الدين والسينما والمجتمع
“تنافر وتناقض”
ثلاث كلمات ما إن تجتمع في أي موضع إلا ونشب حواراً ساخناً أصفر عن لا شيء، وهذا ما يحدث دائماً عند الحديث عن العلاقة بين الدين والسينما والمجتمع. نحن أمام ثلاث كلمات بينهم تنافر وتناقض مستمر، إلا أن نتيجة هذا التنافر والتناقض يعود بالسلب على المجتمع من جميع جوانبه.
نبدأ حديثنا بالنظر لكلمة “سينما”، فكلمة “سينما” تشير إلى لون من الألوان الزاهية للثقافة والفنون، بل هي أداة أساسية من أدوات الثقافة، ونطلق هنا كلمة “سينما” على كل ما يعرض على شاشات التلفاز من أفلام ومسلسلات وإعلانات تجارية وغيرها من المواد التي تعرض بهدف الترويج والدعاية.
والسؤال الآن هل “السينما” لها علاقة بالفن؟ بالطبع نعم “الفن” و”السينما” وجهان لعمله واحدة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ويمكننا القول إن السينما فن راقي لأبعد حد يمكن أن نتخيله. فهي تعمل على حمل راية الثقافة بين الأجيال، عن طريق عرض المواد السينمائية المختلفة (أفلام ومسلسلات وخلافه) ذات المحتوى الهادف ووفق المنهج، والنظام للدين، والأخلاق والعادات. لتقديم مادة ثقافية للمجتمع نستطيع من خلالها أن نُنير بها عقولنا لنتفتح على ثقافات مختلفة. نعود مرة أخرى للسؤال السابق، ونعيد ترتيبه مرة أخرى ليصبح، هل كل ما تقدمه “السينما” يعتبر فن؟ لن أجيب عن هذا السؤال بل سنترك أنفسنا للتفكير فيما يعرض لنا على شاشة التلفاز لنقيم بعقولنا هذا النوع الجديد من الفن ويا حسرتا على هذا النوع الجديد! ! هل المشكلات الاجتماعية الواقعية الطريقة الوحيدة لتجسيدها ومعالجتها في الروايات الدرامية والسينمائية لا تتم إلا بالإيحاءات الخارجة والألفاظ البذيئة الدنيئة والسلوكيات غير الأخلاقية من ملابس فاضحة وغيرها من الأساليب المُنافية للآداب؟ إذا استطعنا أن نُجيب على هذا السؤال سندرك أتم الأدراك مدى قيمة هذه الأعمال التي لا تمت للفن بصلة، فالعاقل يستطيع وصفها بأنها عالة على الفن.
ونتذكر هنا قول الدكتور مصطفى عبده في مؤلفة (الدين والإبداع) قائلاً: “يقرر الدين بأن كل الأشياء مباحة إلا ما خرجت عن المنهج والنظام، وهذا وقع التحريم على الفن المنحرف، وما زال التحريم واقعاً إن بقيت أسبابه. وإن اجتنب الفنان ما لا يفعله فهو فيما يفعله مختار. قد تعامل الدين مع الفن بلا تفعل ويكون الفاعل في هذه الحالة مختاراً فيما يفعل إن تجنب ما لا يفعله. وبذا وضع الدين الفنان في منطقة الاختيار”.
ولكن على الرغم من ذلك إلا أنه انتشر في الآونة الأخيرة نوع هابط بذيء من الفيديوهات طويلة المدة المسماة بحلقة لمسلسل أو فيلم خالي من المحتوى أو أي هدف تعليمي أو أخلاقي، بل يعمل على هدم وزلزلة الدين والأخلاق داخل نفوس الشاب. ولكن من سيتصدى لهذه الظاهرة البذيئة الفوضوية؟
بالطبع الدين، ومن هنا جاءت الدعوة “لتجديد الخطاب الديني” من أجل إنقاذ المجتمع من مثل هذه الأعمال وتحقيق فهم قويم للدين وتطبيقه بشكل سليم داخل المجتمع. تناولت الكثير من الكتابات وعُرضت الحلقات على مختلف القنوات الفضائية عن تجديد الخطاب الديني، ولكن كل هذا الكم من المعلومات إن كان به معلومات من الأساس في نظري لا يعدو مجرد شغل وقت فقط لا غير دون جدوى. فالخطاب الديني لابد وأن يصل إلى جميع فئات المجتمع بجميع الأعمار بدايةً من الأطفال الصغار سواء من الروضة والمرحلة الابتدائية حتى نهاية المرحلة الجامعية أو التعليم الفني، وذلك لاعتبار الخطاب الديني واحداً من الخطابات العديدة التي ينطوي عليها ويضمها الخطاب الفكري المعاصر، وإن كان أهم هذه الخطابات وأكثرها تأثيراً في المجتمع، ذلك أنه يمس وتراً حساساً لدى أعضاء هذا المجتمع، نظراً لما يرتبط بموضوعاته من قدسية يهبها لها الدين الذي يشكل عاملاً أساسياً في تشكيل العقلية والشخصية المصرية والعربية على حد سواء.
