يعرف “الخصاء” بأنه سل الخصيتين ونزعهما وقد يستعمل للدلالة على استئصال العضو الذكري أو العضو الأنثوي ويفضل هنا كلمة “بتر ” وفي المستوى النفسي لا يعني الخصاء إزالة الخصيتين أو العضو الذكري أو الأنثوي بالمعنى التشريحي بل يعني ذلك فحسب فقدان العضو الذكري أو الأنثوي في مستوى المتخيل إذا ما إضطرب الرمزي ومن ثم يضطرب إدراك الواقع فيكون الخصاء هنا دلالة مجازية أو استعارية لواقع نفسي امتنع عليه النشاط الجنسي إذ إن الموقف المعيش إنما هو موقف داخلي يرتبط بعقدة الخصاء ( ). ومن هنا كان اهتمام التحليل النفسي بهذه العقدة ودورها في عملية نمو الطفل والمعاناة من المرض النفسي فيما بعد، أما عقدة الخصاء فتشير بحسب رؤية المحلل النفسي “سامي علي” بأنها تدل على الخوف اللاشعوري من فقدان الأعضاء التناسلية عقاباً على إتيان الفرد بعض الأفعال الجنسية المحرمة أو شعوره ببعض الدوافع الجنسية تجاه موضوع محرم والخوف من الخصاء ينشأ نتيجة لوجود الموقف الأوديبي، ومن هنا يوجد ارتباط بين الموقف الأوديبي المستمد من أسطورة أوديب وعقدة الخصاء ( ). ولهذا وجدنا “سحر” بطلة رواية “ذكرة التيه” للدكتورة “عزة رشاد” تعاني من آثار الخصاء أو البتر الذي يستخدم في عملية الختان منذ تلك الواقعة الحاثة الصادمة ، حيث شعورها بالنقص وفقدان جزء من جسمها وما يستتبعه ذلك من سلوكيات البحث عن الحب المتوهم لمواجهة الشعور بالقلق المصاحب لها من طفولتها حتى رشدها ولهذا تخبطت كثيرا في حياتها وفي علاقاتها مع الجنس الآخر وفي محيطها الأسري حيث اضطراب العلاقة مع الوالدين والأخوة مع بقاء قدر من الاحترام والحب، والعائلي حيث اضطراب العلاقة مع الاخوال والاعمام وأولادهم، والاجتماعي حيث شيوع بعض الشائعات التي أدت بابتعاد حبيبها المبكر عنها ، والذي سوف تبحث عن حب بديل له طوال الرواية فقد فقدته تماما عندما غادر المكان ورحل بعيدا، كما أدى ذلك الختان / الخصاء لاضطراب علاقتها بزوجها وعدم اكتمالها كأمرأة وتم الطلاق بعد سنتين، ثم الرغبة في العيش وحيدة بعيدا عن الأسرة بعد أن وجدت عملا يساعدها على تحقيق ذاتها في النهاية.
