تمرُّ اليوم خمس سنوات على استفتاء إقليم كوردستان العراق المنعقد في 25 سبتمبر/أيلول 2017م، ولايزال البعض يثير جدلاً بين الحين والآخر نحوه؛ إما ناكرًا له من حيث المبدأ، أو واصفًا قرار الاستفتاء بـ «الحماقة» وأنه لم يكن سِوى محاولة انفصال فاشلة. وحاول آخرون تضخيم خطأ الاستفتاء في تداعيات بعض التطورات الخطيرة التي أعقبت نتائجه، أو معتبرًا عدم مناسبية توقيته، وكان يمكن تأجيله حتى يتم تهيئة الظروف له.
وبالتحليل الجمعي لِحقِّ الاستفتاء، فإن ذهاب إقليم كوردستان إليه لم يكن بالأمر المستغرب أو المبتكر؛ لأنه حق ضمنته مواثيق الأمم المتحدة، امتدادًا لمقررات عصبة الأمم التي بُنيت على المبادئ الأربعة عشر للرئيس الأمريكي ويلسون عام 1918م، وبناء عليه نالت العديد من الشعوب استقلالها عدا الفلسطينيين والكورد ومن في نحوهما؛ حيث خذلتهما القوى الكبرى وتعاملت مع مطالبهما بـ «حق تقرير المصير» بأكثر من وجه، كلها كانت ضدهما لأسباب ومصالح عديدة، منها بقاء منطقتنا في نزاع ونزيف مستمر يُطيل أمد النفوذ الغربي فيها لمواصلة عمليات النهب والاستغلال النفطي والاستراتيجي. وقد كشف استفتاء إقليم كوردستان جانبًا من ذلك.
وبالتالي، فليس من الانصاف أن يَصِمَ البعضُ الحقوقَ المشروعة للشعب الكوردي بأنها انفصال، فتمنطق تأسيس الدول الأربع المتقاسمة أراضي كوردستان وفق سايكس بيكو وسان ريمو ومقررات الحرب العالمية الأولى، لا يقول إن الريفراندوم كان انفصالاً أو تفتيتًا أو محاولة للهدم، وإنما كان – على حد تعبير الكورد – محاولة للتعبير الرسمي عن الحقوق، ورغبة في إعادة بناء الكيان المشوه وغير المتسق بشكل عادل وقويم، لتنتقل منطقة الشرق الأوسط لوضع أفضل مما هي عليه الآن.
ثم إن تصريحات كبار مسؤولي إقليم كوردستان جزمت في أكثر من مناسبة أن إجراء الاستفتاء لا يعني أن نتائجه سوف تطبق في اليوم نفسه أو في أمدٍ قريب، وإنما ستكون وثيقة يُستند إليها دوليًّا وفي مفاوضات الكورد مع بغداد تستمر ربما لسنوات حتى يصل الطرفان إلى كلمة سواء وصيغة مناسبة، على أساس أن تكون كوردستان إضافةً إيجابيةً وحيويةً للمنطقة لا خصمًا لها.
أما بخصوص تداعيات الاستفتاء، فقد كان متوقّعًا ما هو أشدّ منها من الداخل العراقي والإقليمي وبعض القوى الكبرى؛ فثمن الإرادة ليس يسيرًا، لاسيما في مناطق وأنظمة لا تعترف بحقوق الآخر ولا تحترم إرادته المشروعة. وقيادات الإقليم كانت على دراية من ذلك ومتأهبة له ومستعدة بما يقتضه الزمكان، أي الزمان والمكان.
والمتابع كان يرى ذلك بعينه وعقله، والرئيس مسعود البارزاني وضحه في كتابه «للتاريخ» وفي أكثر من مقابلة تلفزيونية وصحفية، وأكّده اليوم في كلمته في الذكرى الخامسة للاستفتاء بقوله: «ونحن اختارنا الجبال» مجاوبًا على بيت الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي «ومن لم يحب صعود الجبال .. يعِش أبد الدهر بين الحفر» في قصيدته «إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر».
وهذا ليس بغريب على الشخصية الكوردية عبر تاريخها، فمن يقرأها يدرك أنها لا تَهاب الأخطار والصعاب مهما كانت مادام الأمر متعلقًا بحقوقها وطموحاتها المشروعة. وما حدث في أعقاب الاستفتاء لا يمثل شيئا من عمليات الأنفال والإبادة بالكيماوي التي حاول بها نظام صدام حسين إفناء الشعب الكوردي وقبره حيًّا. ورغم فداحة الخسائر الكوردية في الأرواح البشرية والمادية (182 ألف و5000 قرية) لكن بقي الشعب الكوردي وقضيته وزال صدّام ونظامه.
