عندما تستبيح لنفسك مُصادرة من يخالفك في الدين أو المعتقد أو المذهب أو في الرأي – حتى لو كُنتما تحت رايةٍ واحدة – فأنت فاسد النفس حائر ، مضطرب الرُّوح ، متناقض السلوك ، مستريحٌ إلى الشك والظن ، لم يدرك عقلك ما الحرية ، وما المواطنة ، حيث خلق الله الناس مختلفين ، وجعلهم شعوبًا شتى ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا… ” الآية 13 من سورة الحجرات .
وما أعرفه وأعيه وأومن به ، أن الغلبة تكون بالبرهان لا بالصولجان ( عصا السلطة ) ، بالعقل لا بالقتل ، بالفن لا بالسجن ، بالفكر لا بالفقر ، بالحوار لا بالسيف .
وما من شعبٍ يمكن أن يضربه الشر ، إلا إذا كان أولو الأمر فيه يتصورون أنهم آلهةٌ في سموات الأرض ، أو رسلٌ في الأرض يُوحى إليهم في أثوابٍ بشرية ، وأنهم مُنِحُوا عقُولا أعلى مرتبةً ، ونفُوسًا أشرفَ مكانة .
والشرُّ الذي أقصده هنا ليس شعار “جوجل ” : ” لا تكونوا أشرارًا” (“Don’t Be Evil”) ، وإنما هو الشرُّ الذي هو نتاج الثقافة التي تؤسِّس للحذف والشطب والإقصاء والتطرُّف والطائفية والتزمُّت والتشدُّد ، ومن ثم أنا ممن يرون أن منع الشر أوْلَى وأسبق من فعل الخير والدفع به ، لأنه عندما يختفي الشر من المشهد ؛ سيحِلُّ الخير مكانه تلقائيًّا ، ولست ممن يرون أنَّ هناك إلهًا خيِّرًا وآخر شريرًا ، ولا توجد معركة بينهما ، كما كان يتصور البعض في مطلع الديانة المسيحية ( لدى الفرق الغنوصية العرفانية تحديدًا ) ، أو في الديانة الزارداشتية ، ولذا تحتضر الحضارات التي يزيد فيه الشرُّ على الخير ، بعدما تم تغييب العقل فيها ، وحلت محله سياسة الهُدَّام لا سياسة البناة ، أولئك الذين تتداعى تحت أياديهم كل ثمار الحضارة ، حيث كثرت المعايب ، وقلت المناقب أو انعدمت ، وسيذكر الزمان أنه قد جنى السَّلف على الخلَف بما فعلوا من تفريطٍ ، وبيعٍ ، وقمعٍ ، ومنعٍ ، وحبسٍ للمياه عن الأفواه ، ووضع الثروة في أيدي القِلَّة من القتلة و السُّرَّاق اللصوص الذين لا ضمير لهم ، حيث يرأس الشر دولة أرواحهم ، وكذا ترك الكثرة – التي لا حول لها ولا قُوَّة في مُكابدةٍ ومعاناة .
وعلى ذكر موت دولةٍ ما ، واحتضار حضارةٍ ما كالحضارة الفاطمية ، وأنا العائد في مارس 2017 ميلادية من رحلة أولى لي إلى كربلاء ، حيث الحسيْن بن علي بن أبي طالب ، وابن فاطمة الزهراء بنت رسول الله (27 من يوليو 604 – 28 من أغسطس 632 ميلادية ) ، والتي تنتسب الدولة الفاطمية إلى اسمها ، فإن الخليفة المعز لدين الله الفاطمي ( 932- 975 ميلادية ) رابع الخلفاء الفاطميين في إفريقية (تونس حاليًا ) ، وأول الخلفاء الفاطميين في مصر ، والإمام الرابع عشر من أئمة الإسماعيلية حكم من ( 953 حتى 975 ميلادية ) ، كان قد وجه أمرًا إلى قائده جوهر الصقلي ، مؤسِّس مدينة القاهرة ، وباني الجامع الأزهر (صقلية 928 – القاهرة 28 من يناير 992 ميلادية ) ، وهو يفتح ( يغزو ) مصر : ” ألَّا يتعرض لمخالف في الدين ولا في المذهب ؛ بما يعطِّل شعائر دينه أو مذهبه ، وأطاع جوهر مولاه ، فبنى الدير الذي عُرِف بدير الخندق بديلا من الدير الذي أصابه الهدم عند تمهيد الأرض لبناء القاهرة ، وجاء المعز فجدَّد كل ما تهدَّم من الصوامع والكنائس ، وجدَّد كنيسة ” مركوريوس ” التي تُسمَّى بكنيسة أبي سيفين ( لأن القديس كان يُرْسَم على صهوة جواده وفي يديه سيفان ) ، كما يذكر عباس محمود العقَّاد (٢٨ من يونيو 1889- ١٣ من مارس 1964 ميلادية ) في كتابه المهم ” فاطمة الزهراء والفاطميون ” والذي نشرت دار الهلال أولى طبعاته في كتاب الهلال العدد/27 من يونيو 1953ميلادية .