من الذات إلى الموضوع :
ما لا يمل منه قضيتان تتعلقان بعالم عزة رشاد الإبداعي هما العودة الدائمة لديها لاستحضار روح التاريخ ، والتعبير القهري عن الذات في شخصيات أعمالها القصصية والروائية ، ولكن هناك عدة قضايا فكرية وعلمية وثقافية – مثل العدل والحرية وحقوق المرأة والعلاقة بالحداثة والموقف من التراث والتقاليد المصرية بوجهيها الريفي والمديني الخ.. – تشغل بالها طوال العمل الابداعي ومن هنا ستكون بداية الذاتية حيث تتماهى المؤلفة مع موضوعها فقد أخبرتني عن نفسها في حواراتي معها بهذا الذي جاء بالرواية حول نشأتها وتكوينها الأسري وهي تتحدث عن بطلة الرواية “سحر” :”عرق ريفي وآخر مديني ظلا يتقاسمان دمي.. يتنازعان حيناً ويستسلمان للهدوء أغلب الأحيان، كان لابد أن تكون هذه البلدة بلدتي “كنت أسميها عاهتي”، كانت شيئاً مختلطاً هجيناً لا هي قرية ولا هي مدينة، لكنها كانت قادرة على احتواء أبلغ التباينات، ماذا حدث الآن؟ زميلنا الذي أعد مجلة عن القتال الدائر بشوارع بيروت، خاف أن يناله عقاب إحدى المجموعات أو يواجه بالفصل من الكلية، حمل أوراقه ورحل. نسبة كبيرة من البنات رفضت المجيء للمحاضرات خوفاً من الاحتراق برشاشات تندفع من بين الشفاه.. فكل الأسلحة كانت مشهرة. وكم كان سيصبح مثيراً السخرية أن أحكي عن طوائف من الصناع الآسيويين كانوا يضيفون القصدير للنحاس لينتجوا البرونز ويصبون آنية من الفخار وهم يعيشون في أمان مع مصريين ينقشون الذهب والجعارين وينسجون الكتان ويبادلون الحبوب بحرائر مدهشة، يحملها بحارة يونانيون في عباب البحر، ثم يعودون ليحدثوا معلميهم عن معنى الخلود في زخائر البردي. كانوا سيعتبرونها أقوالاً للاستهلاك المحلي. كان لابد من طريقٍ آخر يا أبي! يبدو أننا لم نكن نمتلك الاهتمام الكافي لاكتشافه حتى تلك اللحظة( )”. ويحدث ولع واستغراق في التاريخ القديم لدى المؤلفة في كل أعمالها مما جعل والد البطلة مدرسا للتاريخ واستشهادها دوما بأحداث تاريخية منذ المقطع الأول بالرواية :”انتقاماً لمقتل ابنه في أثينا، شيد مينوس ابن زيوس أكبر آلهة الإغريق تيهاً عظيماً بكريت، وفرض على ملك أثينا أن يرسل إليه كل تسعة سنين جزية مقدارها سبعة من الشبان ومثلهم من العذارى، يقدمون ضحية إلى “مينوتور” وهو مارد في صورة ثور ذي رأس ضخم وضعه مينوس في التيه.
ذات يوم، عزم “يثيسوس” ابن “ايجيوس” على أن يذهب إلى كريت ويذبح المارد ليقضي على وصمة العار التي ظلت عالقة بمدينته لسنوات طويلة”.
وتستمر المؤلفة في غواية التاريخ فتقول: ” على هذه الأرض قبل قرون طويلة سيأتي فلاح بسيط من حقل الملح يصيح ليشكو فساد كبار الموظفين:
ـ هل يخطئ الميزان؟ إن إقامة العدل هي نفَس الأنف.
ويؤخذ الملك بفصاحته النادرة التي تصور المبادئ المعنوية بمواقف ملموسة “قبل أن يأتي ذلك في أقوال عيسى عليه السلام بأكثر من ألفيّ عام”، فيأمر بتأجيل البت في شكواه ليكون ذلك مصدر خطب بليغة ستجمع في ملف البردي، لتبقى كأفضل نصوص الأدب المصري القديم، وتبقى شاهداً نزيهاً على بزوغ فجر الضمير الإنساني لدى أجدادنا قبل أن نتخيل. ولكن في مجمل التاريخ الإنساني، وفي أغلب الحضارات تبقى اللحظات المضيئة شحيحة في السماء الداكنة للبطش الإنساني.
