كارولين إيميكي : “العالم الآن يكره بصراحة ودون خجل”
ترجمة مدني قصري
كارولين إيميكي “Carolin Emcke”؛ تلميذة سابقة لِـ يورغن هابرماس “Jürgen Habermas”، الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر، وهي ضمن عدد من المثقفين الألمان، لا تزال غير معروفة كثيراً في فرنسا، وفي عالمنا العربي، وتُلقَّب بـ “حنة أرندت الجديدة”.
كانت، في البداية، مراسلة حرب من عام 1998 إلى 2013؛ حيث غطّت حروبَ كوسوفو ولبنان والعراق، ونال كتابُها “ضدّ العنف/ Contre la Haine، الذي تُرجِم مؤخراً إلى الفرنسية (دار Seuil)، جائزة “من أجل السلام” لمعرض فرانكفورت، أكبر معرض للكتاب في العالم.
يُعبّر كثيرون الآن عن شعور معيّن بالفخر في رفض الآخر، وهو نوع من استعراض القسوة والاستياء
في هذا الكتاب، تتأمّل كارولين إيميكي أشكال العنف الجديدة، وتكشف آلياتِ الكراهية التي تقوض الديمقراطيات الغربية، الكراهيةُ العنصرية والاجتماعية، والجنسية والأديانية، القائمة، في رأيها، على عملية جعل الاختلافات غير مرئية، هذه الكراهية تشهد، في رأيها، على رغبة التجانس والتحجر، وعبادةٍ مكرّسة للنّقاء -العقيدة التي يريد أن يفرضها، على سبيل المثال، داعش والقاعدة، أو التي تريد أن تكرّسها الأحزاب اليمينية المتطرّفة في أوروبا.
في كتابها “ضدّ الكراهية”، تشعر الصحفية والفيلسوفة الألمانية، كارولين إيميكي، بالقلق إزاء تصاعد الكراهية في أوروبا، وتفكّك آليات الإقصاء في مجتمعاتنا المعاصرة. ترى ما الذي يجب القيام به، أو التفكير فيه لاستئصال هذا العنف؟ هذا ما تحاول أن تجيب عليه من خلال هذا الحوار.
كراهية صارخة وشائعة
في كتابكِ تلاحظين أنّ شيئاً ما قد تغيّر في ألمانيا، إن لم يكن في جميع أنحاء أوروبا، “العالم الآن يكره بصراحة ودون خجل”، هكذا كتبتِ، ما الذي يجعلك تقولين ذلك؟
الكراهية، لسوء الحظّ، كانت موجودة دائماً؛ ففي جميع مجتمعات التاريخ كان يُرفض الأفراد والجماعات بسبب لون بشرتهم، أو بسبب الطريقة التي يحبّون بها، أو بسبب معتقداتهم. إنّ الكراهية التي تتطوّر في أيامنا في ألمانيا، وبشكل أعمّ في أوروبا، ليست ظاهرة جديدة، غير أنّ ما تغيّر هو نوعية هذه الكراهية: فبينما ظلّت هذه الكراهية خفيّة حتى الآن، وبينما لم تكن في السابق سوى مجرد تعبير عن نصف كلمة؛ فقد أصبحت الكراهية الآن مقبولة وشائعة، فقد أضحت أمراً طبيعياً، ويبدو الآن أنّ هناك شعوراً معيّناً بالفخر في رفض الآخر، وهو نوع من استعراض القسوة والاستياء.
الكراهيةَ تتطلب قُرباً كبيراً بين الكارِه وموضوع كراهيته، حتى يمكنه تدمير هذا الشخص الذي يكره
لقد سقط التابو (المُحرّم)، أراه الآن في الرسائل المهينة التي أتلقّاها، لقد تلقّى الصحفيون دائماً رسائل مجهولة مليئة بالكراهية والعنف، لكنّ الرسائل التي أتلقاها اليوم تحمل العنوان واسم المرسل، لم يعد الكارهون يخجلون، فهم لم يعودوا خائفين، انتشار الكراهية صار أسهل بكثير، وترك الهوامش، وأطراف المجتمع، لتصل هذه الكراهية إلى قلب المجال العام.
