التناقض الوجداني :
أعاني ما يعرفه العاملون في ميدان التحليل النفسي عندما أحاول قراءة عمل أدبي لمبدع هو في الأصل صديق أحمل له طرحا إيجابيا – حبا – فعزة رشاد الأديبة ذائعة الصيت ، والطبيبة المعروفة جمعتنا علاقة عمل مبكر في رحلتي في دنيا الأدب والنقد بعد عودتي من فترة عمل خارج مصر ، إذ تجمعنا مجلة الرواية ، وإذ تحتفل في حينها بحصولها على جائزة الدولة التشجيعية في الأدب ، وقد نشرت قبل ذلك روايتها ذاكرة التيه ومجموعاتها القصصية نصف ضوء وأحب نورا أكره نورهان ثم نشرت لاحقا حائط غاندي وبنات أحلامي ، ولقد سبق ونشرت معها حوار مطولا حول تجربتها الابداعية وتناولت عمليها بنات احلامي وحائط غاندي بالنقد النفسي لابطال تلك القصص ، وقد أخبرتني أنها تعد رواية قبيل يناير 2011 وانتهت منها بعد يونيه 2013 وهي فترة حرجة في تاريخ مصر المعاصر وشهد فيما اعتبره الدستور المصري ثورتين كبيرتين الأولى اطاحت بنظام حسني مبارك والثانية اطاحت بنظام الإخوان وكانت المؤلفة مشتبكة مع تلك الأحداث الكبرى وبدلا من أن تكون الرواية معبرة عن تلك الأحداث وجدنا الرواية تتحدث عن بداية القرن العشرين وما به من ثورة اعتبرها المؤرخون أول ثورة شعبية لمشاركة كل اطياف المجتمع في احداثها – ثورة 1919- ، وكأن عزة رشاد هربت إلى ذلك التاريخ لما بين ذلك الزمان وتلك الأيام المعاصرة من تشابه حيث المستعمر الانجليزي والمستعمر الاخواني ومقاومة الشعب لذلك وقمع المظاهرات وسجن الشباب الخ :” يرتعش أحد الشبان الأربعة:
_ انا مااعرفش حاجة عن ده.
_ اخرس.
_ مش ده المنشور اللي .. يتساءل أحد العساكر فيقاطعه مدكور:
_ حرز المضبوطات. منشورات معادية. حبر طباعة. طبنجة ..الآلة الكاتبة فين؟ إنطق.
يظهر عسكري آتياً من غرفة داخلية وبين يديه الآلة الكاتبة. يضحك مدكور ثم يرفع يده:
_ اقبضوا عليهم.
يشعر بانتشاء حقيقي أن يحش هؤلاء الثورجية مثل أعواد البرسيم، هؤلاء الذين يتملكهم الغرور فيظنون أنفسهم أقدر منه، من الباشوات الكبار، من المندوب البريطاني، من ملك البلاد نفسه، على تقييم الأمور ووضع تصورات عن مستقبل البلد، وينبرون في تحريض العامة والغوغاء على المظاهرات والإضرابات الاحتجاجية؛ لن ينسى قط محاولة اقتحام قسم الشرطة حيث يعمل؛ لم يفكر بعدد من قتل ومن أصيب، كان همه الأوحد حماية عتبة القسم، لن يسمح بذلك أبداً، على هؤلاء الأوباش أن يقتلوه أولاً قبل أن يعبروها، لو كان الأمر بيده لكبل هؤلاء السفلة الأربعة الآن وألقاهم على قارعة الطريق ثم هرسهم تحت عجلات هذه العربة التي حشرهم العسكري داخلها مهانين، مكبلي الأيدي، هرسهم الذي يتمناه للأسف لن يفيده”( )..
هنا أعترف بأن تلك العلاقة الطرحية الموجبة تجعلني أتردد لا شعوريا في انجاز ما أقوم به من نقد وتحليل للعمل الأدبي فمثلا لماذا هربت من الكتابة عن شجرة اللبخ وهي الرواية التي عرفتها أثناء كتابة المؤلفة لها من أكثر من ثلاثةعشر سنة، وحضرت الاحتفال بها والندوات الي اقيمت لمناقشتها إبان نشرها في عام 2014 بل وكنت من اوائل من أهدتهم د.عزة هذه الرواية في احتفال معرض الكتاب بالرواية يناير 2014 أيضا، لقد قرأت الرواية واعددت قراءة لها ولم انتهِ منها – القراءة /التحليل – وهنا لابد من البوح بما يعتمل في اللاشعور وهو أن أبطال الرواية يذكروني بطرح أيجابي نحو بعضهم وبطرح سلبي – كره – نحو البعض الآخر، وتناقض وجداني – حب وكره في آن – لبعض الشخصيات أيضا, وأن موضوع الرواية ومكان أحداثها يشيران في لاشعوري ببعض الأماكن والقرى التي عشت في رحابها زمنا طويلا مثل الشجرة وما يقام لها من احتفالات وطقوس وغيره،فقد عشت في مراهقتي محاولة اقامة ضريح لأحد الشخصيات وكيف جرى النعش وبني الضريح وكيف هدمته قوات الشرطة لاحقا تقول عزة رشاد في مفتتح روايتها ما قد عشته فعلا :”ويلمح النعش وهو يسبق المشيعين فيركض الولد ابن الاثني عشر ربيعاً في جلبابه المشلوح بعد أن رأى ما جرى مردداً: النعش طار. تتردد العبارة بسرعة فوق ألسنة النسوة في شوارع وأفنية وحواري القرية، ثم تنزلق الحكايات من بين رذاذ الشنهفة وخيوط المخاط عن نعوش الأسلاف التي طارت، مثل نعش “الشيخ عامر” الناسك الذي اعتزل متاع الدنيا أكثر من عشرين عاماً، وأقام وحيداً في كهفه بقرية “كوم الجمر” المجاورة، دون زوجة أو خادم، مستغرقاً في العبادة والتفكر، لم يعرف أحد من أين يأتيه طعامه وشرابه؟ فقال الناس: يطعمه ربه ويسقيه، حتى وافته المنية فطار نعشه وعجز مشيعوه عن اللحاق به، ومثل نعش “ستنا الندية” السيدة “زهيرة” الذي أبى أن يتحرك نحو المقابر، وأرغم حامليه على التحرك نحو الفلاة حتى توقف عند جبل “العميان” وأرغمهم على دفنها هناك وتشييد ضريح لها، اكتشفوا فيما بعد أنه مجاور لعين ماء سخية، دس صبي من قافلة بدوٍ عابرة عدداً من نوى البلح تحت طبقات الأرض المتاخمة لها، ولما رأوا بنفس المكان في العام التالي نخلتان يفصلهما سبعة أمتار، إحداهما مؤنثة والأخرى مذكرة”. ، ، وكذلك ما أحمله من طرح ايجابي للدكتورة عزة رشاد وللقول بدقة التحليل النفسي للأدب ونماذجه المختلفة من خلال هذا الاستبصار الجديد الذي توصلت إليه، وأفضل ما يعبر عن ذلك هو مفهوم الطرح الذي سبق وذكرته كثيرا ويتم تعريف الطرح بأنه ذلك الذي يكون بين المحلل النفسي والمريض حبا أو كرها وهنا نجد أفضل تجسيد للتخيل ، ومن ثم دعني استكشف الطرح لكي اشير إلى طريقة ممكنة لتصور علاقات التحليل النفسي والخطاب الأدبي. والطرح كما أفهمه ، هو عالم “كما لو ” حيث يُؤْثَر من الماضي ويصبح مستثمرا في الحاضر خصوصا في دياليكتيك علاقة المحلل النفسي بالمريض ، والعصاب تحت العلاج يصبح طرح الاضطراب النفسي تمثيلا حاضرا للماضي ، فقد وضعه فرويد في حالة دورا . فالطرح يعطينا قوالب جديدة أو إعادة طبع وطبعات منقحة للنصوص القديمة.
ويمكن أن يطلب المرء الطرح النصي لأنه وسيلة روائية ومختصة بالعلامات والرموز حيث الرغبات المتسلطة الفاقدة للوعي ، وسيناريوهاتها للتحقيق الطفلي فتصبح رمزية في الحاضر أثناء التحليل النفسي . وخلال الطرح يتم تذكر الماضي إلى أقصى درجة ويحدث كإعادة الفاقد للوعي يؤديه كما لو كان حاضرا فالاعادة تكون طريقا للتذكر استخدمت عندما كان التذكر في الشعور يواجه بالكبت والمقاومة، فإعادة التذكر تكون عقبة للتحليل – منذ وجب على المريض النفسي أن يؤدي إلى تنازله في النهاية لتوليد الماضي – والدينامية الرئيسية للعلاج هي على سبيل المثال تمثيل الماضي في الحاضر يستطيع تاريخ الرغبة الماضية وأهدافه وسيناريوهاته للتحقيق أن تكون معروفة وتصبح واضحة في المقالة الحاضرة فالمحلل يجب أن يعامل كلمات المريض النفسي والافعال الرمزية كقوة فعلية ، فصيغة المعلوم في الحاضر اثناء محاولة ترجمتهم ثانية في مصطلحات الماضي ، ذلك المحلل يجب أن يعمل مع المريض النفسي لمناسبة رغباته الانفعالية في مكانها المناسب في دورة حياته لاستعادة الربط بين الافكار والاحداث التي قد سقطت بعيدا لاعادة توصيل الذكريات المنعزلة ولسحب النتائج التي نتجت عن الترابط كما يجب أن يساعد المحلل المريض النفسي لبناء مقالة قصصية ذات نحو وبلاغة أكثر اقناعا وكافية أكثر لإعطاء تقرير لقصة من الماضي من هؤلاء الذين قُدموا أصلا في شكل عرض من قبل المريض النفسي ، خلاصة هذه المعاناة أنها دفعت لا شعوري الشخصي لتأجيل الكتابة حتى انتهى صراعي تجاه ما يمثله ابطال الرواية لي ، هذه اجابة عن سؤالي عن سر تأخير كتابتي النقدية عن رواية قرأتها عدة مرات ومؤلفة لها مكانة كبيرة في نفسي.
تبدأ الرواية بفهرس يكشف لنا عن أسماء الأبطال في الرواية وليس موضوع الرواية وكأننا أمام الطبيبة التي تفحص المرضى أو الباحث الذي يدرس الشخصية كما في عملنا الاكلينيكي والتحليلي، وبالطبع لن يكون ذلك غريبا على عزة رشاد الطبيبة التي تظهر ملامح شخصيتها وتكوينها المعرفي والعملي والعلمي في كل اعمالها تقريبا كما شرحت ذلك وفصلته في دراسات سابقة عنها. وهنا ايضا وجدنا تلك الملامح من ادوية ووصف لاعراض مرضية وتوصيات وقائية. والرواية هنا تتكلم عن عالم القرية وهذه مشكلة أولية فليس كما يظن بعض النقاد بأن ماضي المؤلفة حاضر في روايتها ، فالرواية التي كان مسرحها احدى قرى محافظة الشرقية موطن المؤلفة إلا انها تؤكد عدم عيشها بالريف ، وبالطبع فنحن نتفق مع القائلين بأن فرويد يتكلم عن نقاد الأدب وأن أروع مقالاته في النقد التحليلي النفسي قد استعان فيها بتفسير الأحلام والميتاسيكولوجي – علم نفس الأعماق – وفيما وراء مبدأ اللذة على سبيل المثال ، وكذلك مقالاته عن الوهم والحلم وموسى ودافنشي وديستوفيسكي ، والمبدعون يعطون رؤى متساهلة للفن مما يسمح لإرنست كريس “أن يصف النشاط الفني كالنكوص في خدمة الأنا” ، حتى الآن قد يكون المقال يسير في الطرق الأخرى حيث يبدأ فرويد البحث عن بعض النشاط البشري الشائع المشابه للكتابة الإبداعية ويجده في حلم اليقظة أو ابتكار الخيالات من ثم يؤكد فرويد على البنية الزمنية النشيطة للخيال التي يتأرجح –إذا جاز التعبير – بينهما ثلاث مرات الثلاث لحظات للزمن الذي يستلزمه تفكيرنا ، فالعمل العقلي متصل ببعض الانطباع الحالي بعض المناسبات المثيرة في الحاضر التي كانت قادرة على أن تثير إحدى رغبات الكامنة، ومن هنا يتذكر تخليدا لذكرى تجربة سابقة – قد تكون عادة طفولية – الذي قد حققت فيه هذه الرغبات سابقا ، ويخلق وضعا يتعلق بالمستقبل الذي يمثل تحقيقا للرغبة الآن. ماذا هو ؟ لذلك نجده يخلق حلم يقظة أو خيال يحمل تقريبا التتبع لأصل المناسبة التي أثارته من الذاكرة، لهذا يكون الماضي والحاضر والمستقبل أوتارا متساوية – إذا جاز التعبير – صيغة عامة للرغبة التي تجرى من خلالهم( ).. ومن هنا نخلص إلى أن عمل خيال المؤلفة كان دافعا في اختيار الماضي زمنا للرواية إلى جانب التناقض الوجداني تجاه الحاضر الذي كتبت فيه الرواية.