وسؤالنا الآن بهدوء كيف تستقيم وتفلح ويتحقق نجاح ما تدعو إليه المؤسسات الدينية (الإسلامية – المسيحية) متخذه الخطاب الديني آداه لها، وسط بعض الأعمال السينمائية وما بها من إباحيات ومشاهد خارجة، نستطيع أن نجزم بأنها لا أخلاقية من الألف إلى الياء؟
لن أقول أين الدور الرقابي على مثل هذه الأعمال التافهة، ولكن أقول أين دور الأزهر باعتباره مؤسسة دينية مسؤولة في المقام الأول عن تشكيل وعي شباب هذه الأمة؟
لكن دعونا نتساءل كيف للمشاهد أن يشاهد حلقة دينية عن الإيمان بالله والعقيدة والأخلاق ومعاملات النبي – صلى الله عليه وسلم – والعفة وغيرها من الموضوعات الدينية بغرض تهذيب النفس وتقويتها، وبعدها مباشرةَ يعرض فيلماً أو إعلاناً على العكس مما قيل في هذه الحلقة الدينية، هل هذا منطق يقبله عقل؟ هل ننتظر بعد هذا النهوض الحقيقي للمجتمع؟ هل بمثل هذه الأعمال الهابطة – التي لن تكفي صفحات وليس سطوراً أن ترصد بعضاً منها – نستطيع تنمية وعي وتنشئة الأجيال؟
ولكن الحديث عن الخطاب الديني وتجديده في الحلقات التلفزيونية والبرامج الإذاعية ليس كافياً للنهوض بالمجتمع وتحقيقي الوعي المنشود لأعضائه، بل لابد من الممارسة الفعالة لما يتضمنه الخطاب الديني من تعاليم وقيم ومبادئ. وهذه الممارسة لن تتحقق دون الولوج في الفهم الصحيح للدين، ولكن كيف يتحقق هذا الفهم دون معرفته معرفة صحيحة، لابد أولاً من تطبيق مادة التربية الدينية (الإسلامية – المسيحية) في المدارس والجامعات كمادة أساسية تُحاسب بأعلى الدرجات، وأقصد كلمة درجات هنا لأننا نعي تماماً كيف ينظر الكثير إلى المواد وأهميتها طبقاً لمجموعها، وذلك بهدف نشر التعاليم الصحيحة للدين دون تزيف أو تأويل بعيد عن روح الدين.
إن الدين ليس ضد الفن ولا ضد التعبير الإنساني، بل هو ضد الانحراف السلوكي (بالإباحية) والانحراف العقائدي (بالوثنية). والحرام يقع في الانحراف السلوكي والعقائدي ولذا حرم الإسلام كل دعاوي الوثنية (القديمة والحديثة) وكل دعاوي للإباحية، فنبذ الانحراف ومسالكه، ونبذ التجسيم والبروز، ودعي لفن راق وسام هادف يعمل على تثقيف حال الأمة والنهوض بالمجتمع.
وأخيراً، فمهما توالت العقود ووصل ما وصل إليه التقدم العلمي من تطوير واكتشافات إلا أنه تظل العادات والتقاليد والأخلاق مرآة للدين. لابد لكل الأسر ألا تحيد عن الفهم الصحيح للدين والتمسك بالأخلاق والعادات والتقاليد، وألا ننصت إلى الدعاوي المأجورة والتبعية المثارة عن الحرية وأن الجميع أحرار، فهذه ليست حرية، بل تهور جرم في حق النفس. وعليك أن تتذكر أنك حر ما لم تضر نفسك والآخرين. فإذا وضعنا الدين نصب أعيننا نستطيع وبحق أن نحقق التقدم المنشود من خلال الوعي القائم على الفهم الصحيح للدين.
محمد جادالله
باحث ماچستير – كلية الآداب – جامعة عين شمس