسرة حسن أفندي شاهين فكانت في حيرة شديدة من أمرها عندما لم تجد من يتدخل ليحل لها أزمتها المعيشية الطارئة التي ألمت بها بعد رحيل الأب، الذي تركها بلا مال أو أعمال تدر عليها دخلاً شهريًا أو حتى سنويًا يعينها على الحياة وتستطيع أن تدفع منه المصاريف السنوية لطفلها يحيى ليكمل دراسته في مراحلها الأولى في مدرسة عابدين الابتدائية.
***
“زمن وفيه العجب
بيدي من غير سبب
ويلم ويفرق
وينجي ويغرق”
( مكتب وزير المعارف ـ بعد أسبوع)
وبعد رحلة بحث وشقاء وعناء استطاعت الأم بصبرها واصرارها الوصول إلى مكتب السيد وكيل وزارة المعارف (التربية والتعليم الآن) وشرحت له الموضوع، فتحمس الرجل إلى ابنها المتفوق ودخل معها ـ والطفل فى يدهاـ إلى السيد معالي الوزير:
ـ يا يحيى.. أنت تلميذ متفوق وسوف نمنحك تعليمًا مجانيًا
ـ هز يحيى رأسه صامتًا
ـ وحتى تستفيد من هذه المنحة عليك أن تتفوق سنويًا (فاهم يا يحيى؟)
ـ فاهم يا سعادة الباشا ..ربنا يخليك لينا يا باشا ـ اسكتي يا ست.. أنا أتكلم الآن مع الراجل الذي يقف أمامي الآن (يقصد الطفل يحيى) قالها الباشا وهو يبتسم فيما رد يحيى عليه بنفس الابتسامة قبل أن يشير عليهما مدير المكتب قائلاً: “خلاص يا يحيى.. اتفضلى يا هانم ..الزيارة انتهت” وبالفعل خرجت الأم سعيدة، ومعها طفلها الذي وعدها بالتفوق الدائم حتى يستطيع استكمال دراسته بتلك المنحة التي حصل عليها والتي قد لا تتكرر! وسنة بعد سنة استمر في تفوقه الدراسي المبهر حتى انتهى من إتمام الشهادة الثانوية (دبلوم صناعة النسيج) بتفوق مذهل أهله للالتحاق بمصانع النسيج ـ بصفته من الأوائل ـ فى مدينة المحلة الكبرى ( تبعد عن القاهرة ـ 140 كم ) وبعدما وافق مدير بنك مصرـ حيث كانت المصانع إحدى الشركات التي أسسها طلعت باشا حرب ـ على تعيينه فورًا نظرًا لتفوقه الدراسي.
***
” موال كفر السواقي
يروي عيون البراوي
ويقرب الخطاوي
يغسل توب الصبية
يدندش الطواقي”
(القاهرة ـ 1935)
داخل مكتب مدير البنك وكان اسمه عبدالله فكري أباظة جلس الشاب يحيى وفي يده خطاب البنك الذي جاء له عن طريق البريد للعمل كمهندس في مدينة المحلة الكبرى.