وهنا نحن سوف نسلك نفس الطريق الذي سلكته الدكتورة عزة رشاد حيث نتناول في القراءة النفسية شخصية من شخصيات الرواية هي سعاد وما تمثله من تناقض وجداني – ثنائية وجدانية – يعرف بأنه حب الشيئ وكرهه في نفس الوقت مما يمثل صراعا وقلقا تعيشه الشخصية ، وقد رأينا قسما منه لدى المؤلفة – عزة رشاد – ولدى كاتب المقال تجاه ما حدث في مصر في تلك الفترة بين 2011 :2013 حيث موقفي المتبدى في عدم اكمال النقد كانعكاس لتناقض لاشعوري تجاه ما حدث ، وهروب المؤلفة لمرحلة زمنية أشارت من خلالها لتناقضها الوجداني تجاه ما حدث من ثورة أيدتها بقوة وشاركت في صنع احداثها وتآكل تلك الثورة وعدم تحقيقها لاهدافها فزمن شجرة اللبخ هو تلك الفترة الماضية حيث الاحتلال الانجليزي لمصر :” وهي مازالت تدلي ساقيها فوق كتفيه، لفناء الحارة فيسرع إليه الجيران ليقرأ عليهم آخر أخبار الحكومة والخديوي وما يتسنى مترجماً من برقيات دولية تكشف عن أحوال بورصة القطن” ، وبهذا المعنى فقد سيطر التناقض الوجداني بوجه عام على روح الرواية وشخصياتها وهو ما عبرت عنه د.عزة رشاد بقولها :”قد يكون درب السوالمة مسرحاً لصراع دار بين الحب والتسامح وبين الجشع والأنانية والولع بالسلطة، أو قد يكون أي شيء آخر، عدا أنه سيظل مثيراً للدهشة أن تُطلق صفة “جنة” على مكان تندم بعد عشر دقائق من وصولك إليه لكونك لم تحضر معك كمامة طبية”. فرضوان بك طيب وشرير هكذا تراه سعاد زوجته :” تصغي سعاد متعجبة من البيه “زير النساء” الذي تحول بقدرة قادر إلى ولي من أولياء الله الصالحين ومن نعشه الذي طار وعجز المشيعين عن اللحاق به. متسائلة في سرها: أهذا الذي يحكون عنه هو رضوان زوجي؟ تتمتم: له في ذلك حكم. وتحمد الله على أن أبواب السماء لم تكن مشرعة يوم دعت عليه:
_ تعيش مفضوح وتموت مفضوح يا رضوان يا ابن لبيبة.
ثم تغلبها عاطفتها ما بين التنهد والنهنهنة لتفكر بالباقيات الصالحات لرضوان _ الزوج الصالح… رغم كل شيء، والأب الصالح لفارس والراعي لكل رجال درب السوالمة”( ).
وتعيش سعاد نفسها حالة التناقض الوجداني تجاه ما حدث :” وأخفقت، رغم ذلك، في التخلص من الشعور بالمهانة من أنه اعتبرها أقرب إلى الخدم، من أنه لا يرحم ولا “يخلي رحمة ربنا تنزل”، فلا تركها “ست البنات” التي كانتها وارتضتها بل أحبتها أيضاً، ولا منحها الفرصة لتصبح “هانم” حقيقية كما يريدها أن تكون، ولا حتى أعفاها من تعليقه الجارح”. وتعيش سعاد متذكرة كل ماضيها مع رضوان وذلك اثناء العزاء ، وأغلب تلك الذكريات عن خياناته الزوجية لها ، حتى تذكرت كيف اعجبت واحبت العواد الكردي كرد فعل لمعاملة رضوان لها:” عدا أن التشوش أصابها عندما.. أحست بذراعيّ الكردي تطوقان خصرها، ثم تفاقم بعد أن وجدت منديله تحت وسادتها؛ فركته في قبضة كفها، غير مصدقة، ثم ضغطته إلى صدرها، إلى قلبها، ثم تركته منزعجة، ولم يمنحها قسم شفاعة _ بأنها هي التي وجدت المنديل المنقوش على طرفه اسم الكردي في قاعة الرجال بعد انتهاء السهرة _ ولا بخورها ورقياتها يقيناً يهدئ روعها، احتضنت ولدها ولم تعد تنام إلا بجواره خوفاً من مطاردة الأحلام” ولقد ادرك رضوان ذلك الاعجاب فامتنع عن المجيئ بالعواد واختلق قصة وفاته.
