الكاتبة التي استعادت حياتها برواية مُهرّبة في حقيبة عن ضحايا الهولوكوست.
الخريف هو موسم الجوائز الأدبية المُرتَقبة في فرنسا دون منازع، الأمر الذي شَغَلَ دينيس إبستين دوبليه المُحَرِّرة والصُّحافيّة المٌتقاعدة في باريس، وشعرتْ به لأول مرّة، بينما هي تُدير موجة الراديو في مطبخها بعد ظهيرة أحد أيام نوفمبر 2004، كان السكون يخيّم على المنزل كلّه، عندما سمعت الإعلان: جائزة رينو (تيفوبراست – ريناودو) إحدى أفضل الجوائز الأدبيّة، تُمْنَح الى إيرين نيميروفسكي ، نَظرت دينيس الى الراديو، في ذعر غير مفهوم، شاعرة للحظات بدوار خفيف، لا يشبه ذلك الذي بدأ ينتابها منذ أن بلغت الثانية والسبعين من عمرها، انه شيء مصحوب بهمس ضعيف كما لو أن احداً ينادي عليها من وراء النافذة، لم يكن ذلك غير صوت جهاز الراديو وهو يردّد عبثاً اسم إيرين نيميروفسكي ، أمّها التي اعتقدت لسنوات أنّ اسمها قد أنتهى الى النسيان.
في الواقع كانت رواية Suite Française” الجِنَاج الفرنسي” أو بترجمة حرفية “جِنَاح فرَنْسيز” قد صَدَرتْ بعد اثنين وستين عاماً على وفاة كاتبتها ، وهذه هي المرّة الأولى التي تُمنح فيها هذه الجائزة الخياليّة وفي سابقة غير معهودة إلى مؤلف ميت، وهو ما فاجأ الأوساط الأدبية الدولية، الأمر الذي دفع البعض إلى رفضها بينما اضطر البعض الآخر للحديث عن “العبقريّة المَنسيّة” للأدب الفرنسي. ، وقد يرجع سبب هذا التكريم ولو في جزء منه ، ربما الى نَدم الشعب الفرنسي على نسيان هذه الكاتبة التي رأت نفسها أنها تنتمي اليه ثقافياً،لكنها، وبموجب القوانين التقييدية لنظام ڤيشي( حكومة من المُرتزقة، أقامها الألمان في مدينة ڤيشي الفرنسيّة بقيادة الجنرال هنري فليب بيتان لمطاردة المتهمين ، تحت شعار الحفاظ على ممتلكات فرنسا)،، لم يعد مسموحًا لها النشر باسمها الصريح، مرّة في مقابلة غير مؤرّخة عام 1942 كتبت نيميروفسكي: “يا إلهي! ماذا يفعل بي هذا البلد ؟ وبما إنّه يرفضني، فدعونا نفكر فيه ببرود، ولنشاهده وهو يفقد كرامته وحياته “. لقد جاء فقدانها الثقة في بلدها بالتبني بعد فوات الأوان لإنقاذها أو إنقاذ زوجها، ميشيل إبستين، الذي توفي في أوشفيتز بعد بضعة أشهر من وفاة زوجته. تركت نيميروفسكي وراءها ابنتين صغيرتين هما دينيس وإليزابيث، وحقيبة مليئة بملاحظاتها عندما تم القبض عليها ، ورواية “Suite Française” التي اكتشفت مخطوطتها ابنتها البكِر دينيس ، بعد نصف قرن وأخرجتها من ضمن دفاتر والدتها المُعدّة للنشر منذ أقل من عقد. وهي كل تلك الأوراق والصور التي جمعتها في حقيبتها كتذكار يوم قرّرت الإختباء من مطاردة الشرطة الفرنسيّة لها، وما أعتقدته مجرد ملاحظات عابرة ، كان في الواقع تحفة أدبيّة رفيعة، لملحمة روائيّة -غير مُكتملة- من خمسة أجزاء، عن فرنسا المُحتلّة.
ولدت إيرين نيميروفسكي ( وفقاً لتقويم جوليان القديم) في 14 فبراير/شباط 1903 من أسرة يهودية في كييف،أوكرانيا، كان والدها ليونيد نيميروفسكي مسؤولاً ثرياً في أحد البنوك ، ولد في يليسافيثراد. وقد جاءت عائلته من نيميريف في منطقة بوديليا ، حيث تواجد أكبر جالية يهودية منذ عهد الكومنولث البولندي الليتواني.