الاقتراب من كراهيته
لماذا تتحدّثين عن الكراهية بدلاً من العنصرية، أو رهاب المثلية أو معاداة السامية؟
من أوجه وزوايا عديدة، سيكون من الأكثر دقّة استخدام هذه المصطلحات الرسمية، التي تميّز بين أشكال الكراهية المختلفة، وفق غرض كلّ شكل منها -اليهود، المثليّون، السود، …إلخ، لكن لا أحد يريد أن يتّهم بمعاداة السامية، أو رهاب المثلية. الألفاظ الرسمية صارت اليوم مباشِرة جداً، العنصريون يرفضون أن يطلق عليهم صفة العنصرية، وبدلاً من ذلك، هم يلجؤون إلى الشعور بالقلق أو الخوف من هذه الظاهرة، أو تلك، وصول المهاجرين، الإرهاب،..إلخ، لكن من الواضح أنّه ليس الخوف هو الذي يقود ويرشد هؤلاء الناس؛ بل هي الكراهية. فعلى عكس الخوف الذي يجعل الأفراد ينأون بأنفسهم قدر المستطاع من مصدر هذا الإحساس، فإنّ الكراهية تتطلب قرباً كبيراً بين الكاره وموضوع كراهيته، حتى يمكّنه تدمير هذا الشخص الذي يكرهه.
يرتبط الإسلام دائماً في وسائل الإعلام الغربية بالإرهاب أو الأصولية الدينية
هذا التقرب بالذات، هو الذي يسعى إليه الكارهون اليوم عندما يتظاهرون في وضح النهار، مثلاً، إلى جانب منظمة بيغيدا (وطنيون أوروبيون ضدّ أسلمة الغرب، الحركة اليمينية الألمانية المتطرفة التي تمّ إنشاؤها في عام 2014)، أو يمارسون العنف المباشر ضدّ اللاجئين، كما كان الحال في كلاوسنيتز في شباط (فبراير) 2016؛ حيث يُظهر شرطة فيديو العنف القوي الذي طال حافلة لاجئين في كلاوسنيتز، في ألمانيا، من قبل حشد من المواطنين كانوا يهتفون “نحن الشعب”، وقد صَدم هذا الحدث أوروبا. إذاً، هذا الشعور المضطرم بالكراهية، هو الذي على المحك اليوم، وهذا المصطلح تحديداً هو الذي يسمح لي، على ما أعتقد، بأن أصف على أفضل صورةٍ ممكنة الكيفية التي أصبح بها الآخر مرئياً أو غير مرئي.
ماذا تقصدين بذلك؟
لا شك في أنّ لنظرة الحاقد الكاره قوة مزدوجة حول موضوع كراهيته؛ أوّلاً، يمكن أن يجعل بعضَ الأفراد أو المجموعات غير مرئيين تماماً، وهذا هو الخفاء الذي يتحدّث عنه الكاتب الأمريكي من أصل إفريقي، رالف والدو إليسون، عندما يصف الكيفية التي يصبح بها غير مرئيّ كشخص، يتمتع بكامل الحقوق، في مجتمع عنصري. وفي الوقت نفسه؛ إنّ نظرة الكاره تجعل الآخر مرئياً أيضاً، لكن فقط تحت ملامح شيطان، أو وحش في فرنسا تصوّر بعض وسائل الإعلام المسلمين بملامح هذا الوحش، وهو ما يهدّد التطبيق السليم لمبدأ العلمانية، وفي الوقت نفسه؛ يصبح المسلمون غير مرئيين في تنوّعهم؛ إذ تبثّ وسائل الإعلام صورة متحجّرة وقاسية عن الإسلام، ممّا يوحي بأنّه لا يوجد مسلمون حداثيون، وتقدّميون، ومتسامحون ومَرنون في إيمانهم، وما إلى ذلك. أو أسوأ من ذلك، أنّهم ليسوا مسلمين حقاً. لكنْ ماذا يعني كل ذلك؟ ولماذا تسمح وسائل الإعلام لنفسها بإصدار الأحكام الجاهزة على الآخرين؟ إنها في الواقع تبثّ مجموعة كبيرة من الصور النمطية التي تقلص مجال رؤيتنا. فوفق وسائل الإعلام هذه لا يمكنك أن تكون مسلماً ومؤيداً للحركة النسوية..، كلّ هذا موضوع سخيف!