إن لب الموضوع في “ذاكرة التيه” للأديبة المرموقة د.عزة رشاد هو شعور امرأة غير مكتملة تبدأ به الدكتورة عزة رشاد صفحات الرواية فتقول:” سعادتك التي تصبح مغدورة فقط في تلك اللحظة، حين يغشاك الشعور القاتم، بأنك امرأة غير مكتملة”. وسنظل نبحث طول الرواية عن الأسباب والدوافع التي جعلت سحر امرأة مكتملة ، فتفرض الذاكرة اجبار للتكرار الذي ينتقي ذكريات معينة ومحددة لأحداث صادمة ومؤلمة تصبح بعد ذلك أحد أهم اسباب صراع الاقدام الاحجام الذي كسى شخصية بطلة الرواية: ” حكايات أمي وخالي لن تستثير ذاكرتي العنيدة التي اعتادت أن تفعل بي ما تشاء. آه من تلك الآلة العجيبة في انتقائيتها وتلاعبها.. أكانت تتآمر عليّ أم تتآمر معي حين لم تبقِ لي من سنواتي الأولى هنا سوى نقطة محدودبة على نفسها، كأنها بؤرة متوهمة في مرآة لا تعكس سوى الدخان ورائحة الحريق؟ لماذا لم تهبني مشاهد حميمة، متدفقة كما كنت أتوقع؟ كما كنت أخشى؟ هل ثقل الذكريات أم نضبها هو الذي أتلفها؟ هو ما جعلها ذاكرة مطموسة؟ أم أن تواتر الأحداث القريبة هو الذي أعياها وأعياني معها؟ ألوح للسفن الغريبة ولكل العابرين.. جدتي، منتصر، ونادر أيضاً.”
الذاكرة المدهشة:
ويعد المخ البشري كيانا مثيرا للدهشة ، فهو عالم خاص مليئ بعدد غير محدود القدرات الهائلة والأسرار الخفية ، وهو دائما ما يتشكل ويعيد تشكيل نفسه نتيجة للخبرات التي يمر بها ، ويثار حول العقل البشري الكثير من التساؤلات مثل : كيف يتكون ، وكيف يستطيع اكتساب الخبرات والتجارب المختلفة ، وكيف يتوقف الزمان بداخله حتى نسترجع الماضي وتصور المستقبل من خلال الذاكرة، فالانسان بدون ذاكرة لا شيء وبدون هوية أيضا، فسلسلة الأحداث المترابطة وامتداد الماضي في الحاضر واستشراف المستقبل هو ما يشكل إنسانية الانسان بل يمكن القول إن تحصين الانسان ضد الموت والتلاشي رهين بما نحتفظ به في ذاكرتنا من مواقف عشناها ، رغم مضيها، بحرارة الحاضر، ولعل فعل الكتابة نفسه إنما هو بغاية تفعيل الذاكرة وترسيخها ونقل تجاربها من الاجيال السابقة للاجيال اللاحقة بغاية مراكمة التجربة الانسانية من حيث هي تاريخ يمتد بعيدا ويترسخ في الوجدان والتجربة الجماعية،،، ويمكن القول مع جون لوك بأن الهوية الشخصية الواسعة، تقوم على ادراك الاحساسات، والوعي بذلك الإدراك في كل زمان ومكان، الأمر الذي يجعل من الذاكرة مقوما أساسيا لقيام تلك الهوية، وهناك أهمية للذاكرة في بناء شعور الشخص بهويته لأنها تربط حاضرنا بماضينا، وتختزن كل التجارب التي نمر منها في حياتنا( ). فتؤكد ذلك د.عزة رشاد بقولها:”أما أبي فكان قد عرج نحو تيه آخر.. بناه مينوس ابن زيوس أكبر آلهة الإغريق انتقاماً لقتل ابنه في أثينا التي فرض على ملكها أن يرسل إليه كل تسع سنين جزية مقدارها سبعة من الشبان وسبع من العذارى يقدمون ضحية إلى “مينوتور” وهو مارد في صورة ثور ذي رأس ضخم وضعه مينوس في التيه”.