أمها التي أصرت أن تُسَمّى على غرار الطريقة الفرنسيّة باسم فاني وهو الأسم الذي ستُعرف به ، كرهت ابنتها المتواضعة ،وسوف ينتقل كرهها هذا الى حفيدتيها فيما بعد، تتذكر دينيس جيداً ذلك اليوم بعد الحرب عندما قرّرت فيه زيارة جدتها ، هذه التي كانت تعيش مرتاحة بمنزلها في “نيس” خلال تلك الفترة، ودون أن تفتح لها الباب للدخول، اخبرتها انه في حال موت والديها فعليها الذهاب مع أختها الى ملجأ للأيتام، (ماتت فاني عن 102 عاماً،وعندما بحثوا في خزانتها لم يجدوا شيئاً غير روايتين تعودان الى ابنتها إيرين ) ، وهكذا سعت للحفاظ على الفتاة عند بعد. ولقد أصبحت علاقة أيرين مع والدتها موضوعات رئيسيّة في أعمالها القادمة، طلبت “فاني” أيضا أن تتحدث ابنتها معها بالفرنسية ، وساعدتها في ذلك مربية فرنسيّة (آريّة) تدعى جولي دومو. وعلى مر السنين ، ساعد هذا إيرين على الدخول بسلاسة ليس فقط إلى الحياة في باريس ولكن أيضا أجواءها الأدبية.
عندما بدأت المذابح المناهضة لليهود والأحداث الثورية ، انتقلت إيرين ووالديها إلى بطرسبرغ في عام 1914،وفي عام 1917 إلى موسكو ، بعيدا عن الاضطراب السياسي في العاصمة. في موسكو بعد وصول البلاشفة إلى السلطة في أكتوبر 1917، كانت إيرين، تشاهد من نافذتها في فندق متروبول، وهي تشعر بالإثارة لمشاهدة مصابيح الشوارع مقطوعة الرأس بسبب إطلاق النار، مما أدى إلى اندلاع «تيارات من الغاز المحترق في الليل المظلم». في وقت لاحق، هربت العائلة إلى فنلندا وتلقت إيرين قبلة عيد ميلاد على مزلقة. هبطت في فرنسا عام 1919، وتعهدت رسميًا: «أقسمت لنفسي أنه بغض النظر عما حدث، فلن أصبح منفيًة مرة أخرى».
وفي باريس ،تمكّن والد إيرين من استعادة ثروته (وكان حينها رئيسأ للفرع المحلي لبنكته) ، لتستأنف الأسرة حياتها البرجوازية الغنية. أحبّت إيرين الشّابة الرقص والحياة الخفيّة لباريس في عشرينيات القرن العشرين ومع ذلك ، فقد تمكنت من العثور على الوقت لنشاطاتها الأدبية. بدأت إيرين في كتابة القصص القصيرة ، فضلا عن الأعمال الجادة ، التي نشرت في المجلات. وبعد دخولها جامعة السوربون، وقد حققت نجاحًا بروايتها الأولى، David Golder، التي نُشرت عندما كانت في التاسعة والعشرين.
في عام 1929 حصل المحرر برنارد غراسيت على مخطوطة “David Golder “أو داود الذهبي عن طريق البريد. غير أن إيرين ، وخشية الفشل ، لم تضع اسمها أو عنوان بريدها. ومن أجل تحديد مكان صاحب هذه المخطوطة ، فقد تعين نشر إعلان في صحف مختلفة.
مع أول محادثة ردت سيدة شابة مُتحضّرة (كانت إيرين في السادسة والعشرين من عمرها آنذاك) ، ولم يكن بوسع المحرر أن يصدق لفترة طويلة أنها كانت صاحبة هذا العمل “الناضج والقوي” وقال إنه على يقين من أن إيرين شخصية متميزة وأن الكاتب الحقيقي ، وهو كاتب معروف ومحترم ، قرر البقاء في الظّل. ولكن بعد عدة محادثات تم تبديد شكوكه.
واكتسبت David Golder شعبية واسعة، وفي عام 1931 تم تصوير العمل من قبل الشخصية الكلاسيكية المستقبلية للسينما الفرنسية جوليان دوفيفييه. إنها قصة رجل مسن ، مريض ، ثري تحتقره زوجته ، التي تعيش عَلَنا مع عشيقها.
والذي ترى في زوجها مجرد مصدر للحصول على المال.
في نفس العام ظهرت بعض النسخ الفرنسية والألمانية من أعمالها التي تعكس علاقة إيرين بوالدتها وكراهيتهما المتبادلة ، والتي تُعبر عنها كلّ منهما في البحث عن إخفاقات مهينة تسيء بها الى الأخرى.
بطلة لو بال(الكرة) ،تنتقم من والدتها بطريقة طفوليّة ولكن حكيمة وراشدة وببرودة أعصاب،
كانت معظم أعمالها اللاحقة تتم في وسط يهودي ، بين مهاجرين من أوديسا، كييف وغيرها من المدن الأوكرانية والروسية. الأبطال غالبا ما يحملون سمات وشخصيات سلبية.
