فؤاد حدَّاد أشعرُ الشُّعراء
أحـمـد الـشَّـهـاوي
ahmad_shahawy@hotmail.com
أحببتُ فؤاد حدَّاد ، وأنا ما زلتُ في قريتي كفر المياسرة طفلا ، إثر إنصاتي اليوميِّ والمُتكرِّر لعمله الشِّعري الفريد معنًى ومبنًى ” المسحراتي ” الذي كان يؤدِّيه ويلحنه الموسيقار سيد مكاوي ، وقد كتب حدَّاد ثلاثين نصًّا منه سنة 1964 ميلادية ، ثم كتب ثلاثين نصًّا آخر سنة 1968 ميلادية ، وكذا مثلها سنة 1973 ميلادية ، وكل ذلك صدر في كتابٍ شعريٍّ خاص ، ولا أتصورُ أن مصريًّا واحدًا لا يحفظ هذا المقطع ، ويردِّدهُ بشغفٍ وإعجابٍ من فرط السيولة والسهولة والتكثيف :
” اصحى يا نايم
وحد الدايم
وقول نويت
بكره ان حييت
الشهر صايم
والفجر قايم
اصحى يا نايم
وحِّد الرزَّاق
…
المشي طاب لي
و الدَّق على طبْلي
ناس كانوا قبلي قالوا ف الأمثال
الرجل تدب مطرح ما تحب
و أنا صنعتي مسحراتي في البلد جوَّال
حبيت ودبيت كما العاشق ليالي طوال
وكل شبر وحِتَّة من بلدي حِتَّة من كبدي حِتَّة من موَّال ”
ومسحراتي فؤاد حدَّاد كعملٍ شعريٍّ سيبقى طويلا ليس في ذاكرة الشَّعب المصري ، ولكن في ذاكرة المتنِ الأدبيِّ ، لبنائه وشعريته وبساطته ، واستنهاضه الوعي ، وإيقاظه الحرية المفقُودة والمُستلبة ، حتى يظن من يقرأه أنه يستطيع الكتابةَ مثله .
وقد قدَّم سيد مكاوي عملا آخر لفؤاد حدَّاد قرأته أولا ، قبل أن أسمعَهُ بعد ذلك عبر إذاعة الأغاني كل يوم جمعة ، هو ” نور الخيال من صُنع الأجيال في تاريخ القاهرة ” ، و ما زال يُعاد حتى أيامنا هذه ، بوصفه أحد أبرز وأندر كنوز الإذاعة المصرية ، ولا أنكر أنَّ الموسيقى والغناء قد حملا شعر فؤاد حدَّاد إلى الجماهير العريضة عبر أصوات وألحان : سيد مكاوي ، والشيخ إمام ، وأحمد منيب ، وأحمد الحجَّار ، ووجيه عزيز ، وأصوات : محمد قنديل ، ومحمد منير ، وعلي الحجَّار ، ومحمود الجندي الذي قدَّم ألبوما غنائيًّا كاملا من أشعار فؤاد حدَّاد (1928 – 1985ميلادية ) ، ومحمد عزت ، وسيمون ، وسواهم من المطربين والفرق الغنائية الجماعية .
