الخبر الثقافي موقع يهتم بكافة النواحي الثقاقية بمختلف مجالاتها وتغطية الأخبار الفنية .
إن رواية (ليلٌ ونايٌ وقمر) للكاتبة ريم أبو عيد تعيد رسم الوعي للعلاقات الإنسانية الناضجة وتشظيها. من خلال اختيار موضوع سهل لكنه ممتنع، وتتفرع منه قضايا كثيرة تشكل قوام الرواية وتنقلات فصولها، فتشكيل أسرة بالزواج مرتبط بالعديد من الخيارات المتاحة، منها: ارتباط من العائلة القريبة (بنت العم بنت الخال والجيران، وبعضها من الاختيارات المنتقاة الصعبة من المحيط الاجتماعي الكبيرة وهم من أسر بعيدة نسبا عن العائلة، مثل:(زملاء الدراسة والعمل ولقاءات الصدف). تعد قضايا الارتباط الأسري والزواج واحدة من أهم القضايا الاجتماعية العربية التي تحدث بها تجاذبات كثيرة وتخلق صراعات على المستويات الثلاثة المعروفة نفسيا ومع الفرد وبين الفرد والجماعة، فاختيار الزوج موضوع كُتب فيه العشرات من الروايات منذ ظهر هذا اللون الأدبي، ولكن لكل تناول جوانبه وسِره ومنفذه الذي يدخل منه الكاتب الروائي، وفي أي صف يقف، ولمن ينتصر، وفي الختام هو موضوع قديم جديد له حساسيته المفرطة لدى البعض، وخفته وسهولته في تجارب أخرى، بل مازال الكتابة حوله يشد المتلقي على الإبحار في تناول القراءة العميقة والمباشرة له.
إن الخطوط المستقيمة لا تتوفر دائما في مساقات الحياة والنفس ترغب في صعود الصعاب ولا تميل للسكون الدائم. كما أن خلق التحديات والسعي نحو الأهداف الكبيرة واحدة من السمات العامة التي قامت عليها العلاقات الاسرية وما زالت تسير نحو هذا النهج لهذا التجديد في الكتابة عن هذا الموضوع المهم وإن كان مطروقا فيعد ضرورة حتمية ولكل تناول مساره وعمقه وفلسفته.
الكاتبة والابحار في مركب النفس نحو العمق
تشير الكاتبة ريم في تقديمها للرواية إلى مقولة إيليا أبو ماضي ” إن نفساً لم يشرق الحب فيها هي نفسٌ لم تدرِ ما معناها. أنا بالحب قد وصلت إلى نفسي وبالحب قد عرفتُ الله”. هذا المفتتح الكتابي يشيء بما سيدور عليه الحال لاحقا لأبطال هذه الرواية. الفصل الأول والثاني من الرواية هو وهي، مفتتحين للتعريف بين خط (مراد) العائلي وتسلسله في شبكة العلاقات الاجتماعية داخل اسرته وزواجه الأول والثاني ، وبين ( ناي) التي جمعتها الصدف بمراد في لقاء عابر بمطار بموسكو، ومن ثم نتعرف على زيجاتها الأربع وتجاربها مع كل زوج بمختلف التداعيات التي خسرتها وكسبتها من هذه التجارب.
نتعرف على مراد ونفسيته المتشظية من خلال العبارات التالية بأنه” تقلد أرفع المناصب وصار عَلما في مجاله، يشار له بالبنان، إلا أن جزءا ما بداخله كان خاويا، مهما حاول ملئه بالعمل والعائلة لا يمتلئ، وكأنه يبحث عن شيء ما لا يعرف على وجه اليقين ماهيته ولا كنهه، شيء يكمل ذلك الجزء المفقود” (ص9). فلم يكن أمام مراد في وضع الا يقين الذي يعيشه إلا أن “كان يبقي نفسه منشغلا دائما حتى عن نفسه، حتى لا يعاوده شعور الفقد” (ص10). فهناك سلسلة من الفقد كانت كفيلة بزيادة الفجوة الحاصلة بين نفس مراد وواقعه خصوصا بعد خسارته لزوجته الأولى الحبيبة التي اختارها برغبته ووقف أمام والده لينتصر بالفوز بها والارتباط العاطفي الصادق الذي عاشه معها، ولكن الموت النتيجة التي لا يمكن الوقوف أمام قوة صدمتها حصل التغيير بعدها في اهتمامات مراد فعاش كالحي الميت من العاطفة بقبوله الزواج من ابنت عمه (فريدة)، لتكون ضمن الوجاهة الاجتماعية فنجد الإشارة لذلك المسار “أن نهر الحياة يجري في مساره الذي يحتمه عليه واجبه تجاه العائلة”(ص 15).