وختاما كشف لنا التحليل النفسي عن سبب مقاومة كاتب هذه السطور من عدم إكمال نقدها ، وعن سبب لجوء المؤلفة الى التاريخ القديم زمنا للرواية بدلا من تاريخ كتابتها والتعبير عن الموضوع المشترك بين الزمنين وهو الثورة والرغبة في التحرر من السلطة القامعة قديما وحديثا وما قد تمثل في البناء النفسي لأحد أبطال الرواية وهي سعاد .
الاضطراب النفسي والانحراف السلوكي
سبق وذكرنا ان التناقض الوجداني اتجه بالمؤلفة للهروب للماضي أيام ثورة 19 بدلا من الحاضر ثورة يناير ويونيه ولعل أحد مسببات ذلك التناقض هو غياب القائدة للثورات المعاصرة مما افقدها الفعل والتأثير وتحقيق الاهداف بينما ثورة 19 كانت بقيادة سعد زغلول وأليس ما فعله الشباب مثلا في جمع توقيعات ما سميت حملة ” تمرد ” : أن شاء ربك أن يجمعهما مقهى “مسك الليل” بباب اللوق؛ عندما دخل، ذات ليلة، أحد الجورنالجية المعروفين يحمل أوراقاً يمر بها على الزبائن: وقع على التوكيل. “بعد أن استنكر المعتمد البريطاني مطالبة زعماء الأمة _ وعلى رأسهم سعد باشا زغلول _ بتحرير مصر: معقول تلاتة أربعة يكونوا بيمثلوا شعب كامل؟ أخذت بعض الشخصيات الوطنية الموثوقة على عاتقها مهمة جمع التوكيلات من هذا الشعب”. يأخذ متولي القلم ليوقع، فيجد الاسم الموقع قبله: فارس رضوان البلبيسي، يلتفت فيجده جالساً على طاولة وراءه، يحجم عن مخاطبته لكنه يظل يتلفت من آن لآخر مردداً لنفسه: زمانه نسيني. أكيد نسيني. ثم يراه ينهض مقترباً منه: إنت متولي؟
أكدنا أكثر من مرة على نشاط المخيلة الثرية لدى المؤلفة كما يتجلى في عالمها الروائي وليس الإسقاط لما عايشته من ماضيها أو حاضرها وها هي تقول في حواري معها :”أنا ابنة المدينة الصغيرة التي، منذ فترة طويلة، لم تعد قرية؛ لكنها بنفس الوقت لم تصبح مدينة بالمعنى التحضري الكامل للإنسان ولمظاهر ومرافق الحياة. تنتمي جذور عائلة أبي وكذلك عائلة أمي إلى الأرياف، بينما تنطلق الفروع إلى القاهرة والاسكندرية، وبالنسبة لي فقد تواصلت مع الجذور والفروع وأظن أن هذا التنوع الجغرافى والثقافي أثرى مخيلتي، لكن تبقى المدينة الصغيرة في فترة نشأتي وحتى وقت ليس بالبعيد: مأزومة بنظري، حالة بين بين، مشروعها القيمي أو الثقافي شاحب وضاغط بنفس الوقت على أبنائها. لا تجد فيها سوى القليل من نخوة الريف القديمة وتكافله، ولا تجد تحرر وانفتاح المدينة، أي مزاياهما،، بقدر ما تجد فيها عيوبهما: انغلاق الريف وعزلة أبناء المدن. وأظن هذا الالتباس بعيوبه وتناقضاته وعقده وكوابحه قد منح عالمي الإبداعي خصوصية ما.” فغالبًا ما تكتظ مخيلتي بشخوص كثيرة وعوالم واسعة، كلها متخيلة، عدا أن خبراتي الحياتية تساعدني في “وقعنة” المتخيل أي دسِه في تربة واقعية، فتأتي ذكرى “عام الدودة” وضياع محصول القطن، لتُفاقِم من محنة هزيمة 1967 والتهجير القسري لسكان مدن القناة كما تخيلته في رواية “ذاكرة التيه”، أو يأتي مصرف مدينة “بلبيس” القريبة جغرافيًا، مُبررًا ومكملًا لصورة القبح الذي تعجز الأكاذيب عن مداراته والتغطية عليه في الأحداث المتخيلة برواية “شجرة اللبخ”.
وفد نسجت المؤلفة بناء شخصيات الرواية بحنكة شديدة وأظهرت لنا كيف ينمو الصراع ويحتدم بداخلها حتى يحدث الانهيار بعد طول مقاومة فيكون الإضطراب النفسي أو الانحراف السلوكي الذي أصاب أغلب شخصيات الرواية فرضوان بك منحرف جنسيا ومقامر ومجرم قاتل في آن وفي سلوكه هذا باحث عن الحب الحقيقي الذي حرم منه في طفولته بل وفي شبابه ، وفارس ذلك الفتى الذي لا يقدر على الفعل ولا على اتخاذ القرار في صراعه مع همام وفي زواجه و في حبه لجميلة التي عجز عن الزواج منها وكان مصيره الافلاس فلا هو اتقن عملا ونجح فيه ولا ورث ضياعا وعقارات :”أخبرها عن الثروة التي طارت، عن مؤامرة صافيناز وصدمة سعاد؛ “
:” عز عليه _ يرجح فارس _ أن يرى ولده “ولد الرجل الذي لا تعز عليه امرأة” يكابد إخفاقات متتالية مع النساء؛ أولها مع “سوزان” البولندية التي التقاها في مقهى “المونبارناس” بباريس وعاد إلى مصر وهي تتأبط ذراعه؛ وفر لها ما لم تحلم به من رغد العيش غير أنها لم تحتمل البقاء سوى لعام واحد، أصرت بعده على العودة لبلادها..”، ومدكور ممثل السلطة التنفيذية القامعة تنهتي حياته بالقتل كما انتهت حياة رضوان ممثل السلطة السياسية – تجاوزا- بالفضيحة والموت الذي الذي هو أشبه بالقتل في أحضان بائعة الهوى “بنورة”.
