تعتبر النهضة الإنسانية هي نتاج التراكم المعرفي للتراث البشري عبر العصور والتي وصلت مؤخرا الى أنضج مراحلها المتمثلة في الحضارة الغربية والتي هضمت علوم الحضارات الإنسانية السابقة وبنت عليها حضارتها الحديثة والتي أصبحت عالمية الطابع بعد قرون الاكتشافات الجغرافية وما تلاها من ثورة الاتصالات والتي جعلت العالم قرية صغيرة معلوماتية يتمتع كل فرد فيها بأحدث ما وصلت اليه المعرفة البشرية في حينه دون تعب أو جهد ….
قامت النهضة البشرية على عمودين رئيسيين الأول العلوم الإنسانية وما تشمله من فنون وأدب وفلسفة وقانون والعلوم التطبيقية و التي تشمل العلوم المادية من كيمياء وفيزياء و احياء و هندسة و ما نتج عنها من اختراعات و تكنولوجيا …. كلا العمودان يعتبرا طرفي الميزان للحضارة البشرية فلا نهضة مادية دون نهضة عقلية تشكلها الفنون والمعارف الإنسانية و التي تحدد وتصوب هذا التطور البشري التكنولوجي في أطار أوسع وأشمل يزاوج بين العلم البحت و الأدب الوجداني و يجعل كلاهما مكمل للأخر و داعم له…..
طالعت مؤخرا في أحد البرامج الحوارية أحد مشاهير المذيعين يدعو طلاب الثانوية العامة الى الالتحاق بالكليات التي تدرس العلوم التطبيقية والعملية والابتعاد عن كليات العلوم الإنسانية نظرا لعدم احتياج سوق العمل لها مما صدّر شعور للمشاهدين بالتقليل من شئن العلوم الإنسانية والتي تدرس الأدب والفنون والحقوق …..
هذه النظرة الدونية للعلوم الإنسانية والتي تنم عن سطحية بالغة لدى هذا المذيع ذكرتني بكتاب المفكر المصري الكبير د. صلاح قنصوه ” فلسفة العلم” والذي تناول فيه هذه الثنائية المعرفية بشكل تحليلي منهجي ووضح كيف أن النهضة الغربية لا تقوم على التكنولوجيا المادية فحسب بل سنجد أنها بدأت بشكل رئيس في الفنون والأدب و الفلسفة التي وضعت اللبنة الأولى لحركة الحقوق الغربية من مساوة و عدالة اجتماعية و سيادة القانون و كيف ان هذا المناخ أيضا هو الذي تسبب في انطلاق باقي العلوم الأخرى والتي كانت مقيدة بسبب التطرف والغلو وأفكار القرون الوسطى …. ذكر الكاتب أيضا أنه أثناء بعثته للغرب لاحظ أن علماء العلوم التطبيقية يتمتعون بدرجة عالية من الثقافة الأدبية والفنية وكيف ان الأدب والشعر كان من أهم الموضوعات التي يتناولونها أثناء جلساتهم الخاصة بحب وشغف ….
تذكرت أيضا رأي المفكر الكبير والفيلسوف المصري د. عبدالوهاب المسيري والذي تناول في كتابته فكرة العلمانية الشاملة المادية والتي نحّت الروح الإنسانية جانبا والتي يدعمها الأدب والفن و طغت عليها المادية العلمية و لذا ففد استنتج ان طغيان المادة على افكر الإنساني يصنع وحوشا و ماكينات قتل متجردة من أي ضابط أخلاقي أنساني ضاربا المثل بالتجربة النازية للرايخ الثالث و التي تمتعت بدرجة عالية من التقدم العلمي والعسكري في مقابل نزعة مادية لا أنسانية مبنية على الغابية و التفوق العرقي والذي أدى الى سلوك أجرامي بلا ضابط أو رابط أدى في النهاية الى اندلاع حرب عالمية شاملة نتج عنها ملايين القتلى …..
كل ما سبق يدعم أهمية المزواجة بين العلوم الإنسانية والتطبيقية وكيف أنهما وجهي عملة واحدة تهدف في النهاية الى الرقي البشري ورفاهية الشعوب المبنية على السمو الإنساني و التقدم التكنولوجي و أتمنى من هذا المذيع وغيره من قليلي الثقافة ان يدركوا أهمية كليات العلوم الإنسانية والتي تعمق التحضر و الرقي البشري في مجتمعاتنا المتشوقة الى مثل هذه القيم العليا السامية ….
د. عمرو منير محمد
أستاذ مساعد طب وجراحة العين كلية طب سوهاج