وتُعدّ الذاكرة الحسية الجزء الأول الذي يقوم على عملية استقبال المعلومات، والمدخلات الحسيّة من العالم الخارجيّ، والتي يتم من خلالها استقبال الكم الكبير من خصائص المثيرات الخارجية التي يتفاعل معها الإنسان من خلال الحواس الخمسة، حيث يختص كل مُستقبل حسيّ بحسب وظيفته بملاقاة المثيرات المختلفة، ويقوم باستقبال الخبرات الحسية بموجبها، فالمستقبل الحسي البصري يعمل على استقبال الخبرات البصرية على هيئة خيالات، والمستقبل الحسيّ السمعيّ يعمل على استقبال المثيرات السمعية على هيئة أصداء وهكذا. أمّا الدور الأساسي لهذه الذاكرة فهو نقل صورة العالم الخارجيّ بجميع مُدركاته، ومحتوياته بشكل دقيق، أي أنّها عملية تمثيل للواقع الخارجيّ بشكل متطابق وحقيقيّ، حيث إنَّ ما تختزنه هذه الذاكرة هو الانطباعات، أو الصور التي تعبّر عن مثير خارجيّ معين، وتتميز المستقبلات الحسيّة في الذاكرة الحسيّة بسرعتها الكبيرة في نقل الصور الخارجية للعالم الخارجيّ، والقدرة على تكوين الصورة النهائية لتصورات المثيرات المختلفة، وبالتالي المساعدة على تحقيق السرعة في الاستجابات السلوكية التي تلائم هذه المثيرات. أمّا في علم النفس فقد تم تعريف الذاكرة على أنّها الإمكانية التي يتم بموجبها تكييف السلوكيات بما يتناسب مع الخبرات التي يمر بها الإنسان، ومن الممكن تعريفها بشكل أوضح على أنّها عملية عقليّة معرفيّة تعمل على خزن، وحفظ المعلومات، والخبرات والمواقف المختلفة التي يمر بها الإنسان ويتعلمها؛ وذلك بغرض استعادتها واسترجاعها عند الحاجة لها، ويقوم عمل الذاكرة على استعادة المعلومات المطلوبة بعد فترة من الزمن سواءً كانت طويلة أو قصيرة، ومن المهم ذكره أنّ مفهوم الذاكرة ذو معنى أشمل من مفهوم عملية التذكر، فعملية التذكر تشمل العمليات والنشاطات التي تقوم بها الذاكرة( ) وادق تعبير عن ذلك عندما عبرت المؤلفة عن التخيل ونشاط التذكر بقولها :”في القاعة المظلمة تنفتح الشاشة على الحدود اللانهائية للمخيلة، تلك المعجزة التي لا يتصورها أحد، وحيث أكون لازلت ملتصقة بمقعدي الملتصق بالأرض ستأتي مجموعة من التنانين المجنحة لتحملني فوق مركبتها وتنطلق بي في الفضاء ، إلى حيث تحلق روحي برحابة مخيلتي، ويحتويني السحر الآسر للصور الناطقة، ينقذني من فقر الحياة المُعاشة ومن إنشائية أبي”..
وسنكتشف مع تقدمنا في قراءة الرواية أن سحر تعاني من آثار صدمة نفسية هي عملية الختان التي تجرى كل يوم للبنات في مصر ، وهي عملية جرمها القانون مؤخرا وتترك أثارا نفسية ممتدة لدى البنت عندما تصبح امرأة لا يكتمل لديها الاشباع الجنسي ، فالصدمة النفسية يمكن أن تفقدك لذة الحياة وتجعلك تعيش في قلق دائم، تعيش مع ذكريات ومشاعر مزعجة للغاية ولا تستطيع أن تتخلص منها، تشعر معها بالانفصال عن الواقع أحيانًا، ولا تستطيع أن تثق بالآخرين، هذا الأمر قد يستغرق بعض الوقت للتغلب على الألم والشعور بالأمان مرة أخرى، ولكن مع الدعم النفسي الذي يقدم لك واستراتيجيات المساعدة الذاتية يمكن تسريع التعافي، وتستطيع أن تمضي قدما في حياتك.
