كتبت– غادة قدري
واحد من أعظم أدباء ومثقفي إفريقيا عموما، والسنغال تحديدا، حقق شهرة عالمية بروايتين فقط، لتأخذه السياسة بعيدا عن الأدب لمدة نصف قرن، ليفاجئ الجميع بعودته للكتابة مرة أخرى بعدما تجاوز عمره التسعين عاما.
وإذا كان مهما أن نتحدث عن أدباء ومثقفي إفريقيا، والسنغال على وجه الخصوص، باعتبارها ضيف شرف معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ51، فلا بد من الإشارة إلى الشيخ حميدو كان.
فإلى جانب أهمية سنجور كأديب يعرفه معظمنا، الذي كان أيضا أول رئيس لجمهورية السنغال، هناك أدباء سنغاليون آخرون ساهموا في تشكيل العمق الثقافي الغني والمتنوع للسنغال، مثل بيراقو ديوب وحمادو محمود والشيخ حميدو كان، الذي حظى بشعبية كبيرة في فرنسا.
ورغم أن روايات حميدو كان تناولت الصراع بين الهوية الإسلامية والانفتاح على الحداثة الفرنسية، فهو غير معروف بشكل جيد على مستوى الوطن العربي والدول الأنجلوفونية كذلك، ولا نعرف كثيرا عن سيرة هذا الروائي السنغالي، غير أن روايتيه الوحيدتين، واللتين ترجمتا إلى العربية على استحياء، وهما “المغامرة الغامضة” الصادرة عام 1961 و”حراس المعبد” عام 1995، مسجلتان كأهم الأعمال الأدبية السنغالية على الإطلاق.
وكان الشيخ حميدو كان، سياسيا بارزا مثل كثيرين من كتاب السنغال، الذين جمعوا بين الموهبة الأدبية والعمل السياسي، لكنه لسوء الحظ انشغل لأكثر من خمسة عقود بالسياسة، وتوقف عن الكتابة معتمدا على النجاح الهائل لروايته الأولى “المغامرة الغامضة”، حتى عاد بمفاجأة العام الماضي حين صرّح في حوار أجرته معه صحيفة “ليموند” الفرنسية بأنه قد تجاوز التسعين ويستعد لإصدار عمل ثالث بعد تقاعده من العمل.
ولد الشيخ حميدو كان 3 أبريل عام 1928 في السنغال، واشتهر بروايته “المغامرة الغامضة” الصادرة عام 1961، وهي رواية سيرة ذاتية، التي فازت بالجائزة الأدبية الكبرى لأفريقيا السوداء في عام 1962.
تلقى الشيخ حميدو كان تعليمًا إسلامًيا تقليديًا، مثل معظم الشباب، قبل مغادرته السنغال متوجها إلى باريس لدراسة القانون في جامعة السوربون، وحصل على شهادات في القانون والفلسفة من المدرسة الوطنية الفرنسية في فرنسا.
وبعد عودته إلى وطنه في عام 1959، شغل منصب مفوض التخطيط في الحكومة، وحاكم منطقة تيس ووزير التخطيط والتعاون، وكان أيضًا مسؤولًا في اليونيسف في لاجوس ونيجيريا، وفي أبيدجان وساحل العاج.
وأجمع كثير من النقاد في أوروبا على أن روايته “المغامرة الغامضة” هي في تقنياتها أقرب لرواية السيرة الذاتية، لأن الحياة التي عاشها الشيخ حميدو والبيئة والمكان الذي أخذ منه التجارب، التي مر بها، جعلته عاجزا عن نسيان كل ذلك ولا يأخذ به.
فرواية “المغامرة الغامضة” فيها نفس الحكاية الشعبية الشفاهية، وفيها الشعرية الخفية، وتقنية الأحاجي والأساطير القديمة، تكشف تجربة المهاجرين وتداعيات الاستعمار، وسؤال الهوية، واعتبرها النقاد عملا أدبيا رائعا يصّور العلاقة المضطربة بين إفريقيا الإسلامية والغرب.
وتروي الرواية قصة شاب وقع في حيرة بين العقيدة الإسلامية التقليدية لأسلافه، وثقافة الغرب المادية، التي أصبح غنيًا مفتونًا بها، وتميزت الرواية بالقوة والفردية والوضوح، الذي طرح به القيم المتعارضة، في قصة شبيهة لمسار حياته، إذ تعلم حميدو في السنغال وسعى وواجه الإذلال للحصول على منحة للتعليم العالي، رغم أنه لم يكن مسموحا له بالطموح والترقي، ويحلم في نفس الوقت بدراسة الفلسفة ويتمنى الذهب إلى السوربون، لكنه لم يستطع تحمل تكاليف الذهاب إلى فرنسا، لذلك كتب إلى حاكم السنغال، الذي كان لأول مرة أسودًا من غرب الهند، للحصول على منحة دراسية، وأعطاها له، وقبل سفره انضم إلى فصل تحضيري في مدرسة لويسلو جراند، ثم أخيرا درس الفلسفة والقانون في جامعة السوربون، وهناك تأكد من الصفات الأساسية للحضارة الغربية، التي كانت بعيدة عن الجانب المظلم للاستعمار، لدرجة أنه شكك في هذه الصفات بسبب السلوك الوحشي للمستوطنين في السنغال، وتغذى إيمانه المسلم أيضًا بالمناقشات الفلسفية في ذلك الوقت بالوجودية لجانب ولسارتر والفكر المسيحي لبولريكو
حياة الشيخ حميدو كانت تشبه حياة سامبا ديالو، البطل الخيالي في رواية “المغامرة الغامضة”، فسامبا أيضًا تلميذ متدين في مدرسة قرآنية في السنغال، يرسله والده إلى باريس لدراسة الفلسفة، فينشأ الصراع النفسي بداخله بين معتقداته التقليدية والعالم الغربي، وسرعان ما يجد نفسه ممزوجًا بين العلمانية المادية وعزل الحضارة الفرنسية والتأثيرات الروحية الأعمق لوطنه، على حد تعبير سامبا بطل الرواية: “لقد أصبحت الاثنتين”.
يقول النقاد، إن رواية “المغامرة الغامضة” هي العمل المرجعي لأولئك الذين يواصلون التشكيك في الهويات الإفريقية والسلفيين المنحدرين من أصل إفريقي، الذين شتتهم “اللقاء” مع الغرب.
ومن المنتظر الإعلان قريبا عن رواية حميدو كان ليعود إلى الأضواء مرة أخرى، لكنه مصرّ على عدم الظهور كثيرا، ويقول للصحافة، إنه يفضّل الآن الانسحاب من الحياة العامة، وتكريس حياته للصلاة والكتابة و”التعليم الأخلاقي” لأحفاده.