وهذا التصوير لليهود يتناسب تماما مع سياق تصاعد المشاعر الفاشية. ومع ذلك ، ففي أعمال نيميروفسكي ، طابع خاص مختلف إلى حد ما في انتقادها إلى شعبها “ وهو طابع “أبوي” ، مماثل لنقد غوغول في الأرواح الميتة.
في عام 1926 تزوجت إيرين من ميشيل إبستين ، وهو نفسه كان لاجئاً من الجمهورية الروسية البلشفية وابن مصرفي معروف (ليس مصرفياً فحسب بل رئيس نقابة البنوك الإمبراطورية). ولديهما ابنتان ، دينيس وإليزابيث ، ولدا في عام 1929 و 1937 على التوالي.
على الرغم من اعترافها الأدبي، حُرمت نيميروفسكي وزوجها من الجنسية الفرنسية. ومع تصاعد الحمى الفاشية، في 2 فبراير 1939 تحولت إيرين إلى الكاثوليكية وتم تعميدها مع ابنتيها.
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية وغزو القوات الألمانية لفرنسا، أخذت إيرين وزوجها أطفالهما إلى منطقة ريفية في بورغندي وعادوا إلى باريس. لكن ميشيل، بصفته يهوديًا وأجنبيًا، لم يجد العمل المناسب له كمصرفيّ في أي من البنوك،. بدورها، مُنعت إيرين من نشر أعمالها(يومها اضطرت جميع دور النشر إلى مراقبة الخلفية الآرية لمؤلفيها عن كثب.)
في بورغوندي ، كتبت نيميروفسكي دراسة لسيرة ذاتية ، لا في دي تشيخوف “حياة تشيخوف” ، وعمل أدبي بعنوان حرائق الخريف ،سوف ينشران فقط بعد نهاية الحرب ، وبدأت العمل على روايتها المهمّة Suite Française ، عمل يصور حياتها كلها ،
تم التخطيط لخمسة أجزاء لهذا العمل الضخم ، ولكن كان هناك القليل من الوقت. وتدرك إيرين التي كانت مراقبة دائماً من قبل الشرطة الفرنسية المُؤتمرة بأوامر الألمان بحتمية الحالة التي انتهت إليها . لكنها ورغم ذلك فقد تمكنت من كتابة الجزأين الأولين : “العاصفة في يونيو” ، وهو عن الحياة المُتباينة لمجموعة من الباريسيين أثناء هربهم من باريس ، بينهم مؤلّف متهوّر ومصرفي فاسد، وكاهن نبيل يرعى اليتامى الكنسيين،وأشخاص من الطبقة المسحوقة، على هيئة زوجين متحابين ،وجميعهم يفرون من هذه المدينة المُنكسرة وفي هروب فوضوي الى الريف، قبل ساعات من تقدم الألمان.
كتبت إيرين إلى ناشرها: “صديقي العزيز… لقد كتبت الكثير. وقدمت تعليمات واضحة بشأن الجهة التي ستدعم بناتي وما هي الأموال ، في حالة فقدانَهنَّ المَعيل.
في 3 يوليو 1942 وبعد عودتها إلى منزلها الريفي،في ڤيشي ، راجعة من الحقل، وجدت مجموعة من الدّرك الفرنسي بإنتظارها، قَيّدَها ضابطان لأخذها بعيداً، في السادس عشر تم إحضارها إلى معسكر عبور بيتهيفيرز ، وبعد ستة أيام تم نقلها عن طريق الرحلة رقم 6 إلى أوشفيتز. وهناك أصيبت بمرض التيفوس ، وبقيت في مستشفى المعسكر ، حيث تم استخراج شهادة وفاتها في بيركيناو (كان هذا المعسكر على صلة بأوشفيتز ، معسكر الموت المجهز بغرفة الغاز).
في 17 أغسطس 1942 ، خلال الأيام الأولى من معركة ستالينغراد ، أدرجت إيرين نيميروفسكي ، من ضمن قائمة الذين لقوا حتفهم في أوشفيتز – بيركيناو.
ولم تعرف عائلة إيرين أي شيء عن مصيرها. وصحيح أنّ ميشيل حاول معرفة مكان احتجاز زوجته للتأكد من حالتها الصحية. وكتب رسالة إلى حكومة فيشي المتعاونة يطلب فيها تغيير المكان مع زوجته إيرين في معسكرات العمل الشّاقة. ومُذكراً الحكومة بأن أسرته وعائلة إيرين “ليس لديهما أي تعاطف مع اليهودية أو مع البلاشفة” ، وأنها كانت دائما تقف “بصرف النظر عن التجمعات السياسية”.