الصدمة النفسية:
إن بعض السلوك الصادر منا في حياتنا ونحن كبار قد يرجع إلى مرحلة الطفولة، وقد يكون ذلك ناتج عن الطرائق التي يتفاعل بها مقدموا الرعاية معنا، أو العلاقة بينهم، كل ذلك يشكل رؤيتنا للعالم من حولنا، وبدوره سيؤثر على ثلاثة هياكل أساسية: إحساسنا بذواتنا، والطريقة التي نتواصل بها، وكيف نشكل العلاقات. وإذا لم نسعى بشكل جيد للوعي بسلوكياتنا فعادًة ما نكرر هذه الأنماط نفسها في الكبر، فإذا كنت تعرضت لصدمة في طفولتك ربما لا تشعر بالأمان طوال الوقت، وربما تعيش صراعًا بين الإقدام والإحجام، إعلم أن هذه كلها احتمالات طبيعية( )، وهنا أصاب سحر صراع الاقدام الاحجام “حاولت أن أحبه، فانتصبت بداخلي لافتة “ممنوع الاقتراب” التي أحفظها عن ظهر قلب، أعرف جيداً كيف تنتصب داخلي، صلبة، باردة، تعجزني عن للتقدم. ربما لم أكن مهيأة للحب بعد. لذا ابتعد في مخيلتي سريعاً عن موضع الحب، بقيت فقط أساعده على البوح، وأصغي إليه باهتمام وسعة صدر، محاوِلة أن أدفع بشفقتي حتى حدها الأقصى، متمنية أن تصير حباً لكني اكتشفت أن الحب لا يولد من أجناس شعورية أخرى. هو أيضاً لم يرحب بمعاونتي، بدا لي أن التراوح بين المشاعر المتأججة فوق فراغ الورق وتلك الخاملة حينما. نلتقي بالجامعة، التراوح بين التدفق والانحسار كان حيلة نفسية لا أكثر لإزاحة قلقه الفعلي بخلق موضوع جديد للقلق، حيلة أتقنها في الغالب دون وعي، مثلما أتقنت أنا الأخرى لعبتي، بقيت عالقة مرة أخرى في انتظار أن تعبر الأزمة من تحت قدميْ.
إن صدمة الطفولة مصطلح شامل يشير إلى أي تجارب مؤلمة قد تكن تعرضت لها عندما كنت طفلًا، ومن أمثلة تلك التجارب المؤلمة التي تؤدي إلى صدمات الطفولة: “انحنت أمها مقتربة منها ثم ألقت في أذنها ببضع كلمات، أومأت الصغيرة بالطاعة دون أدنى ارتياب بكلمات الأم “تلك هي الثقة”، سأراها بعد ذلك تتجه للحمام وتغلق عليها بابه وحين تعود سيكون أبوها بانتظارها، يتقدم منها دون أن يبتسم ويرفع فستانها، “يتضح في تلك اللحظة أن جسمها تحت الفستان كان عارياً.. كما أمرتها أمها”. يثنى أبوها ركبتيها ويحملها مثل ضفدعة مقيدة بين يديه حتى يلقي بها فوق سرير بالغرفة المجاورة، سيفاجئها وجود رجل غريب.. غريب يقترب منها، ملامحها تشي بالخجل من وجودها أمامه على تلك الحال، لن تشي بالخوف لأنها فيما يبدو لم تر ذلك الشيء الحاد الذي كان يخفيه بين أصابعه، ستغيم الرؤية لبضع دقائق حتى نراهم يعيدونها إلى فراشها مشبعة بالدموع. تشيح بوجهها بعيداً عن أمها التي راحت تطبطب عليها ثم تركتها وأغلقت عليها الباب لتنام. عيونها الممتلئة بالألم والخزي لن تنام. “كيف فعلوا بي ما فعلوا؟ هذا عيب، هذا ظلم لم يفلح طاجن الحمام بالفريك الذي قدمته لها أمها أن ينسينيها إياه، الإحساس بالألم والظلم تجاوزته بالتأكيد، لكن الشعور بالإهانة سيرافقها لفترة طويلة”.