وهنا تؤطر المؤلفة في شجرة اللبخ لعلاقة السلطة باللصوص المتمردين عليها وتؤكد بانتصار السلطة الدائم على اللصوص وذلك في علاقة رضوان بمبارز ذلك اللص الذي دخل في صراع ضد الباشا وكيف انتصر الباشا ممثل السلطة بموت مبارز ، وعندما ورث همام من ابيه التمرد واتجه للنشل واللصوصية ، تمرد على السلطة التي ورثها فارس من أبيه ودار الصراع بينهما مثلما دار مع ابيهما وانتصر في النهاية فارس ومات همام . وهمام هذا طفل نشأ وسط الحرمان والعوز والضياع بعد موت أبيه ولكنه وقد خرج عن طور الطفولة يتعرض لعلاقات جنسية مبكرة مع أمرأة غادرها الشباب وصار منحرفا كامل الانحراف في مستقبله وقد وجدت تلك المرأة أن حبها له وعلاقتها به أصبحت مثار سخرية نساء القرية
مش كده يا ابن الهبلة.
ثم جذبته فانقطع جلبابه المهترئ، كان محتشداً بالفضول لمعرفة ماهية النساء فيما كانت “سبيلة” أرملة الجد “التي لم يغادرها الشباب تماماً” تعاني حنيناً لأنثى ظنتها قد ماتت داخلها من زمن طويل، غير أنها فوجئت بها تفيق.. من أول لمسة، وتُبعث بحيوية أكثر من أي وقت مضى بحياتها؛ هكذا رآها الصبي فعوج طاقيته وتصالح مع الدنيا؛ كف عن تعذيب الحمائم والقطط، وعن ترهيب العيال، نام في باطن الشجرة ثم فوق صدر سبيلة التي عوضت الطفل الذي لم يغادره بعد عن حرمانه من حنان الأمومة، كما دفعت بالرجل الذي يقف على أعتابه إلى سماوات الشبق البعيدة؛ في الغيط، نهاراً، تصفعه على عجيزته، كأنه أحد أطفالها، إذا نعس: إنهض يا تور. لسه ورانا شغل ياما. وفي الفراش، ليلاً، تسعى بكل طاقتها لإرضائه، وما أن تبلغ الحمى ذروتها ثم تبدأ بعدئذٍ في الهبوط حتى تغرق “سبيلة” في سيل من الدموع؛ أراد همام أن يفهم: لماذا تتعذب إلى هذا الحد؟ لكنه لم يجرؤ على سؤالها خشية أن يفقد النعمة التي منَّ بها الله عليه؛ عدا أنه رآها ذات مرة تملأ جرتها بالمياه من الطلمبة العمومية فتوارى كي لا تراه، ومن مكمنه لمح غمزات تبادلتها عيون نساء الدرب اللائي تركن جرارهن والتففن حولها يسألنها بمكرٍ عن سر تورد خديها المدهش، وبالرغم من حرص سبيلة على تجاهل التلميح إلا أنها بعدها حملت جرتها توقف عن السير عندما سمعت إحداهن تودعها:
_ مع السلامة يا مرة جدي.
خاصة مع القهقهات الصاخبة التي تلت العبارة، وأدهشت الصبي المتواري.
فانتقمت منه ودبرت حادث حريق متهمة اياها باشعال الحريق حتى يغادر القرية للابد وهنا بكت وهو يجري هربا ليركب قطار المحروسة وهنا نلاحظ التناقض الوجداني عند هذه المرأة – حب وكره همام في آن – مسحت “سبيلة” بربور صغيرها بطرف جلبابها ثم تطلعت نحو همام وأخبرته وهي تشيح بعينيها بعيداً بأن كل شيء بأمر الله؛ لم يفهم ما تقصد، بل فوجئ بها تضرم ناراً صغيرة في حفرة بالزريبة، ثم تخرج صائحة، تشير نحوه:
_ إلحقوا يا ناس. إلحقوا يا هو.. عفريت مبارز هيولع البلد.
نظر نحوها مذهولاً، وفيما كان الهلع يبرق في عيون رجال السوالمة، كانت عيناها تودعه بأحر الدموع وهو يجري هارباً، إلى قطار المحروسة، ثم من حارة إلى أخرى، حتى يستقر لسنواتٍ عند شيخ النشالين،
وحينها يقرر الانتقام من ليلى بنت الباشا وقد أحبها في آن وهنا تمكن منه التناقض الوجداني – حب وكره ليلى – “تمكن من أن يجعل ليلى بنت رضوان مثل الخاتم في إصبعه، كانت جميلة ووديعة و.. تحبه، فيما كان يفكر بعدد الطلقات التي سيفرغها في جسدها قبل يرمي جثتها لأبيها، أحس لشعرها الذهبي الطويل بملمس الحرير فوق جلده حينما كان يحسب إن كان طوله يكفي للفه مرتين أم ثلاث حول عنقها ليخنقها به قبل أن يرمي جثتها لأبيها؟ وكلما نظرت نحوه بعينيها الجميلتين المحبتين لا يرى سوى إجرام أبيها الذي ضيع عليه حتى فرصة قتله؛ خسارة! يهمس؛ لكنه على الأقل أذله، أرعبه وأذله وشهد بعينيه موته”
وقد تمكن من قلب ليلى فبدأ بتعذيبها :” كانت معها عندما التقت بهمام لأول مرة، عدا أنها تركتها وحدها.. لتعشقه، وتعاني؛ لم تطمئن لشيء كما اطمأنت لعينيه الذاهلتين، ولا حتى ليديه الحانيتين اللتين جعلتا جسدها الطفولي يطلق نشيجاً أنثوياً ناضجاً لم تتوقع أن يحتويه كيانها…
_ نفسي أشوفه يا جميلة. نفسي أعرف جرى له إيه!! تقول بانفعال بعد أن إختفى فجأة.
_ إعقلي يا ليلى هتودي روحك في داهية.