وبشأن توقيت الاستفتاء من حيث مناسبته أو عدم مناسبته، فإنه يسمح فعلاً لتعدد الرؤى المختلفة والمتنوعة حوله، وتظل كلها مقبولة وإيجابيّة ما دامت لم تنكر ترفض مبدأ الحق في الاستفتاء، علمًا أن المسؤولين الكورد لم يتشبثوا بالموعد المقرر، وأنهم لم يعمدوا إليه إلا بعد سنوات من تكرار طرقِ كل باب يُطرَق في بغداد، لكن الأخيرة لم تسمع ولم ترَ «وِدن من طين وَوِدن من عجين» كما يقول المثل المصري، وكأن استبدادًا جديدًا يُبنى في بغداد بعد نظام صدّام. مع ذلك أبدى القادة الكورد أنهم على استعداد لتأجيل الاستفتاء بضمانات مكتوبة تتعهد بعدم إخلال بغداد بحقوق الكورد الدستورية. لكن لم يوافق أحد على إعطائهم تلك الضمانة بما فيهم الولايات المتحدة الأمريكية.
في الحقيقة، إن أخذ القرار بالذهاب إلى خيار الاستفتاء وقتذاك وحاليًا وفي المستقبل القريب ليس رفاهية ولا سهلاً؛ وإنما هو من أصعب القرارات على أي قائد، مهما كانت ظروف بلاده السياسية والاقتصادية، لأنه يعي أن «المركز» لن يتلقى هذا الخيار بمرونة أو حتى يقبل طرحه للنقاش، وكذا الإقليميون وأصحاب المصالح من القوى الكبرى؛ فكلٌّ منهم سيتخذ ما يراه وفق مصالحه ومبتغاه سواء أكانت مشروعة أم غير مشروعة ولو كانت على حساب الآخرين، ولحظنا ذلك من بغداد وإيران وتركيا وبعض قوى الكوردية داخل الإقليم وخارجه.
لكن على الجانب الآخر، ماذا يفعل هذا المسؤول ومَن معه وأمامهم تحديات جسام، على رأسها: أنين شعبه وضيق حاله من الأوضاع الاقتصادية الصعبة للغاية في ظل التراجع الكبير لأسعار النفط، والانتهاك الصريح والمتكرر من قبل مسؤولي المركز للدستور العراقي، لاسيما المواد المتعلقة بالحقوق الدستورية للشعب الكوردي، فقطعوا الميزانية عن إقليم كوردستان لإفقاره وتجويعه، وعمل بعضهم على إنهاءَ الوضع السياسي لإقليم كوردستان بأي طريقة حتى ولو بدعم داعش بعد أن فتح هذا البعض الباب على مصرعيه لداعش باحتلال غربي العراق منذ أغسطس/آب 2014م. كما تفاقمت الصعوبات أكثر أمام إقليم كوردستان بلجوء ما يزيد على مليون ونصف من سوريا وغرب ووسط العراق إلى إقليم كوردستان فرارًا من داعش؛ طلبًا للحماية والأمان والغذاء، ولم يتخل الكورد – حكومة وشعبًا – عنهم، بل آووهم كما آوى الأنصار المهاجرين.
كل ما سبق يتم والكورد بالأساس تتدغدغ مشاعرهم القومية التي لم تتحقق بعدُ وقد مرّ قرنٌ من الزمان ضحوا فيه بالغالي والنفيس، فلا يخلو بيت من بيوتهم إلا وذكرى الشهيد تلوح في أرجائه. كما أنهم يرون التأزمات السياسية والاقتصادية المستمرة في بغداد والتي لا تنقطع داخل البيت الشيعي/الشيعي في ظل ضَعف الجانب السُّني العربي، فلا تكاد تنتهي أزمة إلا وتأتي أكبر من أختها، والخاسر الأكبر هو العراق نفسه. وعليه: لايزال يتسائل الكوردي ومن يعيش معه في إقليم كوردستان من المكونات الأخرى: إلى متى يظل هذا الحال البئيس؟! فلا سياسيو العراق في بغداد قادرون على الأخذ بيده، ولا هم يقبلون الاستماع للنصائح الكوردية، وأمست البلاد ميدانًا لسباق التدخلات الإقليمية والخارجية، وعدم الإنصات إلى مقترحات بعض الدول العربية المحورية!.
*الكاتب أستاذ جامعي مصري متخصص في شؤون الشرق الأوسط