وفؤاد حدَّاد كأغلب الشُّعراء الكبار الحقيقيين تخشاهم السلطات والسلطان ، ولذا يعانون في حياتهم من التهميش والنفي والإقصاء والمُطاردة والتجاهل والإبعاد من وسائل النشر والإعلام والجوائز والمِنح والاهتمام والوظيفة اللائقة ، وفؤاد حداد الذي عاش سبعة وخمسين عامًا ، سُجِنَ ثماني سنوات في عصر جمال عبد الناصر من 1953 إلى 1956 ميلادية ، ثم من 1959إلى 1964 ميلادية ، والمدهش أنه عندما مات عبد الناصر كتب حدَّاد قصيدته الطويلة التي صدرت وحدها في كتابٍ هو ” استشهاد جمال عبد الناصر ”
زُرتُ فؤاد حداد مرَّات قليلةً في بيته بصحبة صديقي الشاعر الراحل عمر نجم “1956- 1995ميلادية ” ، الذي أهدى إلى حدَّاد قصيدته ” أغنية إلى فؤاد حدَّاد ” ، بوصفه أحد أبرز آبائه الشِّعريين ، كما أنه كان مُتشبِّعًا بالفكر السياسيِّ والعروبيِّ ، مثل حدَّاد الذي كان شيوعيا عتيدا ( سُجِنَ مع محمود أمين العالم ، وسعد كامل ، ومحمد سيد أحمد ، ولويس عوض ، وصلاح حافظ ، وعلي الشريف ، ورفعت السعيد ، و زكي مراد ، وحسن فؤاد ، وزهدي العدوي ، و… )
وبحُكم أنَّني كنتُ وافدًا جديدًا على القاهرة ، ولم أستقر فيها نهائيًّا إلا بدءًا من مايو 1983ميلادية ، أي بعد تخرُّجي في قسم الصحافة بكلية آداب سوهاج جامعة أسيوط ، فلم أكُن من المُتردِّدين الدائمين على فؤاد حدَّاد مثل أصدقائي الشُّعراء : أشرف عامر ، ومحمد كشيك ، وعمر الصاوي ، ورجب الصاوي ، وأيمن عامر ، وحسين حمودة ، وماجد يوسف ، وعمر نجم ، ومحمد بغدادي ، وهشام السلاموني ، والقائمة تطول ، وجميعهم يكتبون شِعر العامية ، بينما أكتبُ الفصحى ، لكنَّني لم أكُن يومًا من المُتعسِّفين بشأن اللغة التي يكتبُ بها الشَّاعر شعرَهُ ، فالغيرة على اللغة العربية ، وحراستها من ” الأعداء ” ، لا تعني أبدًا نفي أو إقصاء أو تجاهُل ما يكتبه الشُّعراء بالعامية ، لكنَّ الواقعَ الأدبيَّ الذي نعيشه يقول غير ذلك ، فما لغة قريش سوى إحدى لهجات الجزيرة العربية الأكثر فصاحةً ” التي التزم بها الشِّعرُ والنثرُ المكتوبُ وكرَّسها القرآن … ” حسبما يرى الدكتور صلاح فضل في كتابه ” شعر العامية من السوق إلى المتحف ” الدار المصرية اللبنانية 2019 ميلادية .
وكل واحد ممن جلس إلى فؤاد حدَّاد من الشُّعراء أفاد منه بشكلٍ أو بآخر ، وأخذ جُزءًا من طريقتِهِ في الكتابة ؛ لأنَّ حداد شاعرٌ كونيٌّ ، إنسانيٌّ ، مُستشرفٌ ، مُتنبِّئٌ ، واضحُ الرؤية ، يؤمنُ بالكتابة الجديدة ، بل يمكن القول إن الأجيال الطالعة خلقته ، وقد وصفه صلاح جاهين بأنه ” شلَّالُ شِعْرٍ ” ، وقال أيضا : ” إن فؤاد حداد أشعر مني لكنني أشطر منه ” ، ومن يصدِّق أن جاهين كان يكتب شعرًا بالفصحى ، ولمَّا قرأ الديوان الأوَّل لفؤاد حداد غيَّر لغته ، ووجهته وصار يكتبُ بالعامية .
شعرفؤاد حدَّاد شبيهٌ بسلوكه والعكس ، حيثُ عاش شاعرًا في كلِّ تفاصيله ، صاحُب ثقافةٍ فرنسية واسعة منذ طفولته ، إذ اعتادت أسرته أن تتكلَّم الفرنسية في البيت ، كما أنهُ ابنٌ كبيرٌ للثقافة العربية والشِّعْر العربي في مختلف عصوره ، ولما أسلم وهو في السجن صار صوفيًّا وزاهدًا ومستغنيًا ، ولما أصابته جلطةٌ ظل يكتب شعرًا حتى اليوم الأخير في حياته .