الزمن السريع والحدث البطيء
في الرواية متى ما أرادت الكاتبة الدخول في التفاصيل تبطيء الزمن وتتوقف عند كل لحظة زمنية لتعبر عما بداخلها من مواقف ومشاعر وتبدلات، ومتى ما أرادت للزمن أن يسرع تقذف بمجموع مفردات تشير لذلك التسارع، فنجدها في نهاية الفصل الأول تذكر العبارة التالية: “مضت أعوام تلو أعوام، تقلد فيها مناصب مهمة” (ص15). ثم تسارع الأفكار وتتبدل الأحوال، ويتكرر ذلك التسارع الزمني في الفصل السادس ” مر يوم بعد يوم، شمس تطلع وتأفل، قمر يسطع ويغيب صباحات ومساءات، تشهد بضعة كلمات مقتضبة بين ناي ومراد عبر الهاتف” (ص 49).
الصدف توحد الرغبة
– ” بعدما منحت قلبه قبلة الحياة التي كان ينتظرها منذ التقاها لأول مرة”. في المطار / ناي لقاء موسكو ص 19
– كان لقائهم الأول في مطار دوموديدوف بموسكو، ذات مساء صيفي، حين هبطت الطائرة في المطار، كانت الساعة تشير إلى التاسعة مساء بتوقيت روسيا اتجهت الى ضابط الجوازات لتنهي إجراءات دخولها البلاد اصطدمت بواقع مربك لم تضعه في حسبانها، وهو أن من يعملون في المطار لا يتحدثون الإنجليزية”. ص19 استخدمت الفرنسية والإيطالية
– “لديهم شك في أن جواز سفرك مزور”. ص21 الضابط يقول إنه يتشكك في تاريخ الميلاد المدون في جواز السفر، فهو أكبر بكثير مما تبدين عليه”.ص22
– إنك تبدين بالفعل في العشرين من العمر!!. ص 23
– سألها عن اسمها، أجابته أن اسمها ناي، ناي عبيد. أحس بخدرٍ لذيذ يسري في أعصابه”. ص 24
ملف تعريفي: ناي لا تعزف إلا بالقلم
– كان وقتها مقسما ما بين الكتابة الأدبية وترجمة بعض الكتب الأدبية لصالح بعض دور النشر” (ص29).
– في الفصل الثالث تعود لتعرف عن نفسها من جديد بتفصيل أكثر، فهي ” ناي مصطفى عبيد، نشأت في أسرة ميسورة الحال، ذات مستوى اجتماعي مرموق، كان والدها طبيبا ناجحا في مجال المخ والأعصاب”. (ص31).
التعرض للصدمات الكبيرة تزيد الإصرار على المواصلة
ندى تتعرض لمصيبتان كبيرتان هما وفاة والدها ووفاة حبيبها الثاني في أثناء إجرائه عملية قلب مفتوح، وفشل زواجها الأول من أمجد جارها الذي تزوجت به وهي في عمر الثانية والعشرين فور انتهائها من دراستها الجامعية، وكانت شقيتها (ندى) سبب رئيس في طلاقها بسبب اشتعال نار الحقد والغيرة عندما فضل الجار أختها عليها. وقررت أن تحيل حياة ناي وأمجد زوجها إلى جحيم، “كانت كالأفعى التي تتسلل بدهاء وهدوء إلى فريستها لتنفث فيها سمومها، أثارت في نفس كل منهما الشكوك تجاه الآخر، فدبت الخلافات بينهما واستحال أمجد إلى رجل غير الذي عرفته ناي” ( ص 32).
التجربة الثالثة لزواج ناي كانت من رجل مطلق ” لا تعرف إن كان أحبها أم لا ، ولكنها تدرك تماما أنه لم يحرك ساكنا في قلبها، ربما أقنع عقلها لا أكثر” ( ص34). وبعد عام قررت الانفصال عنه وطلبت الطلاق فمنحها إياه بهدوء.
هناك التقاطه مكانية وإنسانية عن العلاقة بين الامكنة المريحة والنفس، وأن الراوي العليم عرف عن قيمة التواصل الخفي بلا اتصال مباشر بين الحبيبين إلى لحظة كتابة هذا المقطع فنجد إحساس مراد يشبه بيت جده بحبيبته ناي! ” أحس أن ثمة تشابه ما بين ناي وبيت جده، فكلاهما يبعث في نفسه إحساسا مختلفا بالحياة، أو ربما أن كلا منهما يكمل فيه ذلك الجزء الفارغ بداخله ويشعره بالاكتمال” (ص 37).