إن جوهر هذه الصدمة يتمثل في ذكريات الحدث الرئيس، حيث يظل المشهد والصوت وصرخات الضحايا، أو الصمت المفاجئ، وأصوات سيارات الإسعاف والشرطة، تظل جميعها حاضرة في الإدراك الحسي. إنها ذكريات تلهب الدائرة العصبية المسؤولة عن الانفعالات، فتدفع ذكريات لحظة الصدمة دفعًا للاستمرار واقتحام الوعي، فتصبح ذكريات الصدمة على استعداد للانطلاق في لحظة إشارة إلى أن اللحظة المفزعة على وشك الحدوث مرة أخرى، هذه الظاهرة سمة مميزة لجميع الصدمات العاطفية بما فيها المعاناة المتكررة من الإيذاء الجسدي في مرحلة الطفولة وهذا هو ما عانت منه سحر طويلا :”عندما تتوغلين في ذاتك، ستعرفين أن العلة لم تكن فقط في جزءٍ مبتور، بل في آلية البتر ذاتها التي مارسوها على أنفسهم قبل أن يمارسوها عليكِ ويجعلوكِ تمارسينها على نفسك أيضاً، تلك الآلية ستتسلل لتختبئ داخلك، تبقى مستترة ساكنة لفترة طويلة ثم تبرز فجأة لتختطف إرادتك وسعادتك.. انتقاماً منكِ أم منهم؟ سترين بنتاً تقدم أوراقها في دراسة لا ترغبها، يأمرونها أن تقطع صلتها بالولد الذي كان كل شيء لها فتذعن، يرهبونها أثناء فرز الأصوات الانتخابية فتهرب وتهرب.. من كل من أحبوها أو كان من الممكن أن يحبونها، وكان من الممكن أن تحبهم أيضاً.
ونظرًا لأننا نعيش الحياة بطرائق مختلفة فإن ما قد يكون صادمًا بالنسبة لك قد لا يكون كذلك بالنسبة لغيرك، حيث يرجع ذلك إلى كيفية إدراكك للموقف وما تشعر به، فإذا كان الأطفال يحصلون على الدعم الكافِ والرعاية فنادرًا ما يتعرضون لأعراض ترتبط بالصدمات النفسية، ومن ناحية أخرى فإذا كان الوالدان أو مقدموا الرعاية هم مصدر الصدمة، أو لم يقدموا الدعم الكافِ للأبناء فإن الطفل سوف يعاني من آثار سلبية ناتجة عن هذه التجارب، أضف إلى ذلك أن الصدمات قد تكون مركبة ومعقدة إذا تعرض الطفل إلى أحداث وتجارب مؤلمة بشكل متكرر وعلى مدى فترة من الزمن. هذه الصدمات التي تحدث في الطفولة تؤثر على العلاقات فيما بعد لأن الروابط العاطفية نتعلمها في وقت مبكر من حياتنا، لذلك عندما يكون الأذى من شخص من المفروض أنه مصدر الأمان ونعتمد عليه في بقائنا في هذه الحياة فإن ذلك يكون له تأثير كبير على رؤيتنا للتواصل البشري( ).
إن ما أصابوه في تلك اللحظة لم يكن فقط جزءً من جسمي بل الثقة المطلقة التي يمنحها تلقائياً واستثنائياً كل طفلٍ لأبويه، أضاعوا الشعور المطلق بالأمان في كنفهم. فعلوا ذلك بصورة ليست أقل ضراوة من الحرب، التي ألقت بي في ظلمة شاحنة تتدحرج في أحد أخاديد الأرض، ما أن أستغرق في النوم حتى يوقظني ميلها ووشك سقوطها لأي اتجاه ووشك الموت أيضاً.