عاش حداد متمرِّدًا في شعره وسلوكه ، لم ينحن أو يطأطئ رأس رُوحه :
” مســحـراتى قديم جديد
مـنـقـراتى خفيف شديد
فاتح مدارس ساعة السُّحور
وطبلتى طبلة حضُور
خدت الثقافة على أساس
ان الثقافة كُتب وناس
قريت لطه وللحكيم
ولعم بيرم وللنديم
ومن المعرَّة على بولاق
أبو العلا من أبو العلاء ”
فؤاد حدَّاد صاحبُ خطٍّ جميل ، وكان يقول : إن المدرسَ الوحيدَ الذي دخل بيتهم ، كان هو مدرس الخط العربي ، لأنَّ أباه سليم أمين حدٌاد – الذي كان يعمل أستاذًا في الرياضيات المالية بجامعة فؤاد ” جامعة القاهرة الآن ” – كان يريد لابنه أن يكون عارفًا بالعربية وأسرارها ، ( سينجب فؤاد حداد ثلاثة أولاد وسيطلق اسم أبيه على الأكبر واسم جده على الثاني ، أما الثالث فسيسمِّيه حسن ) .
فؤاد حداد الذي تغيَّر شعرُه بعد خروجه من السجن ، وخلق أشكالا جديدة في الشِّعر ، حتى أطلق عليه عبد الرحمن الأبنودي ( 1938- 2015 ميلادية ) لقب ” الإمام ” ، ورثاه في قصيدةٍ طويلةٍ ، منها :
” إنت الإمام الكبير.. وأصلنا الجامع
وانت اللى نِقبل نصلى وراك فى الجامع
إن تمدحوا الشعر بامدح سيرة الشاعر
واشهد بإنّه الصبور.. العارف.. الطاهر
«فؤاد» ما قالشى فى يوم.. المُرّ مالُه مُرّ؟
متبوع.. وليه تابعين.. عمره ما كان تابع.
كل القصايد بتتبع فى الأدان صوتك
لا يغير الأمر لا غيابك ولا موتك ”
كان فؤاد حدَّاد يؤمن بالتخطيط المسبق للنصِّ ، وكانت شغلته اصطياد القوافي ، ولعلَّهُ من النادرين بين الشُّعراء الذي كان يمتازُ في هذا الجانب ، وكنتُ أعرفُ أنَّه يسجِّل في كراسةٍ الكلمات التي يمكن أن تُعينَهُ في قوافي قصيدته ، بل إنه كثيرًا ما كان ينطلق من قافية ما أعجبته ليكتب قصيدة .
قال لي خيري شلبي (31 من يناير 1938 – 9 من سبتمبر 2011ميلادية ) : إنه كان يكتبُ الشِّعْر ، ولمَّا التقى فؤاد حداد واقترب منه توقَّف عن كتابة الشِّعر ، وذهب نحو القصَّة القصيرة والرواية ، وكان يراه أشعر الشُّعراء ، ويقيس موهبة أي شاعرٍ على مقياس حداد .
كان فؤاد حدَّاد يحتفي ويحتفل بكلِّ شاعرٍ جديد يؤمن به ، فقد أهدى قصيدة إلى الشاعر محمد كشيك .
كما أنه امتدح الشَّاعر أشرف عامر شعرًا وكان وقتذالك في الثامنة عشرة من عمره :
” عندك أشرف عامر عود
الصباحية والعنقود
وعيونه العرقانة شهود
قلب بيجري تحت النصل
أرض بتبكي من التفريق
والوراريق بيغنوا لمصر ” .
بل إن صلاح جاهين عهد بابنه الشاعر بهاء جاهين إلى فؤاد حداد ؛ كي يتعلم الشعر في مدرسته .
فؤاد الذي أراد أن يسقى الكائنات جميعها الشِّعر ، كان مُحبًّا وودودًا وحميمًا ومخلصًا لحرْفِه ووفيًّا لقصيدته ، مقدامًا خجولا في الحياة ، لكنَّهُ كان جريئًا وجارحًا في التجريب والتجديد والإضافة .
ومن يصدقُ أن فؤاد حدَّاد شارك أحد رفقاء السجن كتابة كتابٍ شعريٍّ ” الشاطر حسن ” مع متولي عبد اللطيف الذي يعيش في شربين بمحافظة الدقهلية راعيا طيوره المغردة بالوجع والشعر ، في تجربة نادرًا ما نجدها بين الشعراء بحُكم أنَّ الشِّعرَ نشاطٌ فرديٌّ ، وليس عملا جماعيًّا ، لكنه أراد وقتذاك أن يغامرَ في تجربةٍ جديدةٍ .