كتب – محمد خضير:
“كلما تعمقنا فى الجذور ارتفعنا إلى العالمية”، بهذه الجملة، وقبل أن يحصل على نوبل بـ22 عاما، أوجز الأديب العالمي الراحل، نجيب محفوظ، فلسفته فيما يكتب عن مجتمعه. جملة صادقة، صنعت من أديبٍ مصريٍّ أيقونة أدبية عالمية. وبعد أكثر من نصف قرن على جملته تلك، لا تزال المفارقة قائمة. فالجذور التي نهل منها، والتي أوصلته إلى ما صار إليه، تتقطع تدريجيًّا، بينما المؤسسة الرسمية القائمة على حمايتها، تحاول جاهدةً للتواصل مع أبناء شعبها، فضلا عن التواصل مع العالم خارج الحدود.
طوال عقود، ظلت مؤسسة “الثقافة الجماهيرية”، والتي صار اسمها فيما بعد “الهيئة العامة لقصور الثقافة”، رافدًا رئيسيًّا للمئات من المبدعين والمثقفين في أقاليم مصر، ينهلون من معارفها، ويتوجهون إليها لنشر إبداعاتهم، حتى صار الكثير منهم رموزا ثقافية يشار إليها بالبنان، وحققوا المجد والشهرة والأوسمة الإبداعية الرسمية والشعبية.
لكن هل تراها تسير القافلة كما ينبغي؟ أم أن ثمة ما يعطل مسيرتها؟ “الكتاب” تطرح هذا السؤال، وتبحث فيما تبقى من مسمَّى “الثقافة الجماهيرية”، وفي دور الهيئة العامة لقصور الثقافة في تفعيل اسمها القديم، وتوصيل الثقافة للجمهور في الأقاليم، وشحن الخدمات الثقافية إلى مستحقيها، واكتشاف المواهب في كافة المجالات الإبداعية.
الميزانية لا تكفي
الكاتب والروائي، يوسف القعيد، يتحدث متفائلا بأن “الثقافة الجماهيرية” لا تزال فعالة، لكن علينا “أن نساعدهم فى حل مشاكلهم”، بنص تعبيره. وأول هذه المساعدة يأتي عبر زيادة مخصصاتها المالية، فـ”مشكلة الثقافة الجماهيرية تكمن فى ضعف الميزانية المخصصة للأنشطة، حيث يذهب 85% من إجمالي ميزانيتها إلى رواتب العاملين، بينما يتبقى 15% فقط للأنشطة، وهو ما لا يكفي احتياجات المتلقي من خدمات ثقافية”.
ثروت عكاشة نموذجا
الدكتور أحمد مجاهد، رئيس قسم الدراما والنقد المسرحي بكلية الاداب جامعة عين شمس، ورئيس هيئة قصور الثقافة السابق، يرسم معادلة واضحة بأن تفعيل هيئة قصور الثقافة هو البوابة الرئيسية لتحقيق نهضة حقيقية للثقافة على مستوي البلاد، باعتبارها المدخل الوحيد الموثوق إلى القرى والنجوع في كافة محافظات مصر.
الوزير الراحل ثروت عكاشة، كما يضيف مجاهد، صنع نهضة فى الثقافة الجماهيرية، وبدأها بسبعة قصور للثقافة، وأسند إدارتهم إلى فنانين ومثقفين ذوي رؤية وطنية، واستطاع أن يصنع بهم نهضة ثقافية.
يدعو مجاهد إلى العودة لـ”نموذج عكاشة” في إدارة الوزارة، بحيث يتم اختيار موقع ثقافي واحد في كل محافظة، وإسناد إدارتهم إلى مثقفين واعين، ودعمهم بشكل كافٍ، لتفعيل دور هذه المراكز طوال العام، حتى تحتذي بهم باقي المواقع الثقافية.
كيف يتم تمويل هذه الأنشطة إذن دون تحميل ميزانية الدولة المزيد من الأموال؟، يجيب مجاهد بأن الحل في الاتجاه إلى السلع الثقافية أو المنتجات الثقافية، كما يحدث في الكثير من دول العالم، مثل إسبانيا، التى يتزايد دخلها من الصناعات الثقافية. موضحًا: لدينا فى قصور الثقافة كل أنواع الحرف اليدوية، ولكن الإشكالية أنه لا يوجد قانون يسمح للهيئة بتسويق المنتجات، مما يؤدي في النهاية لاختفاء تلك الحرف، رغم أنها تمثل جزءا مهما من الهوية المصرية.
دعمًا لاقتراحه هذا، يدعو مجاهد للاهتمام بالصناع المهرة وتطويرهم وتوسيع قاعده العمل، وعمل أسرة منتجة ومصدرة، بحيث يتم تخصيص جزء من تلك العوائد لتمويل أنشطة الهيئة العامة لقصور الثقافة.
ويشير مجاهد إلى أهمية التعاون مع مؤسسات المجتمع المدني في دعم الأنشطة الثقافية والفنية لدى قصور الثقافة. موضحًا أن الكثير منها تنظم ندوات فنية وثقافية، وتنتج عروضا فنية مسرحية وسينمائية، وغيرها، ولا مانع في وضع خطة مشتركة لتتكامل هذه الأنشطة، وأن تستضيف قصور الثقافة تلك العروض المستقلة، وبالتالي تجتذب أكبر عدد من المهتمين بالفن والأنشطة الثقافية، وتعود فعالة ونشطة وبدون نفقات مالية.
“أستطيع أن أقول إن هيئة قصور الثقافة من أفضل الأماكن فى مصر التى تضم كوادر فنية وثقافية يمكن الاعتماد عليها بالفعل”، يقول مجاهد، مضيفا: لكن لدينا إشكالية في كثرة عدد المشتغلين في قصور الثقافة، وهو ما يمكن علاجه عبر طريقين، أولهما: اختيار كوادر وتصعيدها للمناصب القيادية، والثاني تدريب العاملين وتأهيلهم لكى يواكبوا التطور. وأتمنى أن يتحقق ذلك كله فى عهد الدكتورة إيناس عبد الدايم، وزيرة الثقافة، وهي بالطبع تعرف هذا وتستطيع تطويره، بنص تعبير مجاهد.
اهتمام الرئيس
الشاعر والباحث مسعود شومان، والذي كان قد ترأس هيئة قصور الثقافة، يشدد على أن الهيئة لديها طاقات هائلة من العاملين والمؤمنين بدورها، فضلا عن أنها منذ إنشائها معنية بكل أنواع الفنون، خاصة التراث الشعبي ، وتنشغل بالناس وما يهمهم على المستوي الجغرافي.
شومان يشدد علي أهمية إعادة الثقة إلى العاملين بهئية الثقافة الجماهيرية، خصوصا مع دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي، إلى الاهتمام بالثقافة الجماهيرية وتأكيده على الدور الذى يمكن أن تلعبه في إعادة تشكيل الوعي عند المواطنين. وهو “ما يعنى إنه يمنحها فرصة لتؤدى رسالتها بشكل قوى وفعال خلال الفترة المقبلة، عبر تجديد الأنشطة واستخدام المثقفين المعنيين والمؤمنين بدورها المهم”، حسب قول شومان.
يشير شومان إلى أنه من المهم اختيار قيادات للثقافة الجماهيرية من أبناء الوزارة الذين يمتلكون مهارات الإدارة. مؤكدا أن الهيئة تقدم الكثير لمواجهة الفكر المتطرف، والذى يكلف جميع الوزارات والقطاعات أموالًا طائلة.