إن من فعلوا بي ذلك ليسوا أبويّ وحدهما، فوراءهما إرث بغيض.
في ذلك اليوم ضاعت الثقة التي لن يستر غيابها كلمة “مبروك” على تدشين فضيلتك بجرح أبدي، ولا العناق الحار الذي منحتك إياه أمك، الثقة التي ضاعت هي التي قوضت ثقتك بذاتك أيضاً، فأتت خطواتك متذبذبة مهتزة، هي التي خلقت ذلك التوجس والحذر لديك من كل شيء، من كل العالم و حتى من نفسك”.
إن عملية إدراك الفرد للضغوط مسألة نسبية إلى حد بعيد، فقد يتعرض شخصان لصدمة قوية وعنيفة، إلا أننا نلاحظ اختلافًا لاستجابة كل منهما، أي أن ردود الأفعال للضغوط تتوقف على عدد من العوامل تتحدد في السياق الذي تحدث فيه الصدمة، إذ أنه لا توجد علاقة خطية مباشرة بين التعرض لصدمة وحتمية المعاناة النفسية، حيث توجد مجموعة من العوامل الوسيطة التي تلعب دورًا حاسمًا في هذا الموضوع مثل القدرات العقلية، والعلاقة الوالدية، وأساليب التربية، والبيئة و…إلخ ولهذا جاءت المؤلفة ببيان ذلك التحول لدى البطلة قائلة :”جلست منهكة تماماً ومفتتة الفكر.. أفكر في رحيله، في خوائي منه وندمي عليه. تجرفني شكوكي ومخاوفي بكل قسوة.. من إدانته إلى إدانة نفسي، من الرغبة في الانتحار إلى الرغبة في قتله، نعم أقسمت أن أقتله. فتحت صندوق الصور فهاجمتني جيوش النوم”. ويكون لدى سحر قدر من التوافق في مواجهة الصدمات فتقول :” لم أعد أري نفسي المضطربة سوى موجة عابرة فوق مجرى الحياة الدافق، ولم تعد اللوعات ولا الخيبات التي منيت بها تحزنني كما من قبل، وعاد النور لقلبي. البنايات الشاهقة وناطحات السحاب صرت أراها أصغر بكثير مما كانت أثناء حياتي السابقة.
لم أعد أكره الطفلة التي تخشى اجتراح البحر لأني لم أعد أخشى الحياة، فقد صرت أحمل الكون داخلي.
وتقوم المؤلفة باجراء وصف نهائي بل وخلاصة لمغزى الرواية وهدفها وكأن سحر استعادت كل ما فقدته وتخلصت من كل ما أصابها نتيجة الحدث الصدمي الذي واجهته في طفولتها من صراع الاقدام الاحجام وشعورها بعدم اكتمالها كامرأة كاملة الأنوثة وتوصلها لعنى السعادة فتقول :
“ولكن يبقى في القصة أن الحب وحده هو الذي أبقى ثيسيوس حياً، الحب صار الخيط الذي أنقذه من التيه، كما حدث معي عندما رأيتكَ، وتعرفت فيكَ على نفسي، على الحب الذي صار مبرراً حقيقياً لوجودي الذي لم أشعر بقيمته إلا بعد أن عرفت معك السعادة الحقيقية التي تجعل من الشريك شريكاً بالفعل، ومعك وحدك تأكدت أن أقسى ما عانيت هو علة نفسي التي شوهتها أفكار ومخاوف لا معنى لها، ما زال من الممكن أن تهدد سعادتي كلما تركت لها الفرصة، فتجعلني أفر من المرفأ الذي يضم حلمي كأنه كابوس، مؤكدة لي أننا ـ معشر البشرـ بحاجة إلى جهد متواصل، كي ننأى بالمشاعر الدافئة للحب بعيداً عن جبل الثلج”.