– نصائح كبيرة تقدمها أم مراد لابنها وهو يعزف على البيانو، كان يسألها بطفولة ساذجة: هل يمكن للكون كله أن يسمع صوت الموسيقى التي أعزفها على البيانو هنا يا أمي؟ فتجيبه: بإمكان الكون أن يسمع حتى خلجات نفسك ويستجيب لها طالما كانت صادقة، كن دائمًا صادقًا في مشاعرك وأنت تتحدث إلى الكون”.
– هنا بدون مقدمات الكاتبة تقحم الرأي في ناي وهمومها وما تعانيه ” تدير أنشطة اجتماعية في مجالات إنسانية، جريئة في طرح أفكارها، كل ما فيها ينبض بالحياة، إلى الحد الذي يجعل من يتابعها يظن أنها ما ذاقت طعم الألم يومًا في حياتها، ولا مرة عليها من قبل لحظات انكسار أو هزيمة”(ص40).
مقولات واستشهادات حاضرة بالرواية
تم الاستشهادات من القرآن الكريم في جمل مميزة تم الاستعانة بأجزاء من آيات قرآنية فيها، وهناك عبارات ومقولات لكتَّاب كبار كنجيب محفوظ حين ذكرت الكاتبة ذلك في عبارة ” الخوف لا يمنع من الموت، ولكنه يمنع من الحياة، عبارة كان قد قرأها كثيرا للأديب نجيب محفوظ طافت حروفها في مخيلته”.ص51
رغم استرسال الكاتبة في الكثير من التفاصيل عن حياة مراد إلا إنها لم ترد أن تقحم نفسها تحت أي جهة يعمل وهو غموض ربما له ما يبرره فها هي تقول” لمناقشة بعض الأمور مع قيادات الجهة التي يعمل فيها”. ص56
إذا كانت هناك مبررات تساق لمراد بالدخول في علاقة عاطفية خارج الاطار الزوجية فالزوجة الثانية ابنة عمه فاتن التي تشتعل للمرة الأولى غضبا بمجرد وصول صور لهاتفها أرسلتها الصحفية لها وهي تجلس قريبة من مراد، لتستنطق غيرة المرأة فيها، فنجد الكاتبة توضح ذلك الانفجار الأسري ” كالت فاتن الاتهامات لمراد، وكأنها كانت فرصة سانحة لها لتٌخرج كل ما في جعبتها من تراكمات غضب قديم أثاره في نفسها حين رفض الزواج منها فيما مضى، واختار ( زوجته الأولى التي توفت فجأة) نجلاء لتكون شريكة حياته، بعدما هدأت عاصفتها ، أخبرته بكل جفاء وبرود بأنها لم تعد تبالي به، وبأنه حر في شأنه، يفعل ما يريد شريطة أن يبقيا على مظهرهما الاجتماعي” (ص 59).
مقاطع شاعرية بها كم من الإحساس الذي تجلت فيه رسالة الرواية فنجد في أكثر من مقطع تشير الكاتبة إلى “أحسا في هذه اللحظة أن روحيهما تنصهران معًا ليصيرا روحًا واحدة ترتقي سُلم الخلود إلى سماء ثامنة، لا يبلغ عنانها إلا كل روح اكتملت بلقاء شبيهها”(ص69). ” الحب لا يغير ملامح المحبين، ولكنه النور الذي يضيء جنبات أرواحهم، فيفيض عليهم جمالا من نوع خاص، جمال تدركه الأبصار، حتى وإن لم تقف الأفهام على سره”(ص71).
الحدث المفصلي في الرواية
في الفصل التاسع تحدث ذروة تأزم أحداث الرواية للبطلين مراد وناي، فمراد يقوم صحفي مغمور بنشر مكيدة وهي تهم بالفساد في عمله وعن علاقته بتلك الصحفية التي كان يستغلها من أجل كتابة أخبار عنه تمتدحه فيها. في المقابل تقود الصدف ناي التي رافقت ابنة البواب لإجراء الفحوصات الطبية بأنها عملت تحليل لنفسها وتظهر النتيجة التي تشير باشتباه غير مؤكد في نوع من أنواع سرطان الدم. وهنا التحول الذي يحدث بتداخل المواقف وتشتيت ذهن البطلين بقضاياهما الاجتماعية والصحية ليحدث بعد ذلك المراجعة لنوعية العلاقة التي كان سيقدمان عليها، فأمام خبر الفساد الذي أُدخل مراد في نفقه نجد ناي لا تبالي في فحوصاتها ويتوقف السرد عن الدخول في نتيجته ليكون التركيز على غياب مراد ” مرت الأيام على ناي في غياب مراد ثقيلة وبطيئة جدا، ولكنها لم تفقد ثقتها في حبه لها ولا لحظة واحدة، شغلت نفسها بترجمة بعض النصوص الأدبية، وبالكتابة”(ص 85). وفي المقابل نجد مراد مهتم هو الآخر في بيت جده بإيجاد عنوان الرواية ” انتهى مراد أخيرًا من مقطوعته الموسيقية التي أطلق عليها اسم (ليل وناي وقمر)، كان أولها حزينًا يعبر عن التيه والشتات كأن كل نغمة تبحث عن نغمة تشبهها لتكتمل، منتصفها كانت موسيقى ناعمة تعبر عن الميلاد الجديد في الحب والحياة كأنها بداية ميلاد جديد، أما آخرها فكان يعبر عن الوصول إلى الاكتمال، نغمات حالمة تماثل ابتسامة القمر” (ص85).