الشبكات الاجتماعية ونشر القوالب النمطية
مَن، في رأيك، ينتج ويغذّي الكراهية في مجتمعاتنا؟
هناك العديد من الجهات الفاعلة المسؤولة التي يقع عليها اللوم؛ بدءاً من الشبكات الاجتماعية التي تسمح للقوالب النمطية بأن تنتشر بسرعة لا تصدَّق، وبمنطق المزايدة، ولا سيما الكراهية، كي تزدهر وتنتشر، في الأساس، هذا ينطبق على جميع وسائل الإعلام؛ ففي الصحف وعلى شاشات التلفزيون، تتمّ إعادة إنتاج هذه القوالب النمطية وزراعتها، وترسيخها على نحو متزايد بين الأفراد. على سبيل المثال؛ يرتبط الإسلام دائماً في وسائل الإعلام الغربية بالإرهاب أو الأصولية الدينية، ونادراً ما تطرح وسائل الإعلام هذه مسألة الإسلام كما هو سائد ومطبّق لدى الغالبية العظمى من المسلمين.
تبثّ وسائل الإعلام صورة متحجّرة وقاسية عن الإسلام، ما يوحي بأنه لا يوجد مسلمون حداثيون
فحتى عندما تسعى بعض وسائل الإعلام إلى أن تكون أكثر شمولية من خلال إعطاء الكلمة لأقليات معيّنة، فإنّها تعود وتسقط في الصور النمطية نفسها.
أعتقد أنّ المدرسة، للأسف، تساهم في إدامة هذا النهج الاختزالي المتحجّر؛ فالكتبُ المدرسية لا تركّز بما يكفي على فكرة ثراء العالم، وتنوّع الهويات الفردية.
في فرنسا نتحدث عن عدم المساواة والتوترات في الضواحي دون ربط القضية بالماضي الاستعماري الفرنسي، إنّها مقاربة جدّ اختزالية تطمس التنوع، بالتالي، لا تمنح للأطفال حيزاً كافياً لنموِّ وتفتّح ثراء هُويّتهم الخاصة.
التنوّع قبل الهُوية
لكن، لماذا يجب علينا أن نفضّل التنوع على الهُوية، أو التعدّدية على الوحدة، أو كما تقولين التلوّث على النقاء؟
يبدو لي أنّ أي هاوٍ للموسيقى، أو الطعام الجيد، أو الأدب، أو حتى السفر، قادر على إطراء مزايا التنوع، التنوع هو الثراء، وهو فرحة الاكتشاف والتفتّح والانفتاح، فهذا شيء طبيعي تماماً، طالما أنّ كلّ فرد بطبعه مختلف عن الآخرين. فكرة إنشاء الاتحاد الأوروبي، في حدّ ذاتها، كانت تستند إلى اليقين القائل إنّ العديد من المقاطعات والتقاليد واللغات والأفراد، يمكن أن تتعايش في داخل المجتمع الواحد. في أوروبا، نعيش هذه التعددية كل يوم، ومن ناحيتي أجد في هذا كلّ المتعة والراحة!
يجب على كلّ مجتمع ديني وكلّ حاخام وكلّ قسيس وكلّ إمام، أن يتساءل حول طبيعة المواعظ
على النقيض من ذلك، ينبغي أن تبدو لنا مثاليّة النقاء أمراً منافياً للطبيعة؛ فلا شيء في الطبيعة، أو من حولنا “نقيٌّ” نقاءً كاملاً، قبل بضعة أعوام سعت الأنظمة الشمولية لفرض هذا “النقاء” بالقوة، داعية إلى المساواة المطلقة بين الأفراد.
يدهشني اليوم أن تصبح فكرة الثقافة الأحادية، أو النقاء الوطني، أقلّ خطورة من التعددية، على العكس، أجد هذه الفكرة مرعبة للغاية! إنّ فكرة مجتمع ليبرالي ومشتمل، أشعر فيه بأني غريبة ومدهشة ومفاجئة وفريدة، كما يحلو لي، فكرة أشعر أنّها أكثر أماناً لي، أعلم أنّ الدولة تحمي مَن أنا، وما أريد أنْ أكون.