يحيي:”معلهش يا عبدالله بيه لن أستطيع السفر خارج القاهرة! رد المدير: “لماذا ؟ قال: “لأن والدتي مريضة ومن المستحيل السفر بعيدًا عنها” في هذه اللحظة كان يجلس بالمكتب ـ بالصدفة ـ فنان اسمه ( أدمون تويما) وكان مديرًا للفرقة القومية المسرحية. انتظر بعدما انتهى الحديث بينهما ثم نظر له قائلاً: حضرتك ممثل؟ رد: ” لا.. لكنني أحب التمثيل وتدربت مع بشارة أفندي واكيم في فرقة المدرسة المسرحية. تحب تشتغل في التمثيل؟ طبعا”! ومن هنا انطلق يحيى شاهين وغير طريق حياته من مهندس في مصنع للنسيج إلى نجم من نجوم المسرح والسينما المصرية لسنوات طويلة. حيث تنقل للعمل ما بين فرق الهواة المسرحية ثم فرقة نجيب الريحاني وفرقة فاطمة رشدي ثم تحول إلى السينما بعدما اختارته أم كلثوم ليشاركها بطولة فيلم (سلامة) عام 1943 ومن هذا الفيلم وقع اختيار نجيب محفوظ عليه ليختاره -بعد سنوات- لبطولة فيلم بين القصرين ويقدم فيه الشخصية الأسطورية سي السيد في ثلاثية السينما المصرية الشهيرة
***
” آه .. يا حجر داير
آه .. طول ما القدوس فاير”
(القاهرة ـ 1955)
في هذا العام بدأ يفكر يحيى شاهين في الزواج الذي تأخر عنه كثيرًا بسبب حبه الشديد لأمه التي رفض تركها وحيدة وبعيدة عنه حتى بعدما أصبح نجمًا مشهورًا. أمه التي حرصت على تعليمه رغم رحيل أبيه المبكر ورفضها الزواج من أجله، كل ذلك جعله شديد الحرص عليها مثلما كانت حريصة عليه. لذلك قال: “رفضت الزواج من أجلها رغم إلحاحها الشديد علىّ.. وتعودت ألا أسهر خارج البيت من أجلها. وكنت أصفح عن الذين يسيئون لي من أجلها. وتعلمت أن أكون ناجحًا وقويًا وصبورًا من أجلها. فلقد أعطتني كل شيء. أعطتني الحكمة، والحنان، والحب، والأمان، وعلمتني كيف أسير معتدلًا وهادئًا في الحياة” وبعد رحيلها قرر الزواج غير أن الرجل الذي كان يحسده كل الرجال ـ بسبب شخصية ( سي السيد) وعلاقته بزوجته (الست أمينة) فشل زواجه الأول فشلاً ذريعًا حيث لم يستمر سوى أعوامٍ قليلة بعدها حدث الانفصال. هذه الزوجة كانت قد تعرف عليها في نهاية الاربعينيات( رغم أنها كانت أجنبية ـ من المجر ـ ولديها طفلين من زواج سابق) إلّا أنه تزوجها، وأنجب منها طفلتين ثم دبت الخلافات بضراوة لاختلاف الفكر وعدم التفاهم بينهما (وهى نهاية متوقعة بالطبع) فقررت الزوجة -بعد طلاقها- أخذ الطفلتين والفرار بهما إلى خارج مصر دون أن يعرف مكانهما لسنوات طويلة. وبسبب ذلك عاش عدة سنوات بدون زواج، وفي حالة اكتئاب شديدة! هذه النهاية الدرامية المؤسفة تكاد تكون متوقعة من شخصية الإنسان -قبل الفنان- يحيى شاهين والتي فيها الكثير من شخصية السيد أحمد عبد الجواد (سي السيد) خاصة عندما نراه معجبًا به قائلاً: “أعجبني في أحمد عبد الجواد حرصه الشديد على التقاليد والأصول، وحبه الشديد لبيته وأولاده.. فهو كان رجلاً طيبا ومحبوبًا من جيرانه ومعارفه “ثم يدافع عنه قائلاً: “السيد أحمد عبد الجواد لم يكن ديكتاتورًا! ( إني أعجب ـ وهيهات أن ينتهي لي العجب ـ كيف أقدمت على فعلتك”!! ثم يعلنها للست أمينة واضحة قاطعة بعدما خرجت من البيت في غيابه: “ليس عندي إلّا كلمة، واحدة! غادري بيتي بلا توانِ” أما عن تحفظ البعض على منهج سي السيد في الحياة القائم على نظرية:(ساعة لقلبك وساعة لربك) يرد قائلاً: “هذه كانت حالة المجتمع المصري في ذلك العصر” ثم يضيف: “اليوم الصورة تغيرت والبيت المصري في حاجة شديدة للحزم مع الأولاد لأن هناك تدمير يحدث لقيمنا وعاداتنا” إذن نجحت شخصية السيد أحمد عبد الجواد على الشاشة لكنها ـ على الأقل في الزيجة الأولى ـ فشلت في الواقع! وكذلك صاحبه الفشل في فرض قوته، وجبروته، في الدراما التليفزيونية عندما لعب دور (الحاج رواش) في مسلسل الطاحونة، وسمح لفتاة صغيرة اسمه هانم (لعبت دورها عزيزة راشد) ابنة حلاق القرية في أن تلعب به وهو في خريف العمر ! وكأن الزوجة المجرية في الواقع و( هانم) في مسلسل الطاحونة أراد- دون اتفاق مشترك بينهما- رد الاعتبار للست أمينة وما عاشته وعانته من جبروت سي السيد!( أنتِ خرجت من البيت من غير إذنى يا أمينة)؟!