تبكي ثم تتهاوى حين تسمع الحقيقة من جميلة:
_ همام ده ابن مبارز عدو أبوكي.
_ يعني إيه!! كل ده كان كدب!؟
تصغي ملتاعة إلى جميلة تؤكد بأنه سعى لجعلها تتعلق به ثم تركها فجأة كي يعذبها وينتقم من أبيها؛ أهذا جزاء الحب!؟ طالما تساءلت، وطالما أنّت وظنت أن قلبها من المحال أن ينبض لغيره؛
وحتى صافيناز زوجة رضوان الأولى وهي امرأة تعاني من مرض – سيكوسوماتيك -نفسي جسمي هو البقعة الداكنة في الوجه وهو ما يشير لطفلة كانت مقهورة وتعاني ضغوطا نفسية وربما أشارت المؤلفة لتوحد – تماهي – صافيناز مع امرأة شركية هي نفسية البيضا وما طالها من نقد تاريخي لحياتها الخاصة ولأعمالها الخيرية فكان ذلك الاضطراب النفسيجسمي هو محصلة الصراع الداخلي الذي نعبر عنه بالتناقض الوجداني فقد أحبت نفسية البيضا وكرهة مصيرها ولكنها تظن ان ما يقال عنها غير حقيقي، وتشعر صافيناز بذلك التناقض تجاه رضوان فقد أحبته وكرهته وانتقمت منه بأن رهن لها املاكه قبل موته بسبب خسارته الدائمة في القمار ، وكذلك كانت صافيناز تجاه فارس فقد احبته كثيرا ولكنها افقرته بسلب الثروة من أبيه _ بس انتي عارفة اننا مانقدرش… إلحقني يا فارس إسمع مراة أبوك ..
جاءت اللحظة التي كانت تخشاها …….
ولكن من أين أتى كل هذا الدمع لينسكب من عينين اثنتين!؟ كأن كل ما كتمته من انفعال منذ نظر إليها فارس تلك النظرة المصدومة تجمع داخلها حتى دخلت الغرفة وأغلقت الباب “صارت وحدها” فانسكب كالمطر. الكلمات التي أرادت أن تقولها له لم تنسكب مع الدمع، ظلت داخلها تجلدها وتعذبها، تريد أن تصرخ:
_ إلا أنت يا فارس. أنت تعلم كم أحبك. أنت ولدي أنا، أنا الأجدر بك منها.
كراهيتها لسعاد، وغضبها من رضوان أضاعا منها فارس، ولن ينفعها بشيء، وهي وحيدة، كل هذه الثروة؛ ولكن لا، انهضي يا صافيناز.. هانم، ولا تدعيهم يشمتون فيكِ، تحث نفسها، لقد انتصرتِ، إفردي هامتك وسيري برأس مرتفع ويدٍ بيضاء.. بيضاء، سوف تمحو هذه البقع الداكنة من وجهك، سوف تدخلك التاريخ مع جدتك “نفيسة البيضا”.
كل نص تناص:
إذا ما تتبعنا نشأة التناص intertexteوبداياته الأولى كمصطلح نقدي نجد أنه كان يرد في بداية الأمر ضمن الحديث عن الدراسات اللسانية ( )، وقد وضح مفهوم التناص العالم الروسي ميخائيل باختين من خلال كتابه (فلسفة اللغة) وعنى باختين بالتناص: الوقوف على حقيقة التفاعل الواقع في النصوص في استعادتها أو محاكاتها لنصوص – أو لأجزاء – من نصوص سابقة عليها والذي أفاد منه بعد ذلك العديد من الباحثين( )، حتى استوي مفهوم التناص بشكل تام على يد “جوليا كرستيفا” وقد أجرت استعمالات إجرائية وتطبيقية للتناص في دراستها (ثورة اللغة الشعرية) وعرفت فيها التناص بأنه ” التفاعل النصي في نص بعينه”( ).
كما ترى كريستيفا أيضا أن ” كل نص يتشكل من تركيبة فسيفسائية من الاستشهادات وكل نص هو امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى”( )، ثم إلتقى حول هذا المصطلح عدد كبير من النقاد الغربيين وتوالت الدراسات حول التناصوتوسع الباحثون في تناول هذا المفهوم وكلها لا تخرج عن هذا الأصل.
وبعد ذلك اتسع مفهوم التناص وأصبح بمثابة ظاهرة نقدية جديدة وجديرة بالدراسة والاهتمام وشاعت في الأدب الغربي ، ولاحقاً انتقل هذا الاهتمام بتقنية التناص إلى الأدب العربي مع جملة ما انتقل إلينا من ظواهر أدبية ونقدية غربية ضمن التفاعل الثقافي( ) .
أما مفهوم التناص ونشأته في الأدب العربي فنجد أن مفهوم التناص هو مصطلح جديد لظاهرة أدبية ونقدية قديمة فـ “ظاهرة تداخل النصوص هي سمة جوهرية في الثقافة العربية حيث تتشكل العوالم الثقافية في ذاكرة الإنسان العربي ممتزجة ومتداخلة في تشابك عجيب ومذهل”( )، فالتأمل في طبيعة المؤلفات النقدية العربية القديمة يعطينا صورة واضحة جداً لوجود أصول لقضية التناص فيه ، واقتفى كثير من الباحثين المعاصرين العرب أثر التناص في الأدب القديم وأظهروا وجوده فيها تحت مسميات أخرى وبأشكال تقترب بمسافة كبيرة من المصطلح الحديث، وقد أوضح محمد بنيس ذلك وبين أنالشعرية العربية القديمة قد فطنت لعلاقة النص بغيره من النصوص منذ الجاهلية وضرب مثلاً للمقدمة الطللية، والتي تعكس شكلاً لسلطة النص وقراءة أولية لعلاقة النصوص ببعضها وللتداخل النصي بينها ” فكون المقدمة الطللية تقتضي ذات التقليد الشعري من الوقوف والبكاء وذكر الدمن فهذا إنما يفتح أفقاً واسعاً لدخول القصائد في فضاء نصي متشابك ووجود تربة خصبة للتفاعل النصي( )
والتناص في الأدب العربي مر ببدايات غنية تحت مسميات نقدية تناسب عصوره القديمة وعاد من جديد للظهور متأثراً بالدراساتاللسانية الغربية الحديثة كمصطلح مستقل له أصوله ونظرياته وتداعياته، ففي الأدب العربي المعاصر حظي مفهوم التناص باهتمام كبير لشيوعه في الدراسات النقدية الغربية نتيجة للتفاعل الثقافي وتأثير المدارس الغربية في الأدب العربي وكانت دراسة التناص في بداياتها قد اتخذت شكل الدراسة المقارنة وانصرفت عن الأشكال اللفظية والنحوية والدلالية ( )، وتعريفات التناص كما بينها النقاد الحداثيون كثيرة جدًا ومتشعبة وكلها تدور حول جوهر التناص الذي يصب في النهاية في كونه تأثر نص حديث بنص قديم سابق عليه.