النقاء الديني ليس حكراً على الإسلاميين
وتقولين إنّه في مقابل شرطِ النقاء الإسلامي المنحرف تقترح شعبويات اليمين المتطرّف مزيداً من النقاء
شرط النقاء الديني ليس حكراً على المتطرفين الدينيين، كشرط إسلاميّي داعش، إنّه أيضاً رأس الحربة لدى اليمين المتطرف، الذي يوحي بأنّ الأمة، أو الثقافة، أو الدين جميعها أفضل من الآخرين، وتجب حمايتها. هناك تشابه، من الناحية الهيكلية، بين الشعوبية اليمينية المتطرفة في أوروبا وبين أيديولوجية داعش، رغم أنّهم يقولون إنّهم متعارضون، لكلّ منهما تعريفات مختزلة وصارمة لا تقبل المساومة، حول من هو الفرنسي “الحقيقي” أو المسلم “الحقيقي”، إذا أردنا حقاً الدفاع عن أوروبا التعددية والليبرالية، يبدو لي أنّه يجب علينا ألّا نتوقف عن أن نكون تعدديّين وليبراليين معاً! لمحاربة المتعصبين؛ يجب أن نظهر كم هو ممتع ومفيد أن نعيش في مجتمع مفتوح! وليس في المزيد من الانغلاق.
الكتب المدرسية لا تركّز بما يكفي على فكرة ثراء العالم وتنوع الهويات الفردية
وهذا هو ما تفعله فرنسا اليوم، على ما يبدو، لا سيما في نهجها الراديكالي المتزايد نحو العلمانية. عندما تم التصويت عليه لم يكن مبدأ العلمانية مضطرباً، بأيّ حال من الأحوال، على العكس من ذلك؛ كان الهدف ببساطة هو الحدّ من سيطرة الكنيسة على المجال العام، مع ضمان حرية المواطنين في ممارسة دينهم، في الأماكن الخاصة والعامة، طالما أنّ هذا لا يخلّ بالنظام العام، وطالما يستطيع كلّ واحد أن يتمتّع بهذا الحقّ، إذا أردنا حقاً الدفاع عن فرنسا علمانية ضدّ أيديولوجية داعش؛ يجب ألّا نعرّض العِلمانية للخطر من خلال قمع أديان بعينها، كما هو الحال مع الإسلام اليوم!
دور المجتمعات الدينية
هل تعتقدين أنّ المجتمعات الدينية لها دور تلعبه اليوم في محاربة الكراهية؟
تماماً! الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية في ألمانيا، على سبيل المثال، لعبت دوراً مهمّاً في استقبال وحماية اللاجئين في الأعوام الأخيرة، وقد استخدمت كلتاهما سلطتهما المعنوية للدفاع ضدّ العنصرية والتمييز، في هذا الشأن كان التزام السلطات الدينية الألمانية مشرّفاً جداً! لكنّني أعتقد أن هذا الالتزام يجب أن يذهب إلى أبعد من ذلك، يجب على كلّ مجتمع ديني، وكلّ حاخام، وكلّ قسيس، وكلّ إمام، وكلّ راعٍ أن يتساءل حول طبيعة التعاليم والمواعظ التي تقدَّم للمؤمنين أثناء الأقداس والصلوات.
لا تكمن المشكلة في محتوى التعاليم، بقدر ما تكمن في تفسيرها، وفي عرضها بطريقة تمييزية في بعض الأحيان؛ بل وتدفع إلى إثارة مشاعر الخوف والإقصاء.
ما أكثر الذين يعدّون إيمان الآخرين اليوم تهديداً لإيمانهم، إنّه لشيء يستعصي عليّ فهمه حقاً؛ هل صار إيمان هؤلاء الناس هشّاً إلى الحدّ الذي يجعل مقابلتهم لشخص من دين آخر كافية لزعزعة استقرارهم النفسي والديني؟ حجاب امرأة مسلمة، أو كِبة يهودي، لا يمكن أنْ يذيبا هُوية وإيمان المسيحي الذي يصاحبهما! يجب على المجتمعات الدينية أن تعلّم وتلقّن هذه الحقيقة لأتباعها. يجب أنْ تظهر أيضاً أنّ كل التحولات التي تحدث في مجتمعات اليوم، من التغييرات في الأسرة التقليدية إلى وصول المهاجرين، تحولات توضحها الكتب المقدسة. في العهدين القديم والجديد، على سبيل المثال، نجد تنوّعاً كبيراً في النماذج العائلية، وفي حالات النفي والهرجة، وفي مشاعر الانتماء التي يمكن أن تتيح لكلّ واحد أن يتماثل بهذه النماذج والحالات، وأن يجد مكانه في قلب الطفرات المعاصرة.