ولكن لم تسفر هذه المطالب ولا اعتراض الأشخاص الذين ظلوا أصدقاء له ، على الرغم من الحالة القلقة في فرنسا ، عن أي نتائج. في النهاية ألقي القبض على زوجها ميشيل. وفي 6 نوفمبر 1942 وصل إلى أوشفيتز – بيركيناو وتم إحضاره في اليوم ذاته إلى غرفة الغاز ليموت بنفس الطريقة التي انتهت إليها حياة زوجته المحبوبة قبل أشهر قليلة.
ثم يأتي الدور بعدها على بنات نيميرو فسكي، ولكن وبمساعدة مربيتهنَّ وصديقة العائلة جولي دوموت، تمكَنَّ من الفرار بقيّة الحرب في جميع أنحاء فرنسا،الإختباء في دّيرِِ في البداية ثمّ في بعض قبوِِ ليس بعيداً عن بوردو وشهراً بعد شهر من مطاردة الشرطة الفرنسيّة لهنّ، تَمكنَّ من إنقاذ حقيبة مليئة بالصور والوثائق العائليّة، بما في ذلك مخطوطة “الجناح الفرنسي”.
ينقسم الكتاب إلى جزئين هما في الأصل الجزء الأول من ملحمة إيرين نيميروفسكي التي عكفت على كتابتها، كمشروع ضخم من خمسة أجزاء غير مكتملة. في القسم الأول” عاصفة في يوليو”، نرى ذعر وارتباك الباريسيين الذين كشفت الرواية عن أسوأ صفاتهم في ظلّ ظروف قاسية، حيث لا علاقة لهم بسوء أحوال الآخرين. وهم على استعداد للقيام بأي شيء لإنقاذ أنفسهم بأسرع ما يمكن،هاربين بممتلكاتهم الدنيويّة الثمينة خوف أن يستولي عليها الألمان بمجيئهم المتوقع في أيّ لحظة، مجموعات سراميك،أدوات شاي جميلة، وتلك الأشياء التي قدروها طوال حياتهم، في الجانب الآخر كانت هناك عائلة ميتشود زوجين مصرفيين ولديهما ابن في الجيش، مما جعل رحيلهما خفيفاً. قاموا بتنظيف منزلهم تاركين إياه نظيفًا لأنهم أخذوا فقط الأشياء الحيوية لوجودهم، فقط تلك الأشياء التي كانت ضرورية للغاية..
في الجزء الثاني ” الجناح الفرنسي”، يصبح الأمر أكثر هدوءًا بعض الشيء حيث يحتل الألمان فرنسا ونتعرف على قرية زراعية “دولتشي” التي أنشئت في عام 1941 تحت الاحتلال الألماني حيث يتمركز الضباط كل واحدة في الجناح المُخصص له، وفي كل منزل تقريباً. وتروي كيف يمكن للفلاحين وبناتهم الجميلات والمتعاونين البرجوازيين الملتمسين التعايش مع حكامهم النازيين الجدد. ولاحظت نيميروفسكي في كتاب عمل قبل أسابيع فقط من اعتقالها
أن هدفها هو وصف “الحياة اليومية والحياة العاطفية وخاصة الكوميديا التي توفرها”. وروايتها تؤدي هذا الغرض جيداً ، من خلال التركيز – بتعاطف ووضوح – على الدراما الإنسانية الفردية.
نُشرت هذه الرواية كما ذكرت في عام 2004. بعد أكثر من ستة عقود من وفاته كاتبتها إيرين نيميروفسكي، التي ضربت من خلالها عصبا اجتماعيا ،حقق لها شعبية كبيرة. ترجمت إلى 38 لغة ( ماعدا العربية طبعاً)، وهو ما قد يفسّر سبب رمينا الحجارة بوجه كل مايتعلّق بالأدبيات الإسرائيليّة(إذا ما صحّ هذا التعبير)،في اختياراتنا العشوائيّة أحياناً، وفي قراءتنا الى الأدب عموماً.
تجلس إبستين ، على الحائط صورة شخصيّة ضاحكة لوالدتها الشابة ، هي تصغرها الآن بتسعة وثلاثين عاماً وقد انعكست عليها خيوط الشمس، مضيئة جدران شقتها المعتمة في تولوز الفرنسيّة، محاطة بذكرياتها العزيزة ونجاح أعمال والدتها المفقودة أخيراً، استغرق إبستين اشهراً طويلة لنسخ مخطوطاتها، بإستخدام عدسة مكبّرة، وبعلمها عادت الآن جميع روايات نيميروفسكي من الثلاثينيات إلى المطابع مما يجعل كفاحها الطويل يبدو مفيداً. أن تستعيد حياتها أولاً، وحياة والدتها إيرين في نهاية الأمر.