وبحسب رولان بارت أن” كل نص إنما هو تناص، والنصوص الأخرى تتراءى فيه بمستويات متفاوتة، وبأشكال ليست عصية على الفهم بطريقة أو أخرى، إذ نتعرف نصوص الثقافة السالفة والحالية، فكل نص ليس إلا نسيجا جديدا من استشهادات سابقة ونسيج من “الاقتباسات تنحدر من منابع ثقافية متعددة” ويرى بارت أن “التناصّية هي قدر كل نصّ، مهما كان جنسه. ولا تقتصر على التأثر فحسب .” وقد عبر عن تناصية كل نص بقوله إن”النص هو جيولوجيا كتابات”، فهو إنتاج متراكم من النصوص يشارك فيه الكاتب والقارئ ويشكل شبكة متفرعة من التناصات.
وتناول امبرتو ايكو التناص من وجهة نظر تركز على القارئ ففي كتابه “دور القارئ” وضح أن “القارئ يتحمل العبء الأكبر في فك رموز النص، واستحضار تناصاته الغائبة، أو استنباط أكواد تناصاته الحاضرة، ليصبح النص خليطا من نصوص، وتناصات كثيرة. وهذا ما سماه إمبيرتو إيكو بالمشي الاستنباطي، أو المشي خارج النص. وفي نفس الاتجاه نجد مقاربة ريفاتير للتناص حيث جعله آلية خاصة للقراءة الأدبية، وعرفه بأنه “إدراك القارئ للعلاقة بين نص ونصوص أخرى قد تسبقه أو تعاصره.”
وانطلاقًا من هذا الفهم للتناص نجد أن رواية شجرة اللبخ تتناص مع روايتي نجيب محفوظ “المرايا” و”حديث الصباح والمساء” ففيهما يقدم نجيب محفوظ الرواية باستخدام عناوين الفصول باسماء شخصيات الرواية ثم تتاشبك الأحداث ويتصاعد الصراع واكتشاف العلاقات الداخلية داخل النص الروائي هذا في روايته حديث الصباح والمساء أما في المرايا فنجد الشخصيات مستقلة وليس بينها صلات او احداث مشتركة الا حين يظهر لنا الراوي باعتباره صديقا للجميع أو تجمعه بهم علاقة ما ، وهذا عينه ما اعتمدت عليه المؤلفة حيث قسمت الرواية إلى مفتتح و سعاد وشفاعة و فارس وسعاد وابن مبارز وفارس ومتولي وليلي وحسنين و فارس وصافيناز وشفاعة وجميلة ومدكور وخاتمة تلخص فيها الرواية.
وفي شخصية ليلى ومحاولة علاجها داخل الدير بعد سقوط سقف المستشفى عليها وما حدث لها من اصابات وجروح ظهر لنا هذا التناص مع رواية خالتي صفية والدير لبهاء طاهر حيث محاولة علاج حربي واقامته بالدير بعد خروجه من السجن والمرض الذي اصابه ، في الروايتين نجد نفس الروح المتسامح والعلاقة الطيبة الهادئة التي تجمع الأقباط والمسلمين داخل النسيج الوطني في مصر :”فرأت عجوزاً تضع صليباً على صدرها وتخفي شعرها تحت غطاء أبيض، راحت تكمد مواضع الألم والتورم والازرقاق المروع في جانبها الأيسر بقطع من خيش رقيق مبلل بروائح نفاذة، أغمضت ليلى عينيها ثم فتحتهما فرأتها تتنهد وتشير برأسها يميناً ويساراً فيأتي شيخ ذي لحية بيضاء وعباءة سوداء بسكين كبير يحرقه في النار ثم يقربه من ذراعها المتألمة فيما تضع العجوز قطعة قماش مطوية بين فكيها وتغمي عينيها بطبقات عديدة منه، حجبت عنها الرؤية لكنها لم تمنعها من الإحساس، ستقول لخالتها وستتذكر في كل لحظة من حياتها بعد تلك اللحظة أنها أحست.. بألم ذراعها. آااه.. ذراعي.. إلى أين تأخذون ذراعي؟ تحلم، تهذي من فرط الألم، وتظهر جوليا، تقترب وتفتح فمها وتصب داخله الماء وسوائل أخرى لا تستسيغ طعومها. كانت تشعر بجوليا ترمي بنفسها فوقها عندما تفاجئها نوبات التشنج حتى لا تطيح من فوق الفراش وتتأذى، كما كانت تنقط لها الدواء في فمها كي تعاود النوم، وعندما استيقظت كانت قد أدركت أن معجزة ربانية قد أنقذتها، أدركت أيضاً أن الأب “سمعان” والأخت “ماري” لم يقطعا ذراعها بل اضطرا إلى مداواة جراحها العديدة بالكحت والكي والخياطة، ما ترك حُفراً ونتوءات شائهة ومازالت مؤلمة بمناطق مختلفة بجسمها، حتى لا يسري التلوث والقيح في بقيتها وتموت، وكانت ذراعها اليسرى هي الأكثر تضرراً._ والمسيح ما كنت معشمة خالص انك ترجعي!
