كتب د. محمود زايد:
تأخذ أربيل -عاصمة إقليم كردستان العراق- شهرة واسعة في المنطقة والعالم بأمنها واستقرارها وازدهارها على مدى العقدين السابقين، وذلك بفضل الجهود الكبيرة التي بذلها المسؤولون بالتعاون مع المواطنين والأصدقاء الدوليين.
وهذا ما جعلها قِبلَةً لقوى دولية كبرى ولدول عربية في التمثيل الدبلوماسي، وانعقاد المؤتمرات السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية.
لم تولد أربيل هكذا؛ وإنما وصلت لهذه الحالة بعدما عاشت فترة معاناة طويلة في شكل قرية فقيرة ترسف في أغلال حكم البعث وتعسفاته الشوفينية، وتقصف وغيرها من المدن والقرى الكردية بالطائرات، وتتساقط عليها براميل النابالم والكيماوي بمجرد أن يُعلن مواطنوها أنهم يريدون أن يحيوا حياة إنسانية كريمة، وثورات بارزان وأيلول وكولان والأنفال وآذار شاهدة على ذلك.
إلا أن هذا الاستقرار والتطور الحالي لإقليم كردستان لم يَرُقْ لآخرين داخل العراق، كان بعضهم في فترة ما شركاء في المعاناة والنضال، ساندتهم في ذلك قوى إقليمية، وجميعهم يعانون من قلاقل واضطرابات، وانسداد سياسي، ورفض مجتمعي، وفشلٍ فيما نجح فيه إقليم كردستان، فاستكثروا وضع الإقليم الآمن المستقر على مواطنيه وقاطنيه وسائحيه، وسعوا إلى إغراقه وجرّه إلى ويلات تسعينيات القرن الماضي من باب: «أن نبقى جميعًا في المستنقع سواء» لا «أن يأخذ بعضنا بأيدي بعض تحقيقًا لرسالة السماء».
ورغم محاولاتهم المتكررة على أربيل، لم تنجح الاعتداءات والعمليات الإرهابية بالصواريخ والمُسَيّرَات تارة، وبمحاولات شق الصف الكردي تارة أخرى، في كسرِ حالة الأمن والاستقرار في الإقليم؛ إذ إن يقظة الوعي الأمني وتكاتف المواطنين مع الشُرَطِيين والأسايش له دور كبير في إفشال هذه الاعتداءات، والحفاظ على استمرارية حركة الحياة الآمنة في الإقليم.
لم يُحرَم الأجانب والمصريون والعرب المسافرون إلى إقليم كردستان من التمتع بالأمان والإفادة منه؛ فبمجرد أن تسمع رسالة كابتن الطائرة، لاسيما الصوت الشجي لكباتن مصر للطيران، «أهلا بكم في مطار أربيل الدولي» أو «أهلا بكم في مطار السليمانية الدولي» – تشعر بأن حالة من الطمأنينة والسكينة قد تملكتك، وعبير النرجس وشقائق النعمان قد جرى في عروقك، وزخات شلالات سيبا وأحمد آوا قد رطبت وجدانك، وشموخ جبال متين وسفين وآكرى وزاجروس وآزمر وزاوا قد احتضنتك ولازمك أمانها أينما ذهبت في كردستان وحيثما تجولت.
كما أن جمال الشوارع في أربيل يُبهرك من حيث التنظيم والاتساع، والتشجير، والحدائق المفتوحة، والإنارة، والانضباط المروري في أغلب الأحوال، والموديلات الحديثة والفارهة للسيارات، وروعة العمارات السكنية والإدارية والمجمعات (كومباوندز). لكنك تُصدَم بالأسعار الباهظة للشقق والبيوت والفيلات، أرقام غير المنطقية وغير مناسبة بالمرة بملايين الدولارات!! لاسيما في دريم سيتي وإمباير وبختياري والقرية الإيطالية ومصيف صلاح الدين… إلخ، حيث تفوق أسعار السكن في أربيل (إيجارًا أو شراءً) أضعاف نظيرتها في لندن ونيويورك، وهذا أمر مستغرب جدًّا من قبل الكثير من المواطنين ومن السائحين. فلابد من وقفة لإيجاد حل.
وبدلاً من الاستثمار في البنايات السكنية التي لن تجد من يشتريها، فإن من عوامل قوة الإقليم الاستثمار في الاكتفاء الذاتي في الغذاء والصحة والبنى التحتية بشكل مبدئي، من خلال إنشاء المصانع والشركات وتنشيط المجال السياحي والترويج له.
وأعتقد أن التجربة المصرية رائدة ومهمة في هذا المجال، وأن الدولة المصرية قادرة على إفادة الإقليم بها.
ما أثلج صدري هذه المرة في أربيل، انكسار حالة الركود التي كانت واضحة قبل ذلك بسبب كورونا وتعنت الحكومة الاتحادية في تسليم ميزانية الإقليم كاملة وفي موعدها، وقلاقل الخلايا النائمة لداعش، وانخفاض سعر برميل النفط. حالة الركود التي كانت موجودة كنا نلحظها في الشوارع وفي المطاعم والمقاهي والأسواق والمولات التي كانت شبه خالية تشتكي حالها لربها.
أما هذه المرة فالوضع صار مختلفًا، صائرًا نحو الأفضل، فالبسمة مرسومة في وجوه بعض من رأيتهم المواطنين، والعوائل والأصدقاء تتغنى بهم المطاعم والمولات، والكافيهات شبه ممتلئة، لا يتوقف إبريق الشاي والقهوة وخلاط العصائر عن العمل، ولا تتوقف النرجيلة عن الكركرة بمذاقاتها المتنوعة. كل ذلك يأخذ قلبك مع ترانيم كوكب الشرق والعندليب في تلك المتنزهات. وحينما تسأل: لماذا أم كلثوم؟ يأتيك الجواب: «أنه مع حبنا وعشقنا لمصر والمصريين، فإن أم كلثوم تخطت بفنها حدود مصر إلى العالم كله، فهي فنانة كل متذوقيها». وفي السياق نفسه يقول لي الصديق الكردي شيركو حبيب: «إن أم كلثوم مثل الجوهرة والأثر الثمين، كلما ازداد قِدمًا ازدادت قيمته».
إن حب الشعب الكردي للسلام الإنساني يجعلك تحترمه وتقدره. وكذا عدم اندفاعه نحو الانتقام عند المقدرة ممن حاربه أو نازعه ما دام قد جنح إلى السلام، واحترم الحقوق والدستور. وهذا واضح في أربيل هذه الأيام المليئة بالكثير من السياح العراقيين العرب، حيث يقضي هؤلا أوقاتهم بأمان دون تأفف أو كره أو تخوّف من مواطني الإقليم، على عكس مما تتعامل به بعض الأحزاب السياسية العراقية مع الإقليم، لاسيما ذات الولاءات الخارجية. ويا ليت القوى العراقية تعي ذلك الدرس جيدًا وتوقن ألا يكون العراق إلا للعراقيين.
*الكاتب أستاذ جامعي وباحث في شئون الشرق الأوسط