يصدر قريبًا عن دار غراب للنشر والتوزيع كتاب “فرسان راحلون … من جيل الأسطوات” .. للكاتب أحمد مصطفى.
غلاف الكتاب من تصميم الفنان عمر الحو ، والكتاب من تنسيق وإخراج “سهير الطويل”
ويجمع الكتاب مقالات سابقة عن 20 شخصية كانوا “أسطوات” في مجالهم العام وقد أثروا في حياة الكاتب مما جعله يكتب عنهم بحب وإخلاص بعد أن رحلوا عن دنيانا في العقدين الأخيرين .
ومن مقدمة الكتاب:
أتصور أن جيلي، الذي جاء إلى الدنيا في بدايات النصف الثاني من القرن الماضي، جيلٌ محظوظٌ إلى حدٍ ما – على الأقل مقارنةً بالأجيال التي تلته بعد عقودٍ. والسبب أنه كان إلى حدٍ ما «جيلًا وسيطًا» بين تحولات كبرى، ليس فقط في بلدنا ومنطقتنا بل ربما في العالم كله. صحيحٌ أن كل جيلٍ هو «وسيطٌ» – أي بين جيلين أو مرحلتين .. إلخ. لكن من معرفتي بمهنتين، متباعدتين إلى حدٍ كبيرٍ، عن قربٍ أدَّعي أن جيلي أصاب قدرًا من ثقافةٍ ومجموعةِ قيمٍ وسلوكيات سبقت، وتكاد تكون اندثرت ثم أدرك ثقافةً ومجموعةَ قيمٍ وسلوكياتٍ اختلفت تمامًا إلى حدٍ يقترب من القطيعة مع سابقاتها.
ليس الأمُر مجرد حنينٍ للماضي (نوستالجيا) أو مفاضلةً بين وقتٍ ووقتٍ في مسارِ حياةِ المرءِ. فلكلِ زمنٍ مزاياه وعيوبه، ولا يصح الحكم على فترةٍ ما بوعيٍ متأخرٍ دون الأخذِ في الاعتبار كل الظروف والعوامل الآنية في وقتها. وعلى أي حالٍ، فكل ما يتعلق بذلك هو أمرٌ نسبيٌ تمامًا ولا يخضعُ لقواعدٍ صارمةٍ. فليس الماضي كله جميلًا كما يغالي البعضُ، وليس الحاضرُ كله رديئًا كما قد يتحسر عليه البعض.
وبما أني أقترب من المحطة الأخيرة في قطارِ العمرِ، انتابتني رغبةٌ قويةٌ في أن أجمعُ شيئًا مما يخص ذلك الجيل – من خلال انطباعاتٍ شخصيةٍ تمامًا لا تتحمل أية استنتاجاتٍ عامة. وعذرًا على هذه السفسطة في المقدمة، فهذا شأنُ من يمتهنون الصحافةَ والكتابةَ حين يتقدم بهم العمر دون أن يفقدوا الشعورَ بأهميةِ الكلمةِ والحاجةِ إليها.
أتصورُ أن من ميزاتِ جيلي أنه أدرك نهايات «جيل الأسطوات»، وللأسف ربما يتحملُ وزر أنه والجيل الذي تلاه لم يحافظوا على ذلك الخط المهم، وشعاره: «الأسطى اللي علم ما مات». لا أعرف قطعًا المعنى الدقيق لكلمة «أسطى»، فالبعض يقول أنها دخلت اللغةَ العربيةَ من اللغة ِالفارسيةِ أو من اللغةِ التركيةِ. لكن الأقرب للدقةِ تاريخيًا أن مصرَ عرفت تلك الكلمة وشاعت في العصرِ المملوكي. وبما أن المماليك أتوا من مناطق شتى في القوقازِ وآسيا الوسطى فمن الصعب تحديد أصل الكلمةِ من أي لسانٍ في تلك المناطق. لكني أتذكرُ أنها كلمةٌ قديمةٌ جدًا في لغة سكان داغستان، وربما كان أصلها من هناك. ثم أن معناها في داغستان أقرب ما يكون لمعناها الذي نعرفه: الشخص بالغ المهارة في مهنةٍ معينةٍ والذي أيضا له تلاميذ في المهنةِ – يسمون «صبيان».
سيختلف كثيرون حول بداية نهاية عصر الأسطوات في مصرَ، فالذين يتخذون موقفًا مسبقًا من ثورة يوليو 1952 والإطاحة بالنظام الملكي والتخلص من الاحتلال الانجليزي، سيرون أن ذلك بدأ مع التغيير القسري في المجتمع مع الثورة. وهؤلاء في تصوري أسرى صور غير حقيقية عن مصر في ظل حكم أسرة محمد علي والاحتلال الأجنبي. لا أحكم على تصورهم، فهناك الآن من يتمنى لو أن مصرَ تعود للوراء أو يحتلها أجنبي. وهناك من رأوا في التغيير في منتصف القرن الماضي استعادة لقدرات مصرَ والمصريين، وهو ما شحذ همم أسطوات في كافةِ المجالاتِ والميادين، وأن نهاية عصر الأسطوات بدأت ما بعد حرب أكتوبر 1973 والتحول الذي شهدته مصرُ – مفروضًا من قمتها أيضًا.
وبما أن «آفة الرأي الهوى»، وأنا من جيلٍ عابرٍ بين الآراء، فالأهواء هنا متضاربة إلى حدٍ ما – لذا لا رأي حاسم سوى من التجربة الشخصية وبشكل أقرب للتصور الفردي الذي لا يجوز تعميمه.