تهمس جوليا وهي تمسح دموعها، فتتذكر ليلى إيقاع الترانيم ونقش الصلبان فوق جدران الكنيسة”
ويمكن ان نرى ذلك التناص بين شخصيتي رضوان البلبيسي والسيد احمد عبدالجواد بطل “بين القصرين والسكرية وقصر الشوق ” لنجيب محفوظ” الذي يعيش لمذاته خارج البيت اما داخله فهو الرجل الشهم الطيب :” رضوان بيه هو الرجل الذي يصفه أصدقاؤه المقربون بأنه صاحب رأس تطاول عنان السماء وبدن يتمرغ في الوحل، ممضياً أكثر وقته في اغتراف الملذات، عرفت أيضاً إنهم يذكرون هذا بإعجاب، ولم تعرف إن كان إعجابهم بسمائه أكثر أم بأرضه، أم بالكوكتيل “على بعضه”؟” ، وفي شخصية متولي ذلك الطالب الزهري الذي يجد ويجتهد في البداية ثم ينصرف عن الدراسة بالازهر وقد وصفت المؤلفة أحوال طلاب الأزهر وحفظهم للمتون وميلهم للمرح والدعابة التي يسعتينون بها على الفقر والعوز ونوع الدراسة الشاق وكأنها شخصية متولي بها تناص مع شخصيات رواية ” الأيام ” لطه حسين وبخاصة في الجزء الخاص بالدراسة الزهرية والاقامة في حي الحسين بالقاهرة الفاطمية قبيل شقشقة الفجر يبدأ متولي في شق طريقه إلى الجامع الأزهر، مفرود القامة متناسق الخطوات، مرتدياً الجبة والقفطان ومعتمراً عمامة المشايخ ومتعطراً بماء الزهر “على سنجة عشرة”، ليكون أول من يصل، وآخر من يغادر، وأكثر طلبة الأزهر دأباً والتزاماً، وأيضاً تحملاً لمضايقات شيخ العامود، يؤدي مهمته باستماتة، فرَحاً بوجوده تحت هذه القبة العريقة، وحرصاً على سمعة السوالمة باعتباره رسولاً عنهم، لكن المبلغ الشهري الذي رصده أهله لهذه المهمة، الذي يمثل تضحية غير هينة من قوتهم القليل، عجز عن تدبير أمور حياة الطالب الأزهري، بما جعل ثمن كوب شاي على المقهى مجازفة غير محسوبة العواقب، يتكدر منها متولي ويلوى بوزه فيتطوع ولاد الحلال ويجدون له بدلا من المخرج عشرة، عمل في المساء دقاقاً لدى أحد العطارين، ثم اشتغل بأحد الأفران، يحمل العجين من البيوت ويعود به خبزاً في آخر النهار، ثم كاتباً في ورشة نجارة ثم مبيضاً للنحاس ثم سرح في الأزقة والحواري يبيع الفلايات والمناديل وأعواد البخور. يعود آخر الليل متورم القدمين مهدود الحيل، يخلع القميص والبنطلون “عدة الشغل” ويرمي بنفسه فوق الفراش، وفي الصباح يتلقى استحقاقه من اللوم واالتأنيب من الشيخ العامود الذي كان في البداية يلومه على سرعته في التلاوة ثم صار يسمع شخيره أثناء الدرس، يعتذر متولي ويتحمل كل شيء إلا أن يهان ويقال له:
_ يا عِرة الأزهريين”.
ولقد أولينا التناص الديني قدرا كبيرا من الاهتمام في دراسات سابقة لمبدعين كثر من شعراء القصيدة المعاصرة وثبت ان التناص الديني يدل على شخصية المبدع التي تأثر بالقراءن وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في مراحل تكوينه العلمي والثقافي والاجتماعي ومن هنا وجدنا التناص الديني في شجرة اللبخ منذ أن قالت المؤلفة :” على إيقاع تلاوة الشيخ “عبدالعال المراغي” لسورة الأنعام يجلس فارس أفندي ساهماً محاطاً بوفود المعزين التي، تتجدد، مع نهاية كل ربع”. ولماذا اختارت المؤلفة سورة الأنعام ؟ ويغلب على الظن ان اختيارها لورود تلك الاية فيها ” وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون (آية:123)، ولو استطردنا في تفسير الآية الكريمة لوجدناها معبرة عن حالة رضوان البلبيسي الرجل فاحش اثراء والمجرم شديد الاجرام والمنحرف متنوع الأشكال . ومن هنا كان التناص معبرا عن بناء الشخصية المحورية في الرواية ومعبرا في آن عن نشأة دينية للمؤلفة ، وتقول على لسان ليلى: “ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به” وهو استشهاد بجزء من الآية رقم 286 من سورة البقرة ، كما يأتي استشهاد له دلالته على اختيار المؤلفة لسورة الأنعام اُناء قراءة الشيخ في العزاء عندما شعرت ليلى انها تعامل معاملة الأنعام – الحيوانات – :” لم تشعر أنها تنتمي إلى هذا المكان الذي شهد إدراكها الأول لما يعنيه الشعور بالإهانة عندما حملها أبوها ووضعها أمام صافيناز هانم؛ فسنوات عمرها الأولى قضتها تأكل كالأنعام”. وهناك تناص مع الكتاب المقدس حيث تقول :” رفعت جوليا صوتها بالدعاء: “امنحنى القوة كي أغير ما ينبغي تغييره والصفاء كي أتقبل ما لا يمكن تغييره، والحكمة كي أفرق بينهما”.
إن التناص سواء الروائي أو الديني لابد يكشف عن سعة اطلاع وتأثر المؤلفة بثقافتها الادبية والعلمية ونشأتها الدينية الاسلامية وتسامحها الديني مع الآخر.