والثابت تاريخيًّا أن المعز لدين الله الفاطمي كان من أكثر الخلفاء أو الحكام ترحيبًا في مجلسه ” بالمتناظرين في الأديان والمذاهب ” إذْ لم يعرف اضطهاد مخالفٍ ، ولي أن أثبت هنا جزءًا من عهد الأمانة الذي كتبه جوهر الصقلي لوجوه الأمة المصرية ورؤسائها قبل أن يدخل مصر يسألونه تأمين عقائدهم : ( … ، إذ كان الإسلام سنة واحدة، وشريعة متبعة، وهي إقامتكم على مذهبكم، وأن تُتركوا على ما كنتم عليه من أداء الفروض في العلم، والاجتماع عليه في جوامعكم ومساجدكم، وثباتكم على ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين بعدهم، وفقهاء الأمصار الذين جرت الأحكام بمذاهبكم وفتواهم، وأن يجرى الأذان، والصلاة، وصيام شهر رمضان وفطره، وقيام لياليه، والزكاة، والحج، والجهاد على أمر الله وكتابه، وما نصه نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته، واجراء أهل الذمة على ما كانوا عليه.ولكم عليَّ أمان الله التام العام، الدائم المتصل، الشامل الكامل، المتجدِّد المتأكِّد على الأيام وكرور الأعوام، في أنفسكم، وأموالكم، وأهليكم، ونعمكم، وضياعكم، ورباعكم، وقليلكم وكثيركم وعلى أنه لا يعترض عليكم معترض، ولا يتجنَّى عليكم متجنٍّ، ولا يتعقب عليكم متعقبٌ وعلى أنكم تُصانون وتُحفظون وتُحرسون، ويذب عنكم، ويمنع منكم، فلا يتعرض إلى أذاكم، ولا يسارع أحد في الاعتداء عليكم، ولا في الاستطالة على قويكم فضلا عن ضعيفكم وعلى ألا أزال مجتهدًا فيما يعمكم صلاحه، ويشملكم نفعه، ويصل إليكم خيره، وتتعرَّفون بركته، وتغتبطون معه بطاعة مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه ولكم عليَّ الوفاء بما التزمتُه، وأعطيتكم إياه، عهد الله، وغليظ ميثاقه وذمته، وذمة أنبيائه ورسله،… ) .
تلك كانت دولة قامت في مصر على أساس نبذ العنف ، والتفرقة والعنصرية بجميع أشكالها وأطيافها ، حيث لا يقوم مجتمع يعمُّهُ النور على الغيلة ، والمُغالاة والمُغالبة والمُبالغة والمغالطة واللغو والغباء والغدر والغبن والغفلة والغي والغيظ والغلظة والغيرة والغواية والغيبة والغصب والغضب والغش والغنيمة واللغة الواحدة ، وإنما تصْلُح حاله ، ويُنقَذ من الضلال إذا عاد إلى النصِّ الأول لا إلى النصب باسم نصوص تابعة أو مُحرَّفة ، وإلى الاجتهاد لمن هم في مصاف العلماء والفقهاء ، وليس في منصر المرتزقة والمتكسِّبة والمتاجرة ؛ لأنه من الجهل إذا لم أعرف أين وجهة القبلة أن أمتنع عن الصلاة ، أو أنتظر رأيا من غير عارفٍ .
ولا أحد ينكر فاطمية مصر ، وإنْ كانت قد زالت الدولة سنة 567 هجرية ، بعد أن عاشت بين شمال أفريقية ومصر نحو 270 سنة ، وكان العاضد لدين الله ( 1149 – 1171 ميلادية )
هو آخر خليفة فاطمي عرفته مصر والدولة الفاطمية ، والذي حكم في الفترة من سنة 1160 إلى سنة 1171 ميلادية ” .
هذه الدولة هي التي بنت الجامع الأزهر سنة 359 للهجرة على يدي جوهر الصقلي ، وجاءت تسميته نسبة إلى الزهراء ، أي فاطمة الزهراء ابنة النبي محمد ، وزوجة علي بن أبي طالب وأم الحسن والحسين ، و كانت العرب تسمِّي الأبيض المُشرب بالحمرة بالأزهر ، ومؤنثه الزهراء .
#أحمد_الشهاوي
ahmad_shahawy@hotmail.com