***
” موال كفر السواقي
داير مع السواقي
ويدور الطاحونة
واللي يدور يلاقي”
( القاهرة ـ 1960 )
ومضت الحياة كما هي حيث عاش سنوات بلا زوجة، ولا يعرف مصير بناته، ولا أين تعيشان بعيدا عنه. ولذلك قضى حياته لا يؤمن بالحب ولا بالمرأة كزوجة إلا إذا عاملت زوجها كطفل!! كان يقول: ” إذا أخلصت المرأة فهي ملاك طاهر.. وإذا تأمرت فهى الجحيم فى الدنيا” والزواج – من وجهة نظره – لا ينجح بالحب ” لا يوجد حب أصلاَ” ولكنه ينجح بالعقل والتفاهم! وبهذه النظرية (المستمدة من شخصية السيد أحمد عبد الجواد) ابتعد فترة ليست قليلة عن الوسط الفني والاجتماعي، وكأنه كان يعاتب الزمن الذي جعل (سي السيد) السينما المصرية والعربية في هذا الوضع الأسري المحزن لكنه ـ ونظرًا لتركيبته القوية والعنيدة ـ حافظ على تماسكه وركز كل طاقته في العمل الذي واصل فيه اشتراكه في روائع خالدة للسينما المصرية منها أفلام (شيء من الخوف) (والأخوة الأعداء) و(شيء من العذاب) وغيرها من الأعمال المتميزة إلى أن قرر العودة إلى “عش الزوجية” وتزوج من السيدة شيماء عبد المنعم والتي رزق منها بالإبنة داليا التي كان عمرها 12 عاماَ عندما رحل في 18 مارس 1994.
***
” ينده ع الفجر يطلع
ينده ع الحب يرجع
ده اللي بيزرع بيجمع
والخير هو اللي باقي”
(الجيزة ـ 1994 )
كانت الليلة هي ليلة الخميس الموافق 17 مارس من ذلك العام عندما عاد من الإسكندرية لحضور فرح في أحد فنادق القاهرة الكبرى، وبعد الانتهاء من واجب التهنئة طلب من زوجته شيماء وابنته داليا البقاء في القاهرة وعدم العودة إلى الإسكندرية.. وقد كان!. في اليوم التالي (الجمعة) قام من نومه بصورة طبيعية ثم توجه إلى مسجد الدكتور مصطفى محمود بشارع جامعة الدول العربية (حي المهندسين) لأداء الصلاة والتي ما أن فرغ منها حتى عاد إلى البيت لتناول وجبة الغذاء. وما بين الساعة الخامسة والسابعة من مساء ذلك اليوم شعر بألم – تحول إلى حاد- في صدره لم يستغرق طويلاً، وقبل وصول سيارة الإسعاف كان قد أسلم الروح إلى خالقها في هدوء تام بعد مشوار حياة قال عنه: “أنا حفرت الأرض بأظافري.. ومن دمي رويت السينما”..
وتبقى السيرة.. وتستمر المسيرة.
خيري حسن
•• الأحداث حقيقة.. والسيناريو من خيال الكاتب.
•• البورتريه:
بريشة الفنان/ سامي أمين.
•• الشعر الغنائي المصاحب للكتابة للشاعر الراحل عبد السلام أمين.
•• ينشر غدا الخميس فى صحيفة الوفد ( الخميس)
•• المصادر:
كتاب: مذكراتي ( بقلم إسماعيل صدقي باشا ـ طبعة دار الهلال ـ 1950
بين القصرين ـ نجيب محفوظ ـ الطبعة السابعة ـ دار مصر للطباعة 1970
السكرية ـ نجيب محفوظ ـ طبعة مكتبة دار مصر 1985
قصر الشوق ـ دار الشروق ـ طبعة 2006
•• الصحف:
الأهرام ـ الوفد ـ الأخبار.
المجلات:
الإذاعة والتليفزيون / آخر ساعة / الكواكب.