ويأتي الحل بان هناك خطأ في نتيجة الفحص لناي ” الطبيب كان يُبدي لها شديد اعتذاره عن الخطأ غير المقصود الذي ارتكبه الموظف الذي يكتب التقارير على الحاسب الآلي، إ إنه أخطأ في كتابة أحد الأرقام، وطمأنها بأن نتيجة إعادة الفحص كانت سليمة تمامًا”(ص 86).
ويقوم مراد بإرسال رسالة لناي بعد مدة من القطيعة والعزلة التي أدخل نفسه فيها، فيكون اللقاء حميميا بامتياز” عانقته عناقا طويلا، وأعادت على أسماعه مرة تلو مرة أنها تحبه كما لم تحب أحداً من قبل.. طبع مراد قبلة حانية على خد ناي”. ثم يجذبها لتستمع لمقطوعته الموسيقية والتي تتنبأ فيها بما سيحدث في نهاية الرواية، حيث تقول ” أراك تجلس خلف بيانو كبير على خشبة المسرح بدار الاوبرا وتعزف هذه المقطوعة الموسيقية والمسرح ممتلئ عن آخره والجميع منبهر بروعتها” (ص 87).
تظهر تبرأت مراد من كل ما نسب إليه ” بان جهة العمل أجرت اتصالاتها مع بعض الجهات المعنية لاستدعاء كل من الصحفي الذي نشر المقال والصحفية التي كانت برفقته في الصورة للتحقيق معهما وأقرا بأن شخصا ما هو من دبر كل ذلك”(ص89).
بالعودة للسفر إلى موسكو هناك يفاجأ مراد ناي بسؤال مباغت” ماذا لو عرضت عليك الزواج؟ أجابته دون تفكير أو تردد وبنبرة حاسمة: سأرفض. لم ينزعج من إجابتها، ولكنه اندهش منها: ولم؟ ربما لأن هذا قدرنا يا مراد، والقدر لا يستطيع أي إنسان أن يغيره”(ص96).
ثم تأتي المبررات والدروس التي تلقيها ناي على تلميذها مراد ” الحياة يا مراد. إن الحياة خير معلم، فقط أغمض عينيك، اجعل تركيزك كله منصبا بداخلك، ثم خاطب الكون بما تريد، وحتما سيرسل إليك الإجابة بصورة أو بأخرى” (ص98).
أقام مراد الحفل الموسيقي في دار الاوبرا، بعد انتهاء الحفل التف الإعلاميون والصحفيون حول مراد الذي كان يقف أمام مبنى المسرح الصغير برفقة أفراد عائلته وزملائه في العمل وناي قررت أن لا تحضر لتتركه مع محبيه الحقيقين فما كان من مراد إلا ” رفع مراد بصره إلى السماء لحظات ونظر إلى القمر الذي يتوسطها وأغمض عينيه وهمس إلى الكون برسالة لناي. وكانت ناي ممددة على فراشها تتأهب للنوم، وإذ بابتسامة سعادة ترتسم على شفتيها وهي تهمس بنبرة ملؤها الحب: (وأنا أيضا أحبك، أحبك جداً يا خليل الروح” (ص 101).
تنتهي الرواية بهذا الارسال السحري الذي كان شفافا لدرجة تنطق ناي كلام الحب العذب ردا على عزف موسيقي مبهرا وقبل حدوثه كان قرار الاثنين بالانفصال عن الاستمرار في هذه العلاقة للخبرات المتراكمة لكل من الذين كان حبيبين ليعودا من جديد يقولان كلام في الحب، فهل الانفصال حدث أم الاتصال مستمر هذا ما تركته الكاتبة بدون إجابة محددة وواضحة لرسم العلاقة المتبقية أو القادمة هل هي علاقة مشروعة أم علاقة ولدت لتنتهي بعدم امكانية تحقيقها واقعيا